الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام ودعا، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى، وسلِّم تسليماً كثيرا، أما بعد.
فإن في النفس البشرية عللاً وأدواء، وآفات وأمراضا، والسعيد من راقب نفسه وعمل على علاجها، والشقي الخاسر من أتبع نفسه هواها وظن بها الكمال من حيث هي ناقصة؛ {قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها} إن الإنسان مجبول على جملة من صفات النقص؛ كما قال سبحانه {وخلق الإنسان ضعيفا} {إنه كان ظلوماً جهولا} {إن الإنسان لظلوم كفار} {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} ومن أعظم هذه الآفات أيها المسلمون عباد الله آفة الكبر التي متى ما خالطت قلباً إلا أفسدته، وهوت بصاحبه في دركات الشقاء.
إن بعض الناس يعيش حالة من الكبر عجيبة؛ فيشمخ بأنفه ويتيه بنفسه، ويرى أنه لولاه لمادت الأرض بأهلها وانتقصت من أطرافها؛ إما لعلمه فيرى أنه قد أوتي العلم كله؛ أو لعمله فيرى أنه قد أوتي من كل شيء سببا، ولولاه لما بني لله مسجد، ولا حفظ للدين أصل، ولا انتصرت الأمة في معركة، أو لماله فيظن أن الخلق جميعاً بحاجة إليه، أو لجماله فيظن أنه ما خلق الإله ولا برى مثله بشرا يرى، أو لقوته كما قال الأول {من أشد منا قوة} أو لعشيرته وأنصاره كما قال الأول {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا} وهكذا تتعدد الأسباب التي تؤدي بالمرء إلى هذا الخلق الذميم؛ فيخسر دنياه وآخرته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”
1ـ إن الكبر صفة لربنا جل جلاله ما ينبغي أن ينازع فيها، ولا أن يسعى لمشاركته أحد من العقلاء؛ وقد سمى الله تعالى نفسه بالمتكبر في آية واحدة في خواتيم الحشر، وسمى نفسه بالكبير في خمسة مواضع، منها قوله تعالى {عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} وقوله {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} {قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} {فالحكم لله العلي الكبير}
وقد تنوعت عبارات أهل العلم في بيان معنى المتكبر في حق الله تعالى:
- قال قتادة رحمه الله: المتكبر: أي تكبر عن كل شر.
- وقيل: المتكبر أي تكبر عن ظلم عباده
- وقال الخطابي: هو المتعالي عن صفات الخلق
- ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة.
- وقال القرطبي: المتكبر الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله
- وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم
أن التكبر لا يليق إلا به Y، فصفة السيد التكبر والترفع، وأما العبد فصفته التذلل والخشوع والخضوع، قال تعالى {العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني عذبته} ولذا توعد الله المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة {فلبئس مثوى المتكبرين} {فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق} واستكبارهم هذا هو رفضهم الانقياد لما جاءت به الرسل من توحيد الله U {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين} فكان كبرهم سبباً للطبع على قلوبهم {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}
والكبر يمنع من طلب العلم والسؤال عنه، بل قد يحمل العبد على الجدال والخوض في المسائل بغير علم؛ قال تعالى {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير $ ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق $ ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} وقد قيل:
ليس العمى طول السؤال وإنما تمام العمى السكوت على الجهل
لم يزل السلف رحمهم الله يذمون الكبر ويحذرون منه، ومن أقوالهم في ذلك:
- من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زلَّ، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر
- قال الفضيل: التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له من سمعته، ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه
- قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما طلب تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون
- حال نبي الله موسى u مع الخضر u
- قال الحميدي وهو تلميذ الشافعي: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه المسائل وكان يستفيد مني الحديث
- الكبر: هو بطر الحقّ وغمط النّاس. وقال الغزاليّ رحمه اللّه هو استعظام النّفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير. وقال أيضا رحمه اللّه: الكبر حالة يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه وأن يرى نفسه أكبر من غيره.
وقال التّهانويّ: جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها. أمّا المكابرة، فهي المنازعة لا لإظهار الصّواب ولا لإلزام الخصم.
وقال الجاحظ: الكبر هو استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالنّاس واستصغارهم والتّرفّع على من يجب التّواضع له. وقال الكفويّ: التّكبّر: هو أن يرى المرء نفسه أكبر من غيره، والاستكبار طلب ذلك التّشبّع وهو التّزيّن بأكثر ممّا عنده
في درجات الكبر قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: اعلم: أنّ العلماء والعبّاد في آفة الكبر على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون الكبر مستقرّا في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيرا من غيره، إلّا أنّه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة، إلّا أنّه قد قطع أغصانها.
الثّانية: أن يظهر لك بأفعاله من التّرفّع في المجالس، والتّقدّم على الأقران، والإنكار على من يقصّر في حقّه، فترى العالم يصعّر خدّه للنّاس كأنّه معرض عنهم، والعابد يعيش ووجهه كأنّه مستقذر لهم، وهذان قد جهلا ما أدّب اللّه به نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم. حين قال: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
الدّرجة الثّالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالدّعاوى والمفاخرة، وتزكية النّفس، وحكايات الأحوال في معرض المفاخرة لغيره، وكذلك التّكبّر بالنّسب، فالّذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النّسب وإن كان أرفع منه عملا.
قال ابن عبّاس: يقول الرّجل للرّجل: أنا أكرم منك، وليس أحد أكرم من أحد إلّا بالتّقوى. قال اللّه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} وكذلك التّكبّر بالمال، والجمال، والقوّة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك، فالكبر بالمال أكثر ما يجري بين الملوك والتّجّار ونحوهم. والتّكبّر بالجمال أكثر ما يجري بين النّساء، ويدعوهنّ إلى التّنقّص والغيبة وذكر العيوب. وأمّا التّكبّر بالأتباع والأنصار، فيجري بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود، وبين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين.
وفي الجملة فكلّ ما يمكن أن يعتقد كمالا، فإن لم يكن في نفسه كمالا، أمكن أن يتكبّر به. حتّى إنّ الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمر والفجور لظنّه أنّ ذلك كمالا.
- للكبر أنواع ثلاثة:
الأوّل: الكبر على اللّه تعالى وهو أفحش أنواع الكبر، وذلك مثل تكبّر فرعون ونمرود حيث استنكفا أن يكونا عبدين له.
الثّاني: الكبر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يمتنع المتكبّر من الانقياد له تكبّرا وجهلا وعنادا كما فعل كفّار مكّة.
الثّالث: الكبر على العباد بأن يستعظم نفسه ويحتقر غيره ويزدريه فيتأبّى عن الانقياد له ويترفّع عليه .. وهذا وإن كان دون الأوّلين إلّا أنّه عظيم إثمه أيضا؛ لأنّ الكبرياء والعظمة إنّما يليقان باللّه تعالى وحده
- الآيات التي ذكر فيها الكبر كثيرة، وقد بين فيها ربنا سبحانه مآلات المتكبرين، ومن ذلك:
أولاً: أن الكبر يحمل العبد على الكفر بالله تعالى والإعراض عن طاعته؛ قال سبحانه عن قوم نوح وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً} وقال عن بني إسرائيل {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} وقال عن ثمود {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} وقال سبحانه عن مدين قوم شعيب {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} وقال عن قوم فرعون {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} وقال جل من قائل {إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وقال سبحانه {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} وقال جل جلاله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} وقال عن أهل النار عياذاً بالله من حالهم {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}
ثانياً: الكبر سبب لصرف العبد عن تفهم الآيات {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ}
ثالثاً: الكبر يحمل الإنسان على أن يقول على الله ما لا يعلم كما قال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وأخبر عن أحوال الناس يوم القيامة {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ. ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ثالثاً: الكبر سبب في حصول العذاب؛ يقول سبحانه {لنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} وقال سبحانه {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} وقال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وقال تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} {حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ. مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ} وحين يندم أهل النار فيقول قائلهم {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} يكون الجواب {بلى قد جاءتك آياتي فاستكبرت وكنت من الكافرين}
رابعاً: الكبر ليس من صفات عباد الله الصالحين ولا خلقه المخبتين؛ قال سبحانه {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} {إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} {وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ}
- الأحاديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذم الكبر وأهله:
- عن أبى سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف رضي اللّه عنه قال: التقى عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهم على المروة فتحدّثا، ثمّ مضى عبد اللّه بن عمرو، وبقي عبد اللّه بن عمر يبكي، فقال له رجل: ما يبكيك يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: هذا يعني عبد اللّه بن عمرو زعم أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر كبّه اللّه لوجهه في النّار»
- عن حارثة بن وهب رضي اللّه عنه أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنّة؟ قالوا: بلى. قال صلّى اللّه عليه وسلّم: «كلّ ضعيف متضعّف. لو أقسم على اللّه لأبرّه، ثمّ قال: «ألا أخبركم بأهل النّار؟» قالوا: بلى. قال: «كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر»
- عن عبد اللّه بن حنظلة أنّ عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه مرّ في السّوق وعليه حزمة من حطب فقيل له: ما يحملك على هذا. وقد أغناك اللّه من هذا. قال: أردت أن أدفع الكبر، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «لا يدخل الجنّة من في قلبه خردلة من كبر»
- عن جابر رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون»، قالوا: يا رسول اللّه قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقون. فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبّرون»
- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذّاب، وعائل مستكبر»
- عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يطوي اللّه عزّ وجلّ السّماوات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى ثمّ يقول: أنا الملك. أين الجبّارون؟، أين المتكبّرون؟ ثمّ يطوي الأرضين بشماله ثمّ يقول: أنا الملك. أين الجبّارون؟ أين المتكبّرون؟»
- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يقول اللّه سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري. من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنّم”
- عن خالد بن عمير العدويّ رضي اللّه عنه قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: «أمّا بعد: فإنّ الدّنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء. ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء. يتصابّها صاحبها. وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها. فانتقلوا بخير ما بحضرتكم. فإنّه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شفة جهنّم. فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا. واللّه لتملأنّ. أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أنّ ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرة أربعين سنة. وليأتينّ عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام. ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر. حتّى قرحت أشداقنا. فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتّزرت بنصفها واتّزر سعد بنصفها. فما أصبح اليوم منّا أحد إلّا أصبح أميرا على مصر من الأمصار. وإنّي أعوذ باللّه أن أكون في نفسي عظيما وعند اللّه صغيرا. وإنّها لم تكن نبوّة قطّ إلّا تناسخت، حتّى يكون آخر عاقبتها ملكا. فستخبرون وتجرّبون الأمراء بعدنا»
- من الآثار وأقوال أهل العلم في ذم الكبر وأهله:
- مطرّف بن عبد اللّه بن الشّخّير رضي اللّه عنه أنّه رأى المهلّب وهو يتبختر في جبّة خزّ فقال: يا عبد اللّه، هذه مشية يبغضها اللّه ورسوله فقال له المهلّب: أما تعرفني؟ فقال بلي. أعرفك، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلّب وترك مشيته تلك
- رأى محمّد بن واسع ولده يختال فدعاه وقال: «أتدري من أنت؟ أمّا أمّك فاشتريتها بمائتي درهم، وأمّا أبوك فلا أكثر اللّه فى المسلمين مثله
- عن عمرو بن شيبة؛ قال: «كنت بمكّة بين الصّفا والمروة فرأيت رجلاً راكبا بغلة وبين يديه غلمان يعنّفون النّاس. قال: ثمّ عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشّعر. قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمّله. فقال لي: مالك تنظر إليّ؟ فقلت له: شبّهتك برجل رأيته بمكّة ووصفت له الصّفة. فقال له: أنا ذلك الرّجل. فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فقال: «إنّي ترفّعت في موضع يتواضع فيه النّاس فوضعني اللّه حيث يترفّع النّاس
- قال بعض أهل الحكمة:
يا مظهر الكبر إعجابا بصورته ……………. انظر خلاك فإنّ النّتن تثريب
لو فكّر النّاس فيما في بطونهم …… ما استتشعر الكبر شبّان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرّأس مكرمة … وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك ………والعينين مرفضّة والثّغر ملـعوب
يا ابن التّراب ومأكول التّراب غدا ……… أقصر فإنّك مأكول ومشروب