خطب الجمعة

الشرعية الدولية

خطبة يوم الجمعة 6/5/1427 الموافق 2/6/2006

 1ـ إن الحاجة ماسة إلى البحث عن حكم التحاكم إلى القوانين والأعراف الدولية، تلك التي اختار لها الداعون إليها اسماً يصرح بمرادهم منها، فأسموها (الشرعية) الدولية، فهي إذن (شرع) يحكم علاقات الدول والأمم. فهل هذا التشريع المحدث مقبول كله، أم مردود كله، أم بين هذا وذاك؟ وما هو الموقف العقدي للأمة منها؟

2ـ قد لا يتنبه كثير من الناس إلى خطورة تلك العبارات التي أصبحت تتردد على أسماعنا كل حين عن (ضرورة احترام الشرعية الدولية)، و(وجوب الشرعية الدولية) و(تحريم الخروج على الشرعية الدولية)!! إن الأمر لا يعنينا إذا دارت تلك العبارات على ألسنة الساسة في دول الديمقراطية الغربية النصرانية، أو الاشتراكية الشرقية الإلحادية، ولكن الأمر يختلف حينما يكون له تعلق بأمتنا الإسلامية، فمن ذا الذي يملك سلطة جعلها أمة متحاكمة إلى (شرعية) أو (شريعة) غير شريعتها.. هل هذه (الشرعية) هي فعلاً واجبة الاحترام، ملزمة في الاحتكام، عادلة على الدوام؟ أليست الشرعية الدولية هي تلك القوانين والنظم التي صاغتها الدول المتكبرة المنشئة لما سمي بـ (منظمة الأمم المتحدة)؟ ولو في بعض الأحكام؟! وأليست تلك المنظمة هي الجهاز الحاكم والقائم على أكتاف الدول الثلاث الكبرى التي تحالفت وانتصرت في الحرب العالمية الثانية (أمريكا – بريطانيا – روسيا)؟ إن تلك الدول تعاقدت وتعاهدت – ومعها بعد ذلك (فرنسا والصين) – على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، حيث أطلقت على نفسها منذ ذلك العهد (الأمم المتحدة)، وهو الاسم الذي اختير بعد ذلك للمنظمة الحاكمة والمشرعة لصالحها

3ـ لقد صاغت تلك الدول بمفردها ما أطلق عليه (ميثاق الأمم المتحدة)؛ لتكون له المرجعية الكبرى في كل قضية من قضايا العالم، حيث تستمد (الشرعية) الدولية منه الأحكام والنظم، وتستند إليه في الإجراءات والتحركات

4ـ إن ميثاق (الأمم المتحدة) ليس مجرد وثيقة منشئة لمنظمة دولية، ومحدِّدة لقواعد العمل بها، وإنما هو أكثر من ذلك بكثير، إن الخبراء في القانون الدولي – الذين يُطلَق عليهم وصف (الفقهاء) – يعلنون في وضوح وصراحة: أن الميثاق هو أعلى مراتب المعاهدات الدولية، وأكثر قواعد القانون الدولي سموّاً ومكانة! ولذلك لم يكن من المستغرب أن تنص المادة (103) من هذا الميثاق نفسه على أنه (إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق)؛ ومعنى ذلك أنه لا يجوز لأي دولة أن تبرم أي اتفاق دولي تتعارض أحكامه مع القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة!

5ـ بعبارة أخرى يمكن القول: إن أي سلوك أو فعل لأي دولة في العالم يتناقض صراحة، أو يشكل خرقاً لميثاق الأمم المتحدة، يصبح بالضرورة فعلاً أو سلوكاً منافياً للقانون الدولي وللشرعية الدولية! وخروجاً عليها، ويمكنك أن تتصور عشرات الصور لتصرفات يمكن أن تكون من وجهة النظر الإسلامية واجبة التنفيذ، ولكنها تكون من وجهة نظر (الشرعية الدولية) محرّمة ومجرّمة، وتشكل خروجاً على شريعة الدول الكبرى! فلو أن مارقة من المرتدين، أو خارجة من الخارجين انشقوا على دولة مسلمة، وقاموا بحركة انفصالية انشطارية، فاقتطعوا أرضاً، وأعلنوا فيها دولة، وشاءت الدول الكبرى أو بعضها أن تعترف بتلك الدولة المنشقة حتى صارت عضواً في المنظمة الدولية، لما كان بمستطاع تلك الدولة الإسلامية أن تنصب في وجه أولئك الخوارج أو المرتدين سيف قتل البغاة!!، ولو أن طائفة من اليهود أو النصارى أو الملحدين احتلوا أرضاً إسلامية وأعلنوا فيها دولة لهم، ثم أرادت مشيئة الدول الكبرى أو بعضها أن تعترف لهم بهذا الاغتصاب – كما حدث كثيراً – لما كان بإمكان المسلمين – كلهم أو بعضهم – أن يعيدوا هذه الأرض المغتصبة التي أصبحت بحكم (الشرعية الدولية)! دولة مستقلة ذات سيادة، ولشعبها الحق في تقرير المصير!!، وهكذا تتشكل وتتطور خريطة العالم الإسلامي على حسب ما يتقرر في أروقة هيئة الأمم المتحدة، وأيضاً لو صدر قرار، أو اتخذ من الأمم المتحدة ضد أي دولة إسلامية أو عربية، فإن من واجب جميع الدول الباقية أن تلتزم به، مهما كان ظالماً ومظلماً، لأنها ينبغي أن تتأدب بأدب العضوية في المنظمة الدولية

6ـ يراد للأمم المتحدة أن تتحول تدريجيّاً من مجرد منظمة دولية عامة، إلى تنظيم عالمي شامل؛ من خلال إقامة شبكة كثيفة من التفاعلات الدولية والإقليمية العامة والمتخصصة، الحكومية وغير الحكومية، وقد احتوى الميثاق بالفعل على النصوص التي تمكن الأمم المتحدة من أن تتحول إلى نواة لمنظومة عالمية، تعكس الإطار المؤسسي للنظام الدولي كله، تكون لها أهلية التوجيه والتخطيط – وربما الإلزام – فيما يختص بالنواحي الاقتصادية والتعليمية والبيئية والاجتماعية، وكذلك الأسرية لدى شعوب العالم، والمؤتمرات الدولية التي انعقدت وستنعقد تحت مظلة الأمم المتحدة تشهد على ذلك التحول والتطور للمنظومة الدولية، بما يمهد لتمكينها في النهاية أن تكون (حكومة عالمية)، وما المؤتمرات مثل: مؤتمر (الأرض) في (ريو دي جانيرو)، ومؤتمر (السكان) بالقاهرة، ومؤتمر (المرأة) ببكين، إلا علامات دالة على التحول في دور المنظمة الدولية، فاليوم توصيات .. وغداً قرارات … وبعد غد تشريعات، إن الأمم المتحدة قد حشرت أنفها – وبخاصة في المؤتمرين الأخيرين – في أمور من أخص خصائص التشريع، فهل يراد أن يكون لهذا التشريع (شرعية)، وهل يصلح أن ينادى وقتها بضرورة احترام هذا التشريع الوضعي أو ذاك، وتحريم الخروج عليه باعتباره (شرعية دولية)؟!

7ـ أرادوا أن يجعلوا من الأمم المتحدة حكومة عالمية، الحاكم فيها أو بالأحرى مجلس قيادة، يتمثل في الدول دائمة العضوية، وفيها محكوم هو الدول الصغرى والمتوسطة، وأما نظام الحكم فيها: فهو الميثاق والمقررات والمرئيات لدى الدول الكبرى، المبرمة في نصوص وفصول ومواد وضعتها في الأساس دول الكبر الدولي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فلها الدور الأساس في صياغة هذا البرنامج التسلطي الدولي (الحكومة العالمية) ولذلك لم يكن محض مصادفة أن يسمى إعلان الأمم المتحدة: (إعلان واشنطن)، ويصدر في تلك العاصمة الأمريكية في يناير 1942م، وأن تعقد أهم مراحل المفاوضات التمهيدية الخاصة بإنشاء المنظمة في مدينة (دامبرتون أوكس) إحدى ضواحي واشنطن عام 1944م، وأن يعقد المؤتمر التأسيسي المنشئ للأمم المتحدة في (سان فرانسيسكو) عام 1945م، وأن تصبح (نيويورك) هي المقر الدائم لتلك الحكومة العالمية، بعد الإعلان عن قيامها في 24 أكتوبر 1945م .

8ـ إن تلك الحكومة أو هذه المنظمة هي أمريكية الوجهة، نصرانية المصدر.. فهي أمريكية الوجهة؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبتها، ومنشئتها، ونصرانية المصدر؛ لأن النصرانية هي ديانة أمريكا والديانة الأصلية للحضارة الغربية بأكملها، بشقيها الغربي والشرقي؛ ولم يكن ظل النصرانية غائباً عن صياغة بنود ذلك الميثاق الأممي، ويدل على ذلك دلالة صارخة أن ما يعرف بـ (مجلس اتحاد كنائس المسيح) كان أحد أهم جهتين وكلتا بتشكيل اللجان لصياغة الأفكار الأمريكية الرسمية حول فلسفة المنظمة وملامح مبادئها، وقد ترأس تلك اللجنة الكنسية (فوستر دالاس) الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية الأمريكية، وقد شارك في اللجنة كذلك عدد من رموز اليهودية والكاثوليكية

9ـ هل هي مصادفة ألا يوجد في قائمة أسماء أمناء المنظمة الدولية طوال تاريخها اسم مسلم، على الرغم من أن الدول الإسلامية الأعضاء فيها تبلغ الثمانين؟ وهل هي مصادفة أنه عندما تقرر اختيار رجل من العرب أميناً، أن يكون هذا (الأمين) نصرانيّاً؟! إن ميثاق المنظمة بعد بلورته لم يعرض على جهة قبل مجلس الشيوخ الأمريكي، فللأمريكيين قبل غيرهم حق النظر في الكيفية التي سينتهي إليها نظام العالم، ولهذا لم يكن أمام مجلس الشيوخ إلا أن أقره بأغلبية (89) صوتاً ضد صوتين، ووافق أن تكون الولايات المتحدة هي أول دولة تودع وثائق تصديقها لدى المنظمة الدولية الجديدة، وأصبحت أمريكا بعد ذلك المستودع الرئيس للأفكار الخاصة، ليس فقط بإنشاء منظمة الأمم المتحدة، ولكن أيضاً بإنشاء العديد من الوكالات الدولية المتخصصة والتابعة لها، أما اليهود فلا تسل عن ضلوعهم في تهيئة الأوضاع لنشوء تلك المنظمة، ويكفي دليلاً على ذلك أن باكورة إنتاج الأمم المتحدة بعد قيامها، كان إقامة دولة اليهود (إسرائيل)!

10ـ كيف إذن تدير هذه الحكومة سلطاتها على (الرعية) من دول العالم الصغرى والوسطى؟ لقد أجاب على ذلك المؤتمرون في (يالتا) عندما اتفقوا على اقتسام مناطق النفوذ في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.. حينها تطرق بحث زعماء إنجلترا وروسيا وأمريكا (تشرشل ستالين روزفلت) إلى كيفية تكريس واقع ما بعد الحرب لصالحهم، وفي (يالتا) تم الاتفاق على أن يكون للدول الكبرى حق النقض (الفيتو) دون أن يكون لبقية الدول ولو حق النقد لهذا الحق، وقد وصل الأمر بعد استقرار هذا التقليد، إلى حد أن السناتور الأمريكي (كوناللي) قام بتمزيق نسخة من طلب قدمته بعض الدول لتعديل نظام التصويت، وصاح قائلاً (إنه من دون الفيتو، لن يكون هناك ميثاق أصلاً)!! وهكذا… بالقوة.. أراد أساطين الشرعية الدولية فرض شريعتهم الديكتاتورية على الجموع البشرية

11ـ إن ربع هذه الجموع تمثله أمة الإسلام، التي تقترب دولها من نصف أعضاء المنظمة (80 من 180)! ولهذا يحق لنا ونحن نتساءل عن مدى شرعية (الشرعية الدولية) أن نطرح هذه الأسئلة: هل كان هناك لأمة الإسلام دور في صياغة هذا (الدستور) الذي يطبق على دولها في شؤونها الدولية؟ وهل استشير الإسلام في وضع مبادئه؟ أو كان مصدراً من مصادر استلهامه؟ وهل روعيت مصلحة الشعوب الإسلامية في أثناء وضع أهدافه؟ وهل تملك تلك الشعوب والدول، مجتمعة أو منفردة أن تخرج عن إطار الهيمنة التي أدخلت نفسها بنفسها تحت سلطتها؟ وهل يملك أحد ولو كانت الدول الإسلامية كلها، أو الدنيا بأسرها أن تغير حقائق وأهداف وقيم الدين الخاتم، وسلب أحقيته ولو نظريّاً في قيادة البشرية وتوجيهها بمقتضى رسالة الله الأخيرة إلى البشر؟ 

12ـ إننا ونحن نناقش مدى شرعية (الشرعية الدولية) ينبغي أن نستحضر الثوابت الإسلامية، ونستظهر المعاني القرآنية، بعيداً عن ضغط الواقع الذي يدفع بعضنا إلى الخروج من جلده والتكلم بغير لسانه …

– أن الإصرار على وصف هذا الوضع الشاذ المتمثل في تسلط الأعداء بـ (الشرعية)، والإمعان في إضفاء الاحترام والتبجيل لهم، يساعد على ترسيخ مفهوم التبعية لدى شعوب المسلمين

– أنه لا معنى للاستتار بحقائق الدين خلف جدران الوهن، وترديد مقولة المهزومين بأنه لا مخرج عن تلك الولاية الدولية القسرية، ولا مناص بالتالي من النزول على شرعيتها؛ فإن هذه إن وقعت قدراً، فليس معناها أن تسوغ شرعاً

– أن النزول على كل أحكام تلك الشرعية الدولية، سيعني التسليم لولاتها الدوليين بحقوق ليست لهم، ولا هي مقبولة منهم، مثل: إلغاء الجهاد الإسلامي لنشر الدين الحق أو حتى حمايته، إنْ طلباً أو دفعاً، وإلغاء القسمة الإسلامية لدول الأرض إلى ديار إسلام وديار كفر، واستبدال ذلك بدول مستقلة أو غير مستقلة بحسب ارتضاء الغرب عنها

– بل سيعني هذا النزول على أحكام الشرعية الدولية: التنازل عن التقسيم الإلهي للبشر إلى مؤمن وكافر من الناحية العملية، مما يترتب عليه التنازل عن عقيدة الولاء والبراء

– أن أصحاب شريعة الإسلام الإلهية التي لم تلق شرعية أو احتراماً من أصحاب الشرعية الدولية حين أصلوا لها، لا ينبغي أن يكافئوا تلك (الشرعية الوضعية) بإضفاء الشرعية الإسلامية عليها

– أن شريعة الإسلام الشاملة الكاملة تأبى أن تكون حاكمة في داخل بلاد المسلمين ومحكومة خارجها، وترفض أن يُتحاكم إليها في السياسة الداخلية، ثم يتحاكم إلى غيرها في السياسة الخارجية

– أن ما تهدف إليه المنظمة الدولية لا يتعلق بأمر ثانوي بالنسبة لأمة الإسلام، بل يتعلق بأصل كيانها ووظيفتها التي أنيطت بها في حاضرها ومستقبلها

– أن الاضطرار إلى أكل جزء من الميتة لا يجعل لحمها من الطيبات، واللجوء إلى استبقاء النفس بجرعة خمر؛ لا يجعل الخمر من المباحات، فكذلك الوقوع تحت حكم الكفار اضطراراً؛ لا يجعلهم من الأخيار الذين نتسابق إلى تحكيمهم في رقاب الأمة ودمائها وأموالها

– سواء أكانت المعاهدات الدولية عقوداً أو عهوداً، فإن العقود والعهود تحل أو تحرم بحسب المعقود عليه، ولا يتصور حِل التعاقد على إهانة أمة الإسلام على يد الظالمين، أو التعاهد على تسليم الكافرين زمام أمر العالمين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى