خطب الجمعة

الأمم المتحدة

خطبة الجمعة يوم 29/4/1427 الموافق 26/5/2006

1ـ الحديث عن هذه الهيئة الظالمة يأتي اعتباراً بقول ربنا جل جلاله {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} وقوله تعالى {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} ولأن شرها قد تعدى إلى المسلمين في كل مكان، وصارت أداة بأيدي اليهود والصليبيين لإذلال المسلمين والإساءة إليهم والاعتداء على حقوقهم، ثم إن كثيراً من ضعاف العقول يؤمِّلون فيها خيراً وينتظرون منها براً وقسطاً، ولنتأمل بعض الحقائق عن تلك الهيئة المشئومة.

2ـ جاء في ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي تلخص أبرز مبادئها وأهدافها “نحن شعوب الأمم المتحدة قد قطعنا على أنفسنا عهداً أن نجنِّب الأجيال القادمة ويلات الحرب، وأن نعمل على إيجاد تعاون اقتصادي واجتماعي بين دول العالم، بأسلوب يرتفع بمستويات الحياة الكريمة للجميع، ويحفظ السلم للجميع، ويفضّ المنازعات بالوسائل السلمية”

3ـ والسؤال الذي يطرح نفسه: أين هي الأمم المتحدة من هذا العهد الذي قطعته على نفسها؟ وأين الدول الكبرى التي شكَّلت هذه المنظمة؛ لتقود بها العالم بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، التي كبَّدت البشرية أكثر من عشرين مليوناً من القتلى؟ إنه بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية، وتحديداً من عام 1945م إلى 1989م نشبت 138حرباً نتج عنها خسائر بشرية قدرت بنحو 23 مليون نسمة، واستهلكت في الفترة من سنة 1970م وحتى 1989م أسلحة تقليدية قدرت بنحو 388 مليار دولار، والأمم المتحدة تقف عاجزة أحياناً ومتعاجزة أحياناً أخرى في مواجهة الخراب الدولي، الذي استخدم فيه الفيتو نحو 79 مرة في مجلس الأمن

4ـ ثم أين العهد الذي قطعته على نفسها بأن تعمل على إيجاد تعاون اقتصادي واجتماعي بين دول العالم؟ إن الأمم الضعيفة تشكل أربعة أخماس سكان الأرض تقريباً، ولكنها تستهلك خمس الاستهلاك العالمي تقريباً، أما خمس سكان العالم من دول الشمال، فإنه يحوز أربعة أخماس الإنتاج والاستهلاك العالمي!

5ـ إن هناك حقيقة كبيرة أبرزتها الأعوام الخمسون الماضية من عمر المنظمة الدولية، وهي أن هناك (عالم حر) يتحكم ويستعبد عالماً (غيره)، وهناك (أمم متحدة) تتحكم في مصائر أمم (غير متحدة)!  إن العالم الحر يتحد، في صيغ كثيرة من صيغ الاتحاد السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، لأن الاتحاد يزيده قوة إلى قوته، بينما على العالم غير الحر أن يظل في تفرُّق واختلاف وتنازع حتى يظل ضعيفاً، بل ليزداد ضعفاً على مرّ الأيام.. العالم الحر يتفرغ للتقدم والبناء والعمران ورفاهية شعوبه، بينما على العالم غير الحر أن ينهمك في حل المشكلات والأزمات والعقبات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو الحدودية التي تلقى إليه أو يلقاها، إن على العالم الحر أن ينعم بالحرية والديمقراطية، بينما على العالم غير الحر أن يتعثر دائماً في شباك الديكتاتورية والقمع والتسلط من الأنظمة المستعبدة عادة للعالم الحر، وعلى دول العالم غير الحر أن تتنازل دائماً وعن رضاً عن جُل ثرواتها ومقدراتها إن وجدت مقابل ثمن بخس دولارات معدودة.

6ـ نظمت العلاقة داخل تلك الهيئة الظالمة بين أطراف رأس المال الدولي المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما تفسره لنا حكاية حق النقض (الفيتو) التي تتميز بها حكومات الاحتكارات الدولية الرئيسية أما الدول الأخرى أو الحكومات الأخرى في الأمم غير المتحدة، فهي محكومة بعلاقات دولية ظالمة ومحكمة، حيث لا تستطيع تغيير أوضاعها البائسة إلا برضاً من المنظومة الدولية الحاكمة المتحكمة، فهناك خطوط ممنوع عليها تجاوزها، وإلا وقعت تحت طائلة أقسى العقوبات، خطوط سياسية واقتصادية وجغرافية وتقنية بل..وثقافية، خطوط تتحكم في جميع مكونات حياتها، ومع هذا أعطوها حق العضوية في هيئة (الأمم المتحدة)؛ في حين أن هذه العضوية مجرد (هيئة) لأمم هي في حقيقتها أمم مستذلة وليست مستقلة لأنها غير متحدة، والمشكلة الكبرى أن الأغلبية العظمى من الأمم (غير المتحدة) لا يشكلها إلا العالم النامي، الذي يضم في عضويته شبه الدائمة أقطار العالم الإسلامي! والذين يقع العرب منهم موقع القلب في الجسد في أدق مواضع العالم حساسية، في حوض البحر الأبيض المتوسط

7ـ إن الدول الخمس الكبار التي تشكل العضوية الدائمة في تلك الهيئة الظالمة ليس فيها دولة مسلمة واحدة، أو دولة تريد خيراً للمسلمين، فالصين وروسيا ملحدتان، وإنجلترا وفرنسا صليبيتان استعماريتان، والولايات المتحدة قد اجتمع فيها من الشر ما تفرق في غيرها من كبر وعتو وظلم وفساد وحب للاعتداء وتعلُّق بديانة باطلة وعقيدة محرفة، وإذا كان الواقع هو أفصح الأدلة في إظهار الحقائق، فإن واقع الإجماع الأُممي بقيادة تلك الدول على إضعاف العالم الإسلامي يبدو الحقيقة الأبرز مثولاً والأكثر بروزاً في واقعنا المعاصر، وإلا فبالله كيف نفسر بقاء العالم الإسلامي المكون من أكثر من ثمانين دولة (جُلها أعضاء في الأمم المتحدة) محروماً تحت مظلتها من أي وزن أو ثقل عالمي مؤثر: سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً..أو حتى إعلامياً؟! هذا العالم الذي يضم أكثر من ربع سكان الأرض، ويتحكم في أغنى وأهم وأخطر مناطق الدنيا، والذي يشغل مساحات واسعة تزيد على أربعين مليون كيلو متر مربع، ممثلاً بذلك أكثر من ربع اليابسة، هذا العالم المؤهل للسيطرة على أهم مراكز النشاط والاتصال بين القارات الثلاث المهمة: آسيا وأوروبا وإفريقيا ؛ لإشرافه على طرق الملاحة المهمة فيها، ومع ذلك فإن هذه الدول الثمانين (من ضمن 180 دولة عضواً في الأمم المتحدة) لا تمثل مجتمعة في عالم اليوم وهي تزيد بسكانها على المليار نسمة القوة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو حتى الخامسة بل كلها في عداد ما يسمى (العالم الثالث) أو (العالم النامي) وهو اصطلاح مهذب يقصد به أصلاً: (العالم المتخلف) فإن قال قائل: هذا الواقع الذي تتحدث عنه صحيح، ولكن مسؤوليته لا تقع على دول التآمر الخارجي فحسب، بل على التخاذل والتخلف الداخلي في جلّ بلاد المسلمين كذلك، قلنا : نعم، ولكن: من الذي أنشأ وطور وحافظ على تلك الأوضاع الداخلية الشائنة والضامنة لمصالح قوى الاستعباد الكبرى؟ من الذي زرع الوهن وغرس التبعية وجند الأتباع وبث الفرقة عبر سنين من الاستعمار العسكري المباشر، وسنين أخرى من الانتداب ثم الوصاية ثم الحماية، ثم أخيراً الشرعية الدولية والأمم المتحدة؟! صحيح، ما أصدق قول الله {َإنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواً مُّبِيناً}

8ـ إن سجل هذه الهيئة الظالمة في إلحاق الضرر بالأمم جميعاً ـ سوى الأمم القوية ـ حافل بالإجرام، ومن ذلك:

  • بعد شهرين فقط من توقيع ميثاقها، وبالتحديد في 6، 9/ أغسطس 1945 قامت الولايات المتحدة بإلقاء قنبلتين نوويتين على اليابان!!
  • شكلت بعد تلك المأساة (لجنة الطاقة النووية) فما هي حصيلة عملها؟ تمليك السلاح النووي الدول الكبرى، بل غيرها كالهند وجنوب إفريقيا وإسرائيل، أما الدول المسلمة فويل لها إن فكرت فضلاً عن أن تسعى أو تدبر!!
  • كانت عصبة الأمم ومن بعدها وريثتها هيئة الأمم هي المنشئة الحقيقية للوطن القومي لليهود في فلسطين، وذلك بإخضاعها للانتداب البريطاني، لكي يُجهّزها موطناً دائماً لعصابات الصهاينة، وكذلك تبنت عصبة الأمم وعد (بلفور)، وحولته من وعد نظري فردي إلى سياسة عملية جماعية، أسبغت عليها مقررات العصبة (شرعية دولية)، ثم كانت النقلة إلى حالة الدولة، وتحقق ذلك عندما اقترحت لجنة تابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة في إبريل سنة 1947م تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، إحداهما يهودية والأخرى فلسطينية، مع إبقاء القدس تحت نظام دولي خاص، وهو ما وافقت عليه على الفور الوكالة اليهودية، التي كانت بمثابة دولة لليهود قبل مرحلة الدولة، أما عرب فلسطين وباقي الدول العربية فقد رفضوا الاقتراح، ولكن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرته مع ذلك في 29 نوفمبر عام 1947م، وبهذا أعطت تلك الجمعية لنفسها لأول مرة حق تقرير مستقبل شعب ومصير إقليم دون استفتاء ذلك الشعب أو الرجوع إليه
  • صدرت عن الأمم المتحدة قرارات كانت بمثابة حبر على ورق، ومنها قرار صدر عام 1975 يدين الصهيونية عن الجمعية العامة يدين (الصهيونية) ويعدها نوعاً من العنصرية، وقد وقفت خلف القرار الدول العربية والإسلامية والمتعاطفة معها، ولكن وكما هو متوقع رفضت الولايات المتحدة القرار، وهددت بقطع الأموال عن مؤسسات الأمم المتحدة إذا لم تلغه، ومن القرارات المرشحة للحاق بقرار إدانة الصهيونية: القرار (194) (خاصة الفقرات الضامنة لحق اللاجئين في العودة، والقرار (237) الخاص بعودة النازحين، والقرارات المراعية لوضع القدس الخاص، والقرارات التي تدين الاستيطان، فماذا بقي؟!! إنه لم يبق إلا الخنوع (لشريعة) الولايات المتحدة بعد طول الخضوع لـ (شرعية) الأمم المتحدة!
  • موقف الأمم المتحدة من قضية المسلمين في البوسنة والهرسك، لقد كانت الأمم المتحدة وراء قرار حظر تصدير السلاح إلى جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، ذلك القرار الذي لم يطبق في الواقع إلا على جمهورية البوسنة والهرسك، التي كانت تتعرض وحدها لحرب الإبادة والتدمير على مدى ثلاث سنوات، أما صربيا: فقد ورثت الترسانة العسكرية الكبيرة للجيش اليوغسلافي السابق، وأما كرواتيا فقد أظهرت أحداث سقوط (كرايينا) مؤخراً أنها لم تتأثر أبداً بالحظر الصوري عليها، فالحظر كان فعالاً ومحكماً فقط على البوسنيين المسلمين بأمر الأمم المتحدة، وظل أمينها يردد بمناسبة وغير مناسبة: أن رفع الحظر عن المسلمين لن يحل المشكلة، بل سيطيل أمد الحرب!! فعبّر بذلك عن رغبة منظمته في تصفية الوجود الإسلامي في أقصر وقت ممكن، وتعللت الأمم المتحدة في عدم تدخلها الجاد لوقف الحرب بأنها حرب أهلية، متنكرة للحقيقة الواضحة التي تتمثل في قيام دولة ظالمة بالاعتداء على دولة أخرى مجاورة ومستقلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى