خطب الجمعة

التغيير الوزاري

خطبة يوم الجمعة 14/1/1433 الموافق 9/12/2011

1- الأمانة خلق ثابت في النّفس يعفّ به الإنسان عمّا ليس له به حقّ، وإن تهيّأت له ظروف العدوان عليه دون أن يكون عرضة للإدانة عند النّاس، ويؤدّي به ما عليه أو لديه من حقّ لغيره، وإن استطاع أن يهضمه دون أن يكون عرضة للإدانة عند النّاس.

2- والأمانة من أبرز أخلاق الرّسل- عليهم الصّلاة والسّلام-. فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب- في سورة الشّعراء- يخبرنا اللّه- عزّ وجلّ- أنّ كلّ رسول من هؤلاء قد قال لقومه: ((إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)) ورسولنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم قد كان في قومه قبل الرّسالة وبعدها مشهوراً بينهم بأنّه الأمين. وكان النّاس يختارونه لحفظ ودائعهم عنده. ولمّا هاجر صلّى اللّه عليه وسلّم وكلّ عليّ بن أبي طالب بردّ الودائع إلى أصحابها. وجبريل- عليه السّلام- أمين الوحي، وقد وصفه اللّه بذلك في قوله- ((وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ))

3- قد تكاثرت الأحاديث في شأن أداء الأمانة؛ قال عليه الصلاة والسلام {أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك} {والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين ويؤتمن الخائن} كان من دعائه {اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع؛ وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة} وعن أنس رضي الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلا قال {لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له}

4- من معاني الأمانة وضع كل شيء في مكانه الجدير به )اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم( {من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين} وقال عليه الصلاة والسلام لأهل نجران {لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين} فاستشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه، وقال {يا أبا ذر إنك ضعيف؛ وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها}

5- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.

والمعنى أن الدولة المسلمة واجب عليها تعيين جماعة من الموظفين في مختلف المناصب والمراتب، ليقوموا بتصريف شئون الرعية، كل في مجاله، وهي ــ في ذلك الأمر ــ ملزمة بجملة من الضوابط الشرعية وهي على سبيل الإيجاز:

(أ) أن يُراعى في أولئك المعينين لهذه المهام الصفات الأربع التي ذكرها ربنا في القرآن، وهي: القوة، الأمانة، الحفظ، والعلم. قال الله سبحانه وتعالى: ]إن خير من استأجرت القوي الأمين[، وقال على لسان يوسف عليه السلام: ]اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم[، وفي تفسير القوة والأمانة يقول سيد قطب رحمه الله: “قويٌّ على العمل، أمينٌ على المال”. وفي تفسير الحفظ والعلم يقول جار الله الزمخشري رحمه الله: “أمينٌ أحفظ ما تَسْتَحْفِظُنِيه، عالمٌ بوجوه التصرف، وصفاً لنفسه بالأمانة والكفاية، اللتين هما طِلْبةُ الملوك ممن يولُّونه”، وقال الفخر الرازي رحمه الله: “حفيظٌ بجميع مصالح الناس، عليمٌ بجهات حاجاتهم”. وغاية القول أن يكون المُعيّن من قبل الدولة في منصب من المناصب قوياً قادراً على التصرف بما فيه مصلحة الرعية، غير هيّاب ولا متردِّد ولا مستضعف، أميناً على ما استُحْفِظ، لا تحدِّثه نفسه بأكل الحرام واستباحة المال العام، يضع نصب عينيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة يجيء على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقَاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك)).

وفي الوقت نفسه هو حفيظٌ عليمٌ لا يتجشم أمراً لا يدري عواقبه، ولا يحمل الرعية على سياسة تُضرُّ بهم، لضعف في علمه بالشيء، أو قصور في إدراكه، بل يُعِدُّ لكل أمر عدته ويحسب له حسابه.

(ب) أن يكون أهلاً للمنصب الذي شغله والوظيفة التي كُلِّف بها، من جهة صدق لهجته، ووثوق خبره، وعدم طمعه، وحضور بديهته، وعلمه بما يأتي وما يذر، ولا يُكلَّف بالوظيفة من أجل نسبه وحسبه، ولا من أجل ماله وسطوته، وقد أشار إلى هذا المعني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة))؛ قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا وُسِّد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة)).

فلا يُتصوَّر في الدولة المسلمة أن يلي أمر الإعلام والتوجيه صاحب هوى وفكر منحرف يخرج على الناس الأباطيل بالليل والنهار، ولا يُتصوَّر أن يلي إدارة المال من ليس من أهل الإدارة ــ ولو كان موصوفاً بالورع والتقوى ــ، أو يلي أمر الجيش من لم يحمل سلاحاً في حياته كلها، أو يسند أمر القضاء وإقامة العدل لمن كان كثير العداوة والشحناء للناس معروفاً ببطشه وجبروته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ولي رجلاً على عِصابة، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين)).

وهنا كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنقله بطوله، لأنه يوضح هذه المسألة أتم توضيح وأحسنه. قال رحمه الله: “اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكو إليك جَلَدَ الفاجر، وعجز الثقة. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تَعيَّن رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع ــ وإن كان فيه فجور ــ على الرجل الضعيف العاجز ــ وإن كان أميناً ــ. كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيها يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر))، ورُوي: ((بأقوام لا خلاق لهم)). ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم، وقال: ((إن خالداً سيف سله الله على المشركين))، مع أنه أحياناً قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ــ مرة ــ قام فرفع يديه إلى السماء وقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد))، لما أرسله إلى بني جُذَيْمَة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم، ومع هذا كان يُقدِّمه في إمارة الحرب، لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل”.

(ج) أن لا يسعى لشغل المنصب أو الوظيفة ولا يطلبها لنفسه، فمن سعى إليها وحرص عليها وشفّع في ذلك الشفعاء فما ينبغي أن يُعطاها، لأن هذا هو هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم ، كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت أنا ورجلان من بني عمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولَّاك الله، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: ((إنّا ــ والله ــ لا نولِّي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه))، وفي لفظ لأبي داود: ((إن أخْوَنَكم عندنا من طلبه))، فاعتذر أبو موسى وقال: لم أعلم ما جاءا له. فلم يستعن بهما على شيء حتى مات صلى الله عليه وسلم ، وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكِلتَ إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها))، قال ابن حجر رحمه الله: “يستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه، فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك، وأن من حرص على ذلك لا يعان”، ثم قال: “فمن لم يكن له من الله إعانة تورّط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعُقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً”.

وقد يخفى هذا على بعض الناس فيحتج بقول يوسف الصديق عليه السلام: ]اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم[، ويستشهد بما قاله بعض أهل العلم في تفسيرها: بأن فيها دليلاً على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعيناً لذلك.

قلت: سبحان الله! إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على ابني عم أبي موسى سؤال الإمارة والولاية، وأوصى عبد الرحمن بن سمرة بأن لا يحرص عليها أو يسعى إليها، فكيف يسوغ لنا القول بخلاف ذلك؟ خاصة في زماننا هذا الذي كثر فيه الأدعياء، ومن يظهرون الصلاح والتقوى والله يعلم إنهم لكاذبون. هذا وللدكتور يوسف القرضاوي قصيدة يائية يصف فيها ما آل إليه الحال من سوء مآل فليراجعها من شاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى