خطب الجمعة

المتكبر

خطبة يوم الجمعة 17/8/1441 الموافق 10/4/2020

الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام ودعا، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى، وسلِّم تسليماً كثيرا، أما بعد.

1/ فإن في النفس البشرية عللاً وأدواء، وآفات وأمراضا، والسعيد من راقب نفسه وعمل على علاجها، والشقي الخاسر من أتبع نفسه هواها وظن بها الكمال من حيث هي ناقصة؛ {قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها} إن الإنسان مجبول على جملة من صفات النقص؛ كما قال سبحانه {وخلق الإنسان ضعيفا} {إنه كان ظلوماً جهولا} {إن الإنسان لظلوم كفار} {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} ومن أعظم هذه الآفات أيها المسلمون عباد الله آفة الكبر التي متى ما خالطت قلباً إلا أفسدته، وهوت بصاحبه في دركات الشقاء.

إن بعض الناس يعيش حالة من الكبر عجيبة؛ فيشمخ بأنفه ويتيه بنفسه، ويرى أنه لولاه لمادت الأرض بأهلها وانتقصت من أطرافها؛ إما لعلمه فيرى أنه قد أوتي العلم كله؛ أو لعمله فيرى أنه قد أوتي من كل شيء سببا، ولولاه لما بني لله مسجد، ولا حفظ للدين أصل، ولا انتصرت الأمة في معركة، أو لماله فيظن أن الخلق جميعاً بحاجة إليه، أو لجماله فيظن أنه ما خلق الإله ولا برى مثله بشراً يرى، أو لقوته كما قال الأول {من أشد منا قوة} أو لعشيرته وأنصاره كما قال الأول {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا} وهكذا تتعدد الأسباب التي تؤدي بالمرء إلى هذا الخلق الذميم؛ فيخسر دنياه وآخرته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”

2/ فإن الله تعالى سمى نفسه بالمتكبر في آية واحدة في خواتيم الحشر، وسمى نفسه بالكبير في ستة مواضع، منها قوله تعالى ((عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال)) وقوله ((وأن الله هو العلي الكبير)) ((قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير)) ((فالحكم لله العلي الكبير))

3/ فما معنى هذا الاسم المبارك الحسن، وما المراد به في حق ربنا جل جلاله

  • قال قتادة رحمه الله: المتكبر: أي تكبر عن كل شر
  • وقيل: المتكبر أي تكبر عن ظلم عباده
  • وقال الخطابي: هو المتعالي عن صفات الخلق
  • ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة
  • وقال القرطبي: المتكبر الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله
  • وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم

4/ معنى الكبير في حقه تعالى مشابه لمعنى المتكبر، قال ابن جرير: الكبير يعني العظيم الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه، وقال الخطابي: الكبير هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن فصغر دون جلاله كل كبير.ا.هـ فالله تعالى كبير الذات وكبير القدر ((وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة))

5/ وقد أمرنا جل جلاله بتكبيره فقال ((يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر)) وقال ((ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا)) والتكبير هو أنشودة المسلمين في صباحهم ومسائهم وصلاتهم ويوم عيدهم وعند ذبحهم بهيمة الأنعام وكذلك في حربهم لأعدائهم وعند استقبالهم مواليدهم، وعند وداعهم أمواتهم

الله أكبر ليست كلمة تقال، وليست مجرد شعار يرفع، إنما (الله أكبر) معناها يا أخي المسلم: أن تكون الدنيا كلها في عينك صغيرة في جنب الله عز وجل، إذا عرض عليك المال، أو عرض عليك الجاه، أو عرضت عليك الدنيا مجتمعة، لتتنازل عن دينك، استمسكت بدينك وقلت: الله أكبر، الله أكبر من المال والثروة، الله أكبر من الجاه والمنصب، الله أكبر من المتع والشهوات، الله أكبر من كل قوة تظهر في هذا الوجود الله أكبر من طغيان الطاغين واستكبار المستكبرين، الله أكبر من كل من يطغيه المال أو السلطان الله أكبر من كل شيء. والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

وقد رأينا في أيامنا هذه من صنع الله عجبا!! فكم من مغتر بقوته قد خرَّ صريعاً بهذا الوباء!! وكم من مدل بجبروته صار ذليلاً حقيراً يتوارى من القوم من سوء ما يخاف ويحذر!! بل رأينا صورة مصغرة من هول يوم القيامة حين {يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} سلط الله عليهم هذا الوباء الذي يحصد الأرواح ويرعب الجبابرة والطواغيت كغيرهم من الناس؛ فصارت الشوارع خالية، والحدائق خاوية، والناس جاثمون في بيوتهم يخشون حتى التنفس، ترهبهم العطسة وتؤذيهم السعلة، بل مات البعض بهذا الوباء ولم يصل عليهم، ودفنوا بطريقة نقل البضائع دون أن يمسهم ماء، في ثيابهم مرضوا وفي ذات الثياب دفنوا!!!

5/ من آثار الإيمان بهذين الاسمين:

  • أن الله تعالى أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته وأكبر من أن نحيط به علماً، قال تعالى ((ولا يحيطون به علما)) فهو أكبر من أن نعرف كيفية ذاته أو صفاته
  • أن التكبر لا يليق إلا به جل جلاله، فصفة السيد التكبر والترفع، وأما العبد فصفته التذلل والخشوع والخضوع، قال تعالى {العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني عذبته} ولذا توعد الله المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة ((فلبئس مثوى المتكبرين)) ((فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق)) واستكبارهم هذا هو رفضهم الانقياد لما جاءت به الرسل من توحيد الله عز وجل ((إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون)) ((أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين)) فكان كبرهم سبباً للطبع على قلوبهم ((كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار))
  • لا يكاد يخلو طاغية في الأرض من هذا المرض العضال، ودواؤه أن يتذكر العبد دوماً أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وأنه جل جلاله هو الكبير المتعال
  • اليقين بأنه ما من متكبر وطاغية إلا وسيقصمه الله عز وجل في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس}
  • الكبر صاد عن اتباع الحق {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} ولذلك يطبع الله على قلوبهم {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} وقد قال نبي الله نوح عليه السلام عن قومه {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا} وقال تعالى عن الوليد بن المغيرة {ثم أدبر واستكبر} وقال عن الكفار عموماً {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء}
  • والكبر يمنع من طلب العلم والسؤال عنه، بل قد يحمل العبد على الجدال والخوض في المسائل بغير علم؛ قال تعالى ((ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق. ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد)) ((إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)) وقد قيل:

ليس العمى طول السؤال وإنما                 تمام العمى السكوت على الجهل

6/ لم يزل السلف رحمهم الله يذمون الكبر ويحذرون منه، ومن أقوالهم في ذلك:

  • من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر
  • قال الفضيل: التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له من سمعته، ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه
  • قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما طلب تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون
  • حال نبي الله موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى