الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدَّره تقديرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان بعباده خبيراً بصيرا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وأمينُه على وحيه وخيرتُه من خلقه، أرسله ربه بالهدى ودين الحق هادياً ومبشراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد.
ففي أيامنا هذه تروج على الناس شعارات، وتنتشر بينهم كلمات، وتسري بينهم أقاويل سريان النار في الهشيم، وواجبٌ على أهل العلم أن يبيِّنوا للناس جلية الأمر وحقيقته؛ لئلا يتكلم مؤمن بما لا يحل له، أو يروِّج ما لا علم له به، وقد قال جل جلاله {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} وقال سبحانه {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع قليل ولهم عذاب أليم} ومن تلك المصطلحات التي ترددت بقوة خلال هذه الفترة قول بعضهم: لا للدولة الدينية!! أو: لا نريد دولة دينية!! أو: الدولة الدينية قرينة الاستبداد!! فما هي الدولة الدينية؟ وأين نبتت؟ وما تاريخها؟ وهل الدولة الدينية مرادفة للدولة الإسلامية؟ وهل بينهما أوجه شبه؟
إن مصيبة كثير من الناس أنهم يعمدون إلى مصطلحات نشأت في غير بيئة المسلمين، فيعملون على تنزيلها على واقع المسلمين، ويريدون إن يحاكموا الإسلام إلى أفعال غير أهله، فيقيسون تاريخ المسجد على الكنيسة، ويقيسون علماء الملة على الأحبار والرهبان، ويحمِّلون تعاليم الدين الصحيح آثار التدين الفاسد، وذلك دون أدنى حرج أو تورع.
1/ الدولة الدينية أو الثيُوقراطية بضم الياء هي التي تعني الحكم الديني، وكلمة ثيوقراطية تتكون من كلمتين مدمجتين في اللغة اليونانية هما ثيو وتعني الدين وقراط وتعني الحكم، وعليه فان الثيوقراطية هي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الإله حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة أو رجال الدين هم الذين يعتبرون موجهين من قبل الإله أو يمتثلون لتعاليم سماوية.
2/ هذه الدولة الدينية قامت في أوروبا في العصور الوسطى المظلمة، وقد تسلطت على الناس في عقولهم وضمائرهم وقلوبهم، وأحدثت من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فقتلت من العلماء والمخترعين وأفنت من أصحاب العقول الجم الغفير، لأنها قامت على أساس دين فاسد محرف ليس هو بالدين الذي أنزله الله على عبده ونبيه عيسى صلى الله عليه وسلم.
وقد أوجد هذا التصور للدولة الدينية ردة فعل عنيفة عند مفكري الأمم الغربية وفلاسفتهم جرَّهم إلى اتخاذ موقف مناقض أشد المناقضة، فلم يكفهم أن ينفوا المعاني الباطلة المتعلقة بذلك المصطلح، بل بالغوا وغالوا ونفوا أن يكون للدين أي تدخل أو تعلق بالدولة، ومن ثم استعاضوا عن ذلك بوضع الإنسان في موضع الدين، فأصبح الإنسان هو من يضع القوانين وهو الذي ينظم الأمور من غير أن يتقيد في ذلك بشيء من خارجه، والدولة التي يحل فيها الإنسان محل الله – تعالى الله عما يقولون ويتصورون ويصفون – هي الدولة المدنية في تصورهم
3/ أمثلة لدول معاصرة تحمل سمات الثيوقراطية: –
أ/ الفاتيكان: اعترف بشكل رسمي بالفاتيكان كمدينة مستقلة بعد عقد اتفاقيات مع الحكومة الإيطالية. ينتخب مجمع الكرادلة (تجمع لرجال الدين الكاثوليك) الأب الذي يكون بعد ذلك رئيسا. ينتخب الأب لفترة تمتد إلى مدى حياته، ويحق للكرادلة فقط انتخابه. يُعيِّن البابا وزير الخارجية المسؤول عن العلاقات الدولية. يخضع القانون هنالك لإملاءات الأب واجتماعات يعقدها رجال الدين.
ب/ جمهورية إيران: توصف حكومة إيران بأنها “جمهورية ثيوقراطية”. يقوم مجلس منتخب نصف عدد أعضاءه بتعيين فقيه إسلامي مدى الحياة في منصب القائد الأعلى. مجلس الخبراء، الذي يعتبر جهة تنفيذية في الحكومة، يحمل مسؤولية تحديد ما إذا كانت التشريعات القانونية مطابقة لرؤيته لشريعة الإسلام بالإضافة إلى مهمته في منع الناخبين الذين لا يرى فيهم الأهلية الكافية للترشح.
ج/اسرائيل: هناك كميّة كبيرة متداخلة من القوانين اليهودية والقوانين المدنية، بالذات لـ فرض الزواج على الطريقة اليهوديّة الأرثوذوكسيّة للمواطنين اليهود، بدلاً عن تطبيق الزواج المدني ولو ان انواع القوانين يتم تحديها باستمرار مما يعيق تنفيذها بشكل مستمر.
4/ فما هي الحدود الفارقة بين الدولة الدينية الإسلامية والمسيحية:
- الدولة الدينية المسيحية: قامت على نظرية التفويض الإلهي؛ بمعنى أن رجال الدين هم المتحدثون باسم الله، وأن كلامهم واجب التنفيذ لأنهم معصومون لا يتطرق إلى كلامهم خطأ ولا عيب، وكأنه وحي من السماء نازل
- الدولة الدينية الإسلامية: الدولة الإسلامية ليست كالمسيحية فعلماء الدين في الإسلام ليسوا وسطاء بين العبد وربه، فضلاً عن أن الدين الإسلامي نفسه ليس به رجال كهنوت، كما أن العلماء أو الحكومة في الإسلام ليسوا أوصياء من الله على خلقه، فمن يدَّعي أن الحكم الإسلامي ثيوقراطي يكون قد ظلم الحقيقة، لأن الحاكم المسلم ينتخب من الشعب، وهو يخطئ ويصيب، ويحاسب ويعزل وليس معصوما. ومهمة الحاكم في الإسلام تكاد تكون وظيفة تنفيذية محضة سواء عن طريق التنفيذ الحرفي للنصوص أو التنفيذ الاجتهادي للأمور المرتبطة بالاجتهاد.
- الثيوقراطية أو ما يسمى بحكومة رجال الدين ليست من الإسلام ولا علاقة له بها، وطالما حاول أعداء الإسلام والمتقوِّلون عليه أن يصموا حكم المسلمين بمثل هذا الشكل من الحكومات، ويقولون: إنه عفا عليها الزمن لأن أوروبا تركتها بعد الثورة الفرنسية، ونرى بعض مدّعي الإسلام وهم منافقون في الواقع يعارضون حكم الإسلام والدستور الإسلامي بحجة أنه يعني حكم المشايخ أو وزارة الأوقاف، وهم بذلك يفضحون جهلهم بالإسلام وغربتهم عنه أولاً، وثانياً يفضحون مقدار عمالتهم الفكرية حيث يريدون تطبيق المفاهيم اليهودية أو المسيحية على الإسلام. إن الإسلام قد جاء لهدم الحكم الديني الممثل في عصمة رجال الدين، ولكن بعض كتاب المسلمين خلطوا بين هذه الحكومة الدينية كما عرفتها أوروبا في القرون الوسطى حتى الثورة الفرنسية وبين نظام الإسلام. فالحكم في الإسلام ليس حكماً (ثيوقراطياً) لكن جهل أنصاف المتعلمين الذين يقيسون الإسلام بالكنيسة في العصور الوسطى، جعلهم يتوهمون أن الحكم الإسلامي ثيوقراطي ويتناقض هذا بشكل كامل مع المبادئ الإسلامية.
