خطب الجمعة

التدخل في حريات الناس

1ـ من التدخل ما يكون دعوة إلى الله ونصحاً في الدين وليس تدخلاً فيما لا يعني، كنهيك الرجل عن منكر يفعله حتى ولو كان ضرره مقتصراً عليه يفعله وحيداً داخل بيته، وهنا يبرز أدعياء التحرر ويقولون هذا تدخل في الحريات الشخصية، وهذا متوقع من أناس لا يفقهون مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن والسنة وأهميتها في دين الله، وللرد عليهم موطن آخر، ويكفينا حديث البخاري – رحمه الله- في القوم الذين استهموا على سفينة

2ـ ومنه ما يكون وجيهاً معتمداً على صلة القرابة فالأب والأم أو الإخوة لهم التدخل في أمور لا يصح أن يتدخل فيها غيرهم؛ فمثلاً الأب الصالح يحق له معرفة أين كان ولده، ومن يصادق، وله عليه الولاية وحق التأديب

3ـ ومن التدخل ما يكون مطلوباً معتمداً على الصلة التربوية بين المعطي والمتلقي، والمربي والمربَى من أمور التربية والتهذيب والتعليم، إلا أن تدخل المربي في بعض الأحوال الشخصية لمن يربيه ضروري في تسديده، وتقويم اعوجاجه، وتفصيل هذا طويل قائم على المصلحة الشرعية، ويتضح في الواقع العملي، وفي الإشارة العابرة ما يغني عن الكَلِم.

4ـ ومما يضبط التدخل أيضاً (درجة الاستفصال) عند السؤال، فلو قابل رجل أخاه المسلم فسأله أتزوجت أم لا؟ فقال: نعم. فقال له: بارك الله لك وبارك عليك؛ لَعُدَّ هذا أمراً حسناً من واجب سؤال المسلم عن أحوال أخيه المسلم، أما لو زاد عن ذلك واستفصل منه عن شيء محرج؛ لَعُدَّ هذا تدخلاً مستهجناً.

5ـ قدوتنا عليه الصلاة والسلام كانت كل استفصالاته في موقعها، تدل المسلم على خير أو تحذره من شر؛ ولو استعرضنا مثلاً حديث جابر في البخاري لما سأله عليه الصلاة والسلام عمن تزوج بها أبكراً أم ثيباً؟ فقال بل ثيب فقال عليه الصلاة والسلام: {فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك} فالسؤال هنا ليس تطفلاً أو مجرد حب استطلاع، حاشا وكلا، وإنما سؤال المعلم الذي يريد من وراء السؤال التوصل إلى نفع المسئول.

  6ـ ولما عرف السلف حدود السؤال والتدخل، ارتقت حياتهم الاجتماعية إلى مستويات لم يعرفها العالم من قبل؛ فهذا سعيد بن المسيب -رحمه الله- لما زوج ابنته الجميلة الفقيهة من تلميذه الفقير ثم سأله كيف وجدت أهلك (سؤال عام) فقال بخير على ما يحب الصديق ويكره العدو، لم يتدخل سعيد – رحمه الله – أكثر من ذلك وإنما قال إن رابك شيء فالعصا، والقصة مشهورة في السير للذهبي وغيره.

7ـ ومن التدخل ما يكون حسناً في الأمور الدنيوية المباحة، كإبداء الخبرات والإشارة بالرأي من غير إلزام من باب تقديم النصيحة.

ولما جهل الناس اليوم حدود السؤال والتدخل، انقسموا قسمين: وقع الأول في الإفراط والثاني في التفريط، قسم يدسون أنوفهم في كل شيء، فجروا على حياتهم وحياة غيرهم شقاء ونكداً.

وقسم وقع في التفريط فلا يسأل عن أحوال إخوانه مطلقاً، فوقعت القطيعة وانقصمت عرى الأخوة.

ونتيجة لفقدان تمييز أواسط الأمور، فقد فَقَدَ السؤال عن الحال والصحة الأهمية اليوم وأصبح أمراً شكلياً لا تأثير له في نفس السائل والمسؤول.

ومن تبلُّد الإحساس وخمود حرارة الإيمان أن ينظر بعض المسلمين اليوم إلى أحوال إخوانهم المستضعفين في الأرض والمنكوبين نظرة اللامبالاة والإهمال الشديد لأن أمرهم لا يعنيهم بزعمهم ما داموا بعيدين وما دامت القارعة لم تحل في دارهم، فالاهتمام هنا والاعتناء من حسن الإسلام، والقاعدة عندنا: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وبالجملة فقد يكون التدخل واجباً مثل التدخل لتغيير المنكر، ويأثم لو لم يتدخل وهو يستطيع. وقد يكون التدخل مستحباً، مثل التدخل لتحسين وضع أخيك في طريقة كلامه مثلاً. وقد يكون التدخل مباحاً، كسؤال إنسان هل سافر أم لا؟

وقد يكون التدخل مكروهاً، مثل سؤال رجل يتحرج في الجواب في أمر خاص به. وقد يكون التدخل محرماً، مثل التجسس على المسلم. فالعلم الشرعي عامل أساسي للتدخل من عدمه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى