البخل
1/ للبخل مراتب: فيقال: رجل بخيل، ثم مُسُكٌ – إذا كان شديد الإمساك لماله – ثمَّ لَحِزٌ: إذا كان ضيِّقَ النفسِ شديدَ البخل، ثمَّ شحيح: إذا كان مع شدَّة بخله حريصًا، ثمَّ فاحشٌ: إذا كان مُتشدِّدًا في بخله، ثمَّ حِلِّزٌ (على وزنِ فِعلِل): إذا كان في نهاية البخل (فقه اللغة للثعالبي/161)
وأسوأ مستويات البخل: البخل بالشيء الذي لا يملكه البخيل، أي إنّه لا يمتنع عن إعطاء ماله إلى الآخرين وحسب، بل إنّه لا يرغب في أن يعطِي شخصٌ شيئًا لشخص آخر! وهو الذي عبر عنه ربي سبحانه: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي؛ إذن لأمسكتم خشية الإنفاق} وهو بخل رؤوس الدول الكبرى، والرأسماليين سرّاق الشعوب، مجيعي البشر!
2/ ولو استطاع من بخله، أن يمشي على رجلٍ واحدة بدلًا من الاثنتين، أو أن يغمض عينًا ويبصر بعينٍ؛ شحًّا على نفسه، حتى وصف ابن الرومي أحدهم أنه لو استطاع أن يتنفس من فتحة واحدة من فتحتي أنفه، وسد الأخرى، لفعل:
يقتّر عيسى على نفسه. وليس بباقٍ ولا خالدِ
فلو يستطيع لتقتيره. تَنفَّس من منخرٍ واحدِ
** وهو يتفنن في التقتير، والبخل بشكل عجيب: يحكون أن بخيلًا اشترى لحمًا وطبخه ثم أكله كله وحده، ولم يبق إلا عظمة، وعيون أولاده ترمقه، فقال: ما أعطي أحدًا منكم هذه العظمة حتى يحسن وصف كيف يأكلها؛ بأروع طريقة، وبلا تفريط أو إضاعة!
– فقال الأكبر: أمشمشها وأمصها، حتى لا أدع للذر فيها مقيلًا!
– قال: لستَ بصاحبها!
– فقال الأوسط: ألوكها وألحسها، حتى لا يدري أحد لعام هي أم لعامين!
– قال: لست بصاحبها!
– فقال الأصغر: أمصها، ثم أدقها دقًّا، وأسُفها سفًّا.
– قال: أنت صاحبها، زادك الله معرفة وحزمًا.
3/ وإذا كان البخل بالمال هو أشهر أنواع البخل، فإن هناك أنواعًا أخرى من البخلاء عديدين، لا يتكلم أحد في العادة عنهم، ولا يخطرون لهم ببال؛ لذا يجدر أن نحصيها: أ/ البخيل بالتعليم من أسوأ البخلاء، يضن بالكلمة، ويستر المعلومة، ويبخل بالمعرفة على عباد الله تعالى، رغم أننا خلقنا لنتعارف، أي ينقل بعضنا المعرفة لبعض! كما قال ربي سبحانه {لتعارفوا}!
ويقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ؛ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}، قال أهل التفسير: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} بأقوالهم وأفعالهم، {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون، ويسترشد به الجاهلون، فيكتمونه عنهم، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحقِّ، فجمعوا بين البخل بالمال، والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين!
وورد في حديث سيدي عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ مرفوعًا: (من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) صحيح ابن حبان/96!
فبعض الناس ضنين بالعلم، بخيل في التعليم، يريد ثمن ما يقول مقدمًا، أو يقول طرفًا مما يجب أن يقال، ويبخل بالباقي فكأنه لم يقل، وتضيع الفائدة!
ب/ ومن البخلاء: البخيل بالعلم في تطبيقاته الشياكة المعاصرة: وذلك بكتم الدعوة؛ فلا تكون لوجه الله تعالى كما أمر الله، بل لوجه الريال والدولار/ واليورو والباوند/ والشاشة والكاميرا، والمانشيت والمجلس
ج/ ومن البخلاء: البخيل بالمشاعر المُرْضية، فلا يبتسم وجهه، ولا تبش أساريره، دومًا جهم الملامح، غليظ القلب، مظلم الوجه! ومثله البخيل بالكلمة الطيبة، فلا يعرف لسانه: يعطيك العافية/ فتح الله عليك/ أحسنت! بينما فمه مدفع رشاش بالكلمة السمجة المزعجة، أو الجريئة المهينة، ومهما أحسن أمامه محسن، ما قال أحسنت، ولا فتح الله عليك، وربما سخر وانتقص، وتكلف في البحث عن عيب يَحْقر به من أمامه ويهينه، وهو الناقص المعيب، والمطفف اللص! وهو من شر البخلاء!
د/ ومن البخلاء: البخيل بالجاه، والشحيح بالسعي في حوائج الناس، وتيسير أمورهم، مع أنه قرأ غير مرة: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)! (…ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ؛ يعني مسجدَ المدينةِ، شهرًا)، فكفى بذلك حرمانًا لهذا البخيل بجاهه، الضنين بسعيه، الذي على يده قد تقضى حاجات الخلائق، فيهملهم، ويحرم نفسه! وقد قال الشاعر النبيل:
ساعد بجاهك من يغشاك مفتقراً فالجود بالجاه مثل الجود بالمال
فُرضت عليّ زكاةُ ما ملكتْ يدي وزكاة جاهي أن أعين فاشفعا
ه/ ومنهم البخيل الذي يستقضي الحق، وقد ورد في بعض الآثار: (كَفى بالمرءِ منَ الشُّحِّ أن يقولَ: آخذُ حقِّي لا أترُكُ منهُ شيئًا)! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن ينزل الرجل عن بعض دينه للمعسر رحمة به؛ فيقول: (من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر، أو يضع عنه)! وأورد في ذلك حكايتين!
** الأولى عن سيدي كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد رضي الله عنهما دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى: (يا كعب)، قال: لبيك يا رسول الله، قال: (ضع من دينك هذا)، فأومأ إليه – أي الشطر/ النصف – قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: (قم فاقضه). البخاري/ 457!
** وجاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: بأبي وأمي، ابتعت أنا وابني من فلان ثمرة أرضه، فأتيناه نستوضعه والله ما أصبنا من ثمره شيئًا، إلا شيئًا أكلنا في بطوننا، أو نطعمه مسكينًا رجاء البركة، فحلف ألا يفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تألّى ألا يفعل خيرًا، تألى ألا يفعل خيرًا، تألى ألا يفعل خيرًا)، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن شئت الثمر كله، وإن شئت ما وضعوا! فوضع عنهم ما وضعوا! رواه الإمام أحمد
و/ ومن شر البخلاء: البخيل بالنصيحة، فمن الناس لئيم تستشيره فيغشك، وتستنصحه فيكتم عنك نصيحته، بخلًا بما أفاء الله عليه، وضنًّا بخبرته ومعرفته، وصدق من قال بأبي هو وأمي: (المستشارُ مؤتمنٌ) أبو داود، وصدق من قال: (دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه) البخاري، وربما غش هذا البخيل اللئيم من أمامه، فنصحه بما فيه ضرره وأذاه، (من غش فليس مني) رواه مسلم، وربما حفر له حفرة تنكسر فيها رقبته، لؤمًا وسوء طوية! يروي سيدي ابن عباس رضي الله عنهما: (لعنَ اللهُ مَن كَمَّهَ أعمَى عن السَّبيلِ) صحيح الأدب المفرد، وتخيل معي أحدًا يأخذ بيد أعمى، وبدلًا من أن يهديه لطريقه، يضله عنه، ويدفعه نحو حفرة!
ز/ ومن البخلاء: البخيل بالصلاة على سيدي النبي إذا ذُكر! يروي سيدي الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما مرفوعًا (البخيلُ الذي من ذُكِرْتُ عندَه فلم يُصَلِّ عليَّ) الترمذي! وفي صحيح الأدب المفرد مرفوعًا: (رَغِمَ أنفُ امرئٍ ذُكِرتَ عندَه فلم يُصَلِّ عليك، فقلتُ: آمين)!
ح/ ومن البخلاء: البخيل بالسلام: يمر بالصغير والكبير، والأدنى والمساوي، فلا يسلم، ولا يومي أو يتكلم: (…وأبخلُ الناسِ من بَخِلَ بالسَّلامِ) صحيح الترغيب
** وأسوأ منه الذي تلقي عليه السلام فيأنف أن يرد عليك كبرًا، وعلوًا، ووضاعة نفس! يرى نفسه فوق أن يرد، وأكبر من يلتفت، وويله حين يبعث يوم القيامة مثل الذرة، يطؤه الناس الأقدام؛ إذا لا قدر له ولا مقام!
وضع مع ذلك الذين يمنعون الماعون، ومن يضنون بالشهادة عند الاقتضاء، ويبخلون في العمل!
وأضف إليهم من كل قلبك البخلاء في تقدير الناس، الذين يطففون في موازينهم، حين يكون بيدهم أمر التقييم، فيزنون بموازين ليس فيها نصفة ولا إحقاق حق! أو يبخسون الذي لا يعجبهم شكله، أو يستثقلون دمه!