المفهوم الصحيح للعبادة
محاضرة في مسجد كتارا بالدوحة يوم الجمعة 13/11/1436 الموافق 28/8/2015
أهمية الكلام عن الموضوع: يأتي من وجوه:
أولها: أن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلقنا، وعليها نحاسب وبها ينقسم الناس إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير
ثانيها: أن العبادة هي السبيل لنيل محبة الله عز وجل ورضاه، وقد قال سبحانه {وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها}
ثالثها: بالعبادة يحصل العبد تقوى الله عز وجل، وبالعبادة تحصل له سعادة الدنيا والآخرة
رابعها: ما وقع فيه كثير من المسلمين من التفريط في القيام بتلك المهمة التي من أجلها خلقوا؛ حتى إن كثيرا من الناس تجده لا يصلي الخمس أو لا يؤدي الزكاة، وبعضهم يصلي أو يصوم بلا روح بل هي عبادات شكلية
تعريف العبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والخفية، وقيل: هي اسم يجمع كمال الحبّ لله ونهايته، وكمال الذّلّ لله ونهايته، وقيل: عبادة الله: طاعته بفعل المأمور وترك المحذور، وقