فقد مضى معنا الكلام عن الخوارج وما كانوا عليه من كساد الرأي وفساد المذهب وضلال المسعى، حتى قال بعض المفسرين بأنهم المعنيون بقوله تعالى {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} لكن الذي يعجب منه المرء ما كانوا عليه من سوء السلوك مع المسلمين حيث عمدوا إلى خيار خلق الله بعد النبيين وهم الصحابة الكرام فأعملوا فيهم سيوفهم وقتلوهم بغل شديد؛ كالذي حدث مع علي بن أبي طالب وعبد الله بن خباب رضي الله عنهم أجمعين. وحين يتأمل المرء في حالهم يجد أن السبب في ذلك كله غل سكن قلوبهم فأعمى أبصارهم وأصمَّ آذانهم، وهذا الذي يلاحظ على فئام من الناس تخصصوا في كشف عوار أمة محمد صلى الله عليه وسـلم والدلالة على سوآت الدعاة إلى الله تعالى ورميهم بالباطل مثلما فعل سلفهم الأولون حين عمدوا إلى أولئك الأخيار فرموهم بكل نقيصة
1/ الطريق إلى الله يقطع بالقلوب لا بالأبدان كما قال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى (مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب) ومن ثم كان الاهتمام بالقلب ومحاولة تزكيته وتطهيره من الآفات والأمراض التي ربما تصيبه أمرًا هاما لكل سائر إلى الله تعالى, ومن أخطر الأمراض وأشدها ضراوة على القلب مرض الغل والحقد الذي ما يصيب عبدا حتى يأتي على الأخضر واليابس في قلبه ويقلب حياته إلى جحيم لا يطاق.
2/ فما هو الغل؟ الغل هو الحقد وحمل الضغينة للمسلمين
3/ الغل والحقد محرم بين المؤمنين، واجب ضد الكفار المحاربين للمسلمين. لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ولقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ولقوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وقد ورد النهي الصريح عن الحقد والشحناء والبغضاء بين المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) يقول العلامة ابن حجر رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: أي لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء … وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله
4/ وقد حرم الله على المؤمنين كل ما من شأنه أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ومن ثم كان الحقد محرمًا لأنه سبب رئيسي في وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين. وقد عدَّه الإمام ابن حجر الهيثمي من كبائر الذنوب؛ يقول رحمه الله: الكبيرة الثالثة: الغضب بالباطل والحقد والحسد, لما كانت هذه الثلاثة بينها تلازم وترتب إذ الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب كانت بمنزلة خصلة واحدة، فلذلك جمعتها في ترجمة واحدة لأن ذمَّ كلٍ يستلزم ذمَّ الآخر إذ ذمُّ الفرع وفرعه يستلزم ذم الأصل وأصله وبالعكس).
5/ خطورة الغل وضرره تتمثل في أمور كثيرة منها:
– التعاسة والشقاء في نفس الحاقد، يقول الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله: والحقد حين تحليله يتبين من عناصره ما يلي:
أولاً: الكراهية الشديدة والبغض العنيف.
ثانياً: الرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.
ثالثاً: تخزين العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات والاسترجاعات المختلفة للمشاهد، مع مثيرات جديدة للكراهية والرغبة في الانتقام. تتفاعل هذه كلها تفاعلاً يأكل نفس الحاقد من الداخل، وتتغلغل هذه الدوافع في النفس تغلغلاً يسبب التآكل الداخلي والانهيار في النهاية في نفس الحاقد, لأنه يشغل القلب ويتعب الأعصاب، ويقلق البال، ويقض المضجع، وقد تظلم الدنيا في وجه الحاقد وتضيق به على سعتها، وتتغير معاملته حتى لأهله وأولاده؛ لأن الحقد يضغط عليه من كل جانب، وقد تتسع دائرة الحقد لتشمل الأبرياء كما لو كرهت امرأة زوجها لإهانته وشتمه لها وتعذيبها فقد تكره جميع الرجال، أو يظلم والد ولده ويذيقه ألوان العذاب ويقسو عليه ويحرمه ألوان العطف والحنان، فيكره الولد كل الآباء … وهكذا
قال الدكتور مصطفى السباعي: لا تحقدْ على أحدٍ فالحقد ينال منك أكثر مما ينال من خصومك ويبعد عنك أصدقاءك كما يؤلّب عليك أعداءك، ويكشف من مساوئك ما كان مستوراً، وينقلك من زمرة العقلاء إلى حثالة السفهاء، ويجعلك بقلب أسود ووجه مصفر، وكبد حرّى.
5/ ماذا استفاد الحاقدون؟ ماذا استفاد الحاسدون؟ ما استفادوا إلا النصب وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات؛ ووالله لن يردوا نعمة أنعم الله بها على عبد أي كان.
أصبر على مضض الحسود…… فإن صبرك قاتــــــــــــــــله
فالنـــــــــــــــــــــــــــار تأكل بعضها………إن لم تجد ما تأكله
وصدق الشاعر حين قال:
مالي وللحقد يُشقيني وأحمله.. ..إني إذن لغبيٌ فاقدُ الحِيَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل؟!
سلامة الصدر أهنأ لي وأرحب لي.. ..ومركب المجد أحلى لي من الزلل
إن نمتُ نمتُ قرير العين ناعمـها.. .. وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي
وأمتطي لمراقي المجد مركبــتي.. ..لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي
مُبرَّأ القلب من حقد يبطئـــني.. .. .أما الحقود ففي بؤس وفي خطــل
– أن الحقد يجلب الحسد؛ فأنتِ إذا حقدتِ على أخيكِ المسلم فلا شك أنَّك ِستحسدينه على النِّعم التي أفاء الله بها عليه، وأنَّكِ سَتُسَرُّين بالمصائب التي تصيب أخاكِ المسلم، وهذا بلا شك من صفات المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر قال تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِم دَائِرةُ السَّوءِ} ولعل الحقد يزداد عند بعضهم فيدفعه على التشمت بالآخرين
والحسد مذموم في الشرع ولا شك لأنه من كبائر الذنوب ووردت الاستعاذة منه في سورة الفلق؛ يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والحسد آفة عظيمة، فهو من كبائر الذنوب، لأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ ولأنه من خصال اليهود، كما قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}.
– أن الغل والحقد مدعاةٌ إلى فساد ذات البين؛ وهذا أمر طبيعي فالإنسان الذي يحقد على أخيه المسلم سيدعوه هذا إلى مقاطعته وهجره والعكس صحيح فمن علم أن هناك من يحقد عليه من المسلمين فمن المؤكد أنه سيهجره ويقاطعه وهو أمر مخالف لشرع الله تعالى؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة) قال في تحفة الأحوذي: (الحالقة هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر).
– أن الغل طريق موصلة للكذب والغيبة والنميمة؛ فالغل يؤدي بالمسلم (إلى أنْ تتكلم في أخيك المسلم بما لا يحل، وقد يؤول بك ذلك إلى الكذب عليه أو غيبته وإفشاء سره وهتك ستره، بل ربما دفعك ذلك إلى وشايته بما يؤول إلى قتله، إلى غير ذلك من الأضرار التي تنجم عن الحقد، كالاستهزاء به والسخرية منه، وإيذائه بالضرب، أو أنْ تمنعه حقه من قضاء دَين أو صلة رحم أو رد مظلمة، وكل ما ذُكِرَ من أضرار الحقد إنَّما هي معاصٍ يُحاسَب عليها العبدُ يوم القيامة، ويجد ذلك مكتوباً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسيكون حينذاك الندم، لكن لا ينفع الندم)
فمن امتلأ قلبه بالغل والحقد سيسعى جاهدا أن يحط من منزلة من يحقد عليه بين الناس بالغيبة والنميمة ونشر الأكاذيب والأراجيف حوله, والغيبة والنميمة من كبائر الذنوب وصاحبها على خطر عظيم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} وقد نرى هذا بكثرة للأسف الشديد بين أوساط الدعاة وطلبة العلم ممن لم يتحلوا بأخلاق العلم والعلماء فتجد بعضهم يتكلم على بعض وتنتشر الاتهامات بالتبديع والتفسيق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
– أن الغل والحقد يوقع صاحبه في مجموعة من الأمور المحرمة؛ قال الغزالي: (والحقد يثمر ثمانية أمور:
(1) الحسد: وهو أن يحمل الحاقد على أن يتمنى زوال النعمة عن المحقود عليه، فيغتم بنعمة إن أصابها، ويسر بمصيبة إن نزلت به.
(2) أن يزيد الحاقد على إضمار الحسد في الباطن، فيشمت بما أصابه من البلاء
(3) أن يهجر ويصارم وينقطع عنه، وإن طلب وأقبل على المحقود عليه وهو دونه
(4) أن يعرض الحاقد عن المحقود عليه استصغاراً له
(5) أن يتكلم الحاقد في المحقود عليه بما لا يحل، من كذب، وغيبة، وإفشاء سر، وهتك ستر، وغيره
(6) أن يحاكي الحاقد المحقود عليه استهزاءً به، وسخرية منه
(7) الاعتداء عليه بأي صورة من الصور
(8) أن يمنعه حقده من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك حرام).
6- أن الغل والحقد قد يدفع صاحبه إلى القتل
كما حدث مع ابني آدم عليه السلام حين قتل أحدهما الآخر بسبب الحقد والحسد, قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يقول تعالى مبيِّنا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغيا عليه وحسدا له، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة)
7- أن الغل والحقد يؤخر مغفرة الله للعبد؛ فمن كانت بينه وبين أخيه شحناء وبغض لا يغفر الله له حين ترفع الأعمال لله عز وجل يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع كما قال صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء, فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا, أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)