4/ من الشبهات التي يطرحها هؤلاء الكارهون لحكم الإسلام أن يقولوا:
- أن الدين شيء مقدس، والسياسة شيء مدنس، وما ينبغي خلط المقدس بالمدنس!! والجواب: إن الإسلام دعوة إصلاحية تريد أن تصلح للناس معاشهم ومعادهم؛ فمن الذي يزعم أن دعوة إصلاحية تبتعد عن ميدان الحكم وتزهد في الإفادة منه لمبادئها؟ أما رأينا الثورة الفرنسية التي قامت على مبادئ ثلاثة: الإخاء والحرية والمساواة، هل زهدت في الحكم؟ هل اكتفت في تنفيذ أغراضها بالدعاية والتبشير؟ والثورة الحمراء التي اندلعت في روسيا وقامت على مبادئ ماركس هل عاشوا بأفكارهم بعيداً عن الدولة والحكم؟ إن الحكومة الإسلامية ذات أهداف ومبادئ؛ قال تعالى {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بمهام رئيس الدولة على هذا الأساس الواضح وكذلك خلفاؤه من بعده…. إن حرمان الإسلام من حقه المقرر في الحكم، واعتباره ديناً معزولاً عن الدولة هو جزء من العداوة التقليدية التي تكنها أوروبا للإسلام وأهله، والنزعة الصليبية هي التي تحبط كل محاولة لإحياء التشريعات السماوية التي نص القرآن على ضرورة تطبيقها. فملك إنجلترا يلقب رسمياً بحامي المسيحية، والبند الأول في برنامج حزب المحافظين إقامة حضارة مسيحية، وبعض الأحزاب في أوروبا – في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا – تحمل لقب (الديمقراطي المسيحي) أو (الاشتراكي المسيحي) كما هو الحال في بلجيكا
- إن جرائم قد ارتكبها حكام باسم الإسلام مما يدل على عدم صلاحيته للحكم!! والجواب: إن الحضارة الغربية أفرزت الفاشية والنازية والشيوعية والاشتراكية الديمقراطية، والرأسمالية الديمقراطية، وإذا قلنا إن جرائم الفاشية والنازية لا تحتاج إلى إثبات فإن الاشتراكية الديمقراطية مثلاً، هي أكثر من نفذت مذابح في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، وصحيح أن جرائم فرنسا في الجزائر حدثت في ظل جميع أنواع الطيف السياسي الفرنسي، بمعنى أن الجمهوريين والملكيين، الاشتراكيين والرأسماليين الشيوعيين والثوريين الفرنسيين، كلهم شاركوا في مذابح فرنسا في الجزائر، ولكن الوتيرة كانت ترتفع في حالات الحكم الاشتراكي والشيوعي الفرنسي. ويكفي أن تعرف أن فرنسا عندما أعلنت ضم الجزائر إلى فرنسا واعتبرتها جزءاً لا يتجزأ من فرنسا، فإن الشيوعيين الجزائريين مثلاً حاولوا الانضمام للحزب الشيوعي الفرنسي، فرفض الشيوعيون والفرنسيون ذلك وبرروا عدم قبولهم بأن الجزائريين لم يصلوا بعد إلى مستوى البشر. أما بالنسبة للديمقراطية الرأسمالية، فإنها هي المسؤولة عن إبادة الهنود الحمر بعشرات الملايين، واسترقاق السود بعشرات الملايين، والنهب الرأسمالي للعالم، والاستعمار، وإنشاء دولة إسرائيل ودعمها، رغم كل ظلمها الواضح والمعلن على مرأى ومسمع من العالم لمدة سبعين عاماً حتى الآن، والذي ضرب نغازاكي وهيروشيما بالقنابل الذرية كانت دولة ديمقراطية. وهكذا فإن استخدام مصطلح الدولة الدينية للتخويف من الدولة الإسلامية – لا أقول الإخوانية أو السلفية – هو محاولة من الرأسماليين لاستمرار نهب العالم، لا أكثر ولا أقل.
- من الشبهات التي يعترض بها البعض أن القول بإسلامية الدولة يعني عدم إمكانية سؤال الحاكم أو محاسبته: فيقولون كون الدولة إسلامية أو شرعية أو دينية يمنع من نقد الحكام عند وقوعهم في الخطأ، ويجعلهم في مكانة عالية لا يقدر أحد على حسابهم، إذ كل ما يقولونه فهو تعبير عن الإرادة الإلهية، ونحن نقول لهم: أنتم تتحدثون عن دين غير دين الإسلام، وإلا فأتوا لنا بآية أو حديث يدل على هذا الزعم، أو يمكن أن يستفاد منه هذا الزعم، ثم هذا تاريخ المسلمين شاهد من الذي ادعى هذه المنزلة من حكامهم؟ ومَنْ مِن أهل العلم قال بشيء مثل ذلك؟ وأمامكم سير الخلفاء حيث كانت رعيتهم تنصحهم وتنتقد عليهم ما يرونه خطأ من تصرفاتهم، والأمثلة كثيرة وهي معلومة لكثير من الناس ومعلومة لكم أيضا، بل حتى في أشد المواقف حُلكة كان الناس يراجعون ولاة أمورهم أو يعترضون عليهم، فهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه عندما أراد قتال مانعي الزكاة، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عارضه عمر، وقال: كيف تقاتل الناس … الحديث، فلم يمنعه أبو بكر من ذلك، ولم يقل له – كقول بعض البطالين – نحن في زمن حرب، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، بل بَيَّن له بالدليل صواب موقفه، حتى اقتنع عمر رضي الله عنهما بذلك، وهذا عبد الله بن عمر يختلف مع خالد بن الوليد رضي الله عن الجميع وهو أميره في غزاة غزاها معه، ويمتنع من تنفيذ ما أمر به، لمخالفة خالد باجتهاده للسنة الصحيحة، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر لم يعنف عبد الله على عدم طاعته لخالد، بل قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) مرتين، ولو قدر أن هناك أحدا من الولاة منع من ذلك لعُدَّ عند الناس ظالماً مما يعني أن الثقافة الشعبية لا تقبل مثل هذا الادعاء.
- ومن الشبهات أن الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية يترتب عليها ظلم المخالفين في الدين: وهذا مجرد ادعاء عار عن الدليل كما أن التاريخ والسيرة العملية التي درج عليها المسلمون في تعاملهم مع المقيمين بينهم من أهل الديانات المغايرة لدين الإسلام، تدحض ذلك، أما إذا كانت هناك حالات فردية يقع فيها بعض الناس في ذلك، فلا يسلم من ذلك أحد سواء في معاملته مع هو من أهل دينه أو مع من يختلف معه، وإنما الشأن أن يكون النظام العام هو الذي يشرع ذلك أو يقبله.
- ومن الشبهات: أن يقال أن الدولة الإسلامية أو الدينية تحمل المخالفين على تغيير دينهم: وهذا أيضا ادعاء لا يعضده نصوص شرعية أو واقع تاريخي، والغريب أن هؤلاء الذين أهمهم هذا الأمر، لم يهمهم أمر الأمة كلها، فهم من اجل ألا يحمل المخالفون على تغيير دينهم بزعمهم، يطالبون الأمة كلها بأن تتخلى عن التمسك بدينها في السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات، والرجوع في ذلك كله إلى عقول الناس وخبرتهم، وهذا من أغرب أنواع الظلم إذ بزعم العدل مع المقيمين من غير المسلمين في بلاد المسلمين، يُظلم المسلمون أنفسهم في بلادهم، وهل هناك ظلم أشد من أن يُحمل المسلمون على ترك الكثير من أمور دينهم
- ومن الشبهات: أن يقال إن تعبير الدولة الدينية قد أسيء استخدامه في العصور المظلمة من تاريخ الغرب مع كنيسته، ولا نريد استخدام لفظ مُحمَّل بمثل هذه الدلالات، حتى لا نحمل أوزار أمور لسنا المسئولين عنها، ويقال: إن ما يذكر هنا ليس راجعاً إلى اللفظ نفسه إنما راجع إلى سوء استغلاله، ولو ترك استعمال لفظ صحيح لا يحتمل أموراً خاطئة من أجل أن هناك من استعمله بطريقة خاطئة لم يكد يسلم لنا شيء، وهذا بعكس ما إذا كان الخطأ راجعاً لاحتمال اللفظ نفسه أو لصلاحيته للدلالة على أكثر من معنى بعضها صواب وبعضها خطأ، فهذا الذي يمكن أن يقال فيه ذلك، على أنكم إذ أنكرتم هذا فقد وقعتم فيما تفرون منه، إذ إن لفظ الدولة المدنية لم يسلم من هذا الذي تذكرون، فإن أغلب حديث الناس عن الدولة المدنية أنها الدولة العلمانية، وبالتالي لا يصلح الانتقال إليه حتى لو قلتم لا نريد منه هذا المعنى، ولماذا لم تقولوا بالدولة الدينية وتقولون لا نريد منها المعنى الذي استقر في أذهان الغرب، أليس هذا أولى؟ أو تبحثوا عن مصطلح آخر يحقق ما تأملونه من خير من غير أن يكون حاملا لتلك الدلالات الفاسدة، فقد كان بإمكانكم أن تختاروا مثلا مصطلح الدولة الإسلامية، أو مصطلح الدولة الشرعية أو الدولة الراشدة، أو الصالحة، أو أي مصطلح لا يحمل البذور الفاسدة.
- ومن الشبهات: أن حقوق المواطنة لا يمكن الحفاظ عليها إلا في ظل دولة لا تتخذ من الدين مرجعية لها، أي أن الدولة ينبغي أن تكون علمانية لا دينية وهي الدولة المدنية، أما المواطنة بمعنى الاعتراف لكل قاطن للدولة الإسلامية سواء كان من المسلمين أو كان من غيرهم بأنه مواطن فهذا لا ينازع فيه أحد، وكل واحد من مواطني الدولة الإسلامية له حقوق وعليه واجبات فكل إنسان له حق في العيش الكريم، وله حرمة سكنه وماله وعرضه، وله حق التكسب سواء عن طريق التجارة أو الصناعة أو الزراعة، وله الحق في أن يلقى معاملة عادلة لا ظلم فيها، وله حق التنقل والسكن في أي مكان يشاء، وله الحق في سرية مراسلاته، وله الحق في أن يبقى على دينه ولا يكره على تغييره، وله الحق في العبادة، وله الحق في أن يتناول ما يبيحه له دينه وإن كان محرماً في شريعة الإسلام، وهذه الحقوق التي يُعطاها المواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية لا يُعطاها كثير من المسلمين الصادقين في بلادهم التي يزعم قادتها أن دولتهم دولة مدنية، لكن هناك بعض الأمور التي يختلف فيها غير المسلم عن المسلم وهذا أمر لا غرابة فيه، ما دام إن هذا الاختلاف مقرر بالشرع الذي يؤمن به المسلمون، لكن الذي لا يمكن قبوله أن تختلف بعض أحكامهم انطلاقا من الهوى لا من الشرع، ومن أراد أن لا تختلف بعض أحكامهم المقرر اختلافها بالشرع، فهو شهادة منه على أن الالتزام بالدولة المدنية معناه مخالفة الشرع والخروج على أوامره. وعندنا من النصوص الشرعية ما يحفظ حق هؤلاء بل يصير إيصال الحقوق لهم وعدم الانتقاص منها من الدين الذي ينبغي اتباعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه وحيه وأمره فيمن قتل ذمياً بغير جرم: “مَنْ قَتَلَ نَفْساً مُعَاهَداً لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا” و عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ”، وقد قال المسلمون لعمر رضي الله تعالى عنه: “أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ”، وهذا عمر بعدما طعن وفي هذه الشدة وذلك الموقف العصيب لكن هذا لم يحل بينه وبين الوصاة بأهل الذمة، فقال أوصي الخليفة من بعدي: “.. وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ” ومر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه”، وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: “وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله”
- ومن الشبهات أيضا حيادية الدولة: حيث يرون أن الدولة المدنية دولة حيادية تجاه جميع الأديان في المجتمع، بينما الدولة الإسلامية لا تتمتع بهذا الحياد، نظرا أنها لا ترى دينا حقا سوى الإسلام وما عداه فهو باطل “إن مفهوم الدولة المدنية هو باختصار يعني حيادية الدولة التام تجاه الأديان، وهو ينهل أساساً من مفهوم حرية العقيدة الذي جاء به الإسلام أولاً”. “علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد والمذاهب التي تدين بها مكونات شعبها، بمعنى ألا تكون في قراراتها وسياساتها وخططها وتعييناتها – بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية والثقافية – منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة، وإن كانت عقيدة ومرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين وتمييز ضدهم وإخلال بمبادئ المساواة والعدالة والمواطنة، ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة” والحيادية تجاه الأديان تعني عدم ميل الدولة تجاه دين معين، وأنها تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، فلا تمدح ديناً أو تدعو إليه، ولا تذم ديناً أو تهاجمه، وهذه الحيادية التي يتكلمون عنها غير موجودة في واقع الأمر في الحقيقية في أي بلد من البلدان، وعندنا فرنسا التي تعد على رأس الدول المدنية كيف منعت النساء المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب، وهذه دولة الدنمارك وهي دولة مدنية كيف سخر رساموها من خير البرية صلى الله عليه وسلم، ثم هي من منظور آخر تناقض الإسلام مناقضة تامة، حيث سوت بينه وبين الأديان المحرفة كالنصرانية واليهودية وغيرها، ومن أغرب الغرائب أن يعمد هؤلاء الكتاب إلى المطالبة بتهميش عقيدة الأغلبية حرصا على عدم تهميش عقيدة الآخرين، أي عقل منكوس هذا الذي يقرر مثل هذا الكلام، ثم هذه الحيادية المزعومة ليست حيادية لأنها فقط أقصت الدين، وانحازت إلى العقل والخبرة والتجارب، والإسلام وإن كان لا ينكر دور العقل الذي هو مناط التكليف وكذلك دور الخيرة والتجارب لكن ذلك لا يمكن أن يكون عوضاً عن الإسلام نفسه، أو يعارض به، وأما أن الإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه فهذا حق، لكن هذا لا يعني أبدا حيادية الدولة الإسلامية تجاه الإسلام، فإن من أهم واجبات ولي الأمر المسلم التي نص عليها أهل العلم باتفاق هي إقامة دين الله تعالى وتحكيم الشريعة، وسياسة الدنيا بالدين
الخطبة الثانية
قد كان في الجمعة التي مضت حديث عن الوثيقة الدستورية الكارثية التي وقع عليها بالأحرف الأولى فيما مضى من الأيام؛ وقد ردَّ بعض فضلاء المجلس العسكري في أدب جمٍّ على ما ورد من ملاحظات في خطبة الجمعة، وكان محط دفاعه يدور حول أمرين اثنين:
أولهما أن هذا الذي وقع عليه وثيقة وليست دستورا، ولذلك لم يذكر فيها الدين ولا اللغة ولا مصدر التشريع؛ لأن ذلك كله محله الدستور وليس الوثيقة الدستورية، وأقول: سبحان الله!! وثيقة اتسعت لذكر حقوق الطفل والتمييز الإيجابي للمرأة والمصادقة على الاتفاقيات الدولية والحديث عن الإثنيات والأعراف، اتسعت لهذا كله ثم ضاقت عن كلمة الإسلام وكلمة اللغة العربية، وكلمة الشريعة الإسلامية. {تلك إذن قسمة ضيزى}
ثانيهما أن أعضاء المجلس العسكري مسلمون وكذلك من وقعوا معهم من الحرية والتغيير، وهذا اعتراض في غير محله؛ إذ إننا والحمد لله لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب أتاه ما لم يكن مستحلاً له، ونحن نعامل الناس بظواهرهم ولا ننقب عما في صدورهم؛ كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكم على الأفعال لا على الفاعلين {فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}
ومن الاعتراضات التي ساقها بعض كتاب الأعمدة ممن جرت عادتهم بتسويد الصحف بما لا طائل تحته اعتراضه على قول البعض بأن الوثيقة قد أضاعت الدين؛ حيث قال: وهل يمكن لأحد أن يضيع الدين؟ وهو سؤال فيه من الغفلة شيء كثير، ويكفينا قول ربنا جل جلاله {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} وقول أبي بكر رضي الله عنه لما أراد قتال مانعي الزكاة (أينقص الدين وأنا حي)؟