خطب الجمعة

العقل ومنزلته في الشرع

خطبة يوم الجمعة 30/1/1437 الموافق 13/11/2015

الحمد لله الذي له  مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الشكور الصبور العفو الغفور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير السراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون، أما بعد أيه المسلمون عباد الله:

1- فإن الله عز وجل فضَّل ابن آدم على كثير من الكائنات وكرَّمه أعظم تكريم، كما تعبر عن ذلك آيات القرآن الكريم قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} وجعله خليفته في ارضه يحفظ دينه ويسوس به دنياه؛ كما قال جل جـلاله {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وميزَّه بنعمة العقل التي يفهم بها عن الله عز وجل مراده، ويميز بها الخبيث من الطيب والهدى من الضلال، وأمره بأن يستعمل هذه النعمة فيما يعود عليه بالنفع، فالعقل الإنساني هو أداة فقه الشرع، وشرط ومناط التدين بهذا الشرع الإلهي؛ ولذلك لا أثر للشرع من دون العقل، كما أنَّه لا غنى للعقل عن الشرع وخاصة فيما لا يستقل العقل بإدراكه من أمور الغيب وأحكام الدين؛ ذلك أنَّ العقل مهما بلغ من العظمة والتألق في الحكمة والإبداع هو ملكة من ملكات الإنسان، وكل ملكات الإنسان بالخبرة التاريخية والمعاصرة هي نسبة الإدراك والقدرات تجهل اليوم ما تعلمه غداً، وما يقصر عنه عقل الواحد يبلغه عقل الآخر.

2- ومن هذا المنطلق يعتبر الإسلام عدم استخدام العقل خطيئة من الخطايا وذنباً من الذنوب، يقول القرآن الكريم حكاية عن الكفار يوم القيامة: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} وإذا كانت ممارسة الوظائف العقلية تعد واجباً دينياً في الإسلام، فإنَّها من ناحية أخرى مسؤولية حتمية لا يستطيع الإنسان الفكاك منها، وسيحاسب على مدى حسن أو إساءة استخدامه لها مثلما يسأل عن استخدامه لباقي وسائل الإدراك الحسية، وفي ذلك يقول القرآن: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}

3- وقد خص الله أصحاب العقول بالمعرفة التامة لمعاني العبادة وأسرارها {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} وقصر الانتفاع بالموعظة والذكر على أصحاب العقول فقال سبحانه {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} وأمثال القرآن ما ينتفع بها إلا العقلاء العلماء {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وذمَّ الله المقلدين للآباء والأجداد المعطلين لعقولهم المعرضين عن الأدلة الظاهرة والبراهين القاطعة {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} وكرَّم الله العقل وجعله مناط التكليف (رفع القلم عن ثلاث…) وحرم الاعتداء عليه فمنعنا من كل مسكر ومفتر، وشدد الإسلام في النهي عن تعاطي ما تنكره العقول وتنفر منه؛ كالتطير والتشاؤم والاعتماد على الكهنة والمنجمين، ونهي عن جميع الخرافات والأوهام.  وجعل للعقل مجالاً واسعاً في تدبر آيات الكون، والسنن الكونية والبشرية وحكم التشريع.

4- تكاثرت الأدلة القرآنية الآمرة بإعمال العقل ومن ذلك: إعماله في النظر في وحدانية الله وتفرده بالخلق {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وإعماله في التأكد من صدق النبوات {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} وكذلك إعماله في التأكد من صحة الكتب وبراهينها {أفلا يتدبرون القرآن} وإعمال الفكر في النظر في الأدلة الكونية وعجائب المخلوقات، وكذلك إعمال الفكر في عمارة الأرض والاستفادة من خيراتها {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}

5- دور العقل مع النصوص يمكن تحديده في النقاط التالية:

أولاً: في استيعاب النصوص المتصلة بالموضوع الذي تتم دراسته، فما أجمل في أحد النصوص قد يكون مفصلاً في آخر، وما أبهم في نص قد يفسر في آخر.

ثانياً: في تمحيص النصوص لاستبعاد الضعيف.

ثالثاً: إعمال العقل مع تقوى الله، ومع كامل الحرص على اتباع هدى الله في استخراج الدلالات العميقة التي تحتويها النصوص.

رابعاً: في نقد النصوص، وذلك بطرح أسئلة مفادها: هل هناك تعارض بين النصوص بعضها بعضاً؟ وهل من سبيل للجميع بينها عند التعارض؟ هل هناك تعارض بين النصوص الظنية وبين القواعد الشرعية الكلية القطعية؟

خامساً: في تنزيل النصوص على الواقع، مع دراسة عملية وميدانية إحصائية للواقع.

6- العقل هو أساس الجهاز الإدراكي البشري، فهو في القلب يشبه المعالج في الكمبيوتر، والحواس تشبه وسائل إدخال المعلومات أو إخراجها، والمخ فيه ذاكرة الإنسان أو ما يشبه القرص الصلب، والله -عز وجل-  قد خلق الإنسان بجهاز إدراكي محدود؛ تحقيقاً لعلة معينة تمثلت في الابتلاء كما قال -تعالى- : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصير} وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة؛ لتقدير القيم التقريبية للحدود المعينة في المؤثرات الخارجية التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكي في جسم الإنسان، والتي يطلقون عليها في علم النفس (العتبات المطلقة للحواس الخمس)، فوجدوا أنَّ البصر يدرك به العقل صورة شمعة مضاءة ترى على بعد ثلاثين ميلاً في ليل مظلم صاف 290 ملي ميكرون، ووجدوا أنَّ السمع يدرك به العقل صوت دقة ساعة في ظروف هادئة تماماً على بعد عشرين قدماً، والتذوق يدرك به العقل ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء، والشم يدرك به العقل نقطة عطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة.

فإذا كان الجهاز الإدراكي في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يرى ما وراء ذلك، كالذي يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يرى الملائكة أو الجن أو عالم الغيب، أو يرى ذات الله وصفاته -من باب أولى-، ومعلوم أنَّ عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعنى عدم وجودها، فالجن مثلا جهازه الإدراكى يختلف عن الإنسان من حيث القوة قال -تعالى- في وصفه: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، وكذلك عدم سماعه لبعض الأصوات لا يعني عدم وجودها؛ إذ إنَّها خارج مدركاته السمعية، وكذلك عدم شمه لبعض الروائح لا يعني عدم وجودها.

وبناءً على ذلك تتأسس القاعدة أنَّ عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بعدمه، وكذلك عدم الإدراك العقلي لبعض الموجودات والممكنات لا يعني الجزم بعدم وجودها؛ إذ إنَّه فوق كل ذي علم عليم، والناس يؤمنون ويسلمون بأمور لا تدركها حواسهم ولا تحيط بها عقولهم كالجاذبية الأرضية والكهرباء؛ ومن هنا فإنَّ العقل له دائرة لا يستطيع أن يخضعها لمجال عمله من ذلك أمور الغيب، ويمكننا أن نقول قاعدة نصها: ((إنَّ ما دخل في دائرة الغيب خرج من دائرة العقل)).

7- لقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل، قاعدة عظيمة ويجدر بنا أن نذكرها، يقول رحمه الله: “إنَّ الإسلام يأتي بمحارات العقول، ولكنه لا يأتي بمحالات العقول”. ففي ديننا أمور يحار العقل فيها؛ لأنَّ العقل قاصر عن أن يطلع وأن يحيط بعلم الغيب، فيحار في أمر هذا الغيب.. يقرأ الأحاديث الصحيحة في عذاب القبر ونعيمه، فيحار.. كيف أنَّ هذا الإنسان يوضع في القبر وهو جثة هامدة، ثم يأتي الملكان فيقعدانه ويسألانه؟! كيف يكون هذا العذاب والنعيم في حق من مات في البرية فأكلت السباع بدنه وتفرق جسده في بطونها، أو مات غرقاً كيف يعذب وينعم وهو في بطون الأسماك والحيتان، وهذا أمر يحار فيه العقل..

 وأنَّ القلم كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وهذا مما يحار العقل فيه، وقد تساءل بعض الصحابة قريباً من هذه التساؤلات لما سمع قول الله -عز وجل-: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصما} فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال :سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :كيف يحشر أهل النار على وجوههم؟ قال: «إنَّ الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم».

والحيرة نسبية على كل حال، وهي مشاهدة ومحسوسة، فلقد كان جمع الآلاف من المجلدات الضخمة في شريحة صغيرة بحجم قلامة الظفر قبل ثلاثين سنة أمراً يحار فيه العقل ويستغربه الفكر، وأصبح الآن أمراً عادياً.

 لكن ليس في ديننا على الإطلاق ما يحيله العقل؛ أي ما يحكم العقل بأنَّه محال وبأنَّه مستحيل؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- لما ركب هذه العقول ركبها وفق الهدى والحق الذي هو الوحي، ولو أنَّ هذه العقول تجردت من الهوى، ومن الشبهات الباطلة، ومن التعصب، ومن اتباع الآباء والأجداد، وتفكرت حق التفكر؛ لعلم أصحابها أنَّ الأنبياء حق، وأنَّ الله حق، وأنَّ اليوم الآخر حق، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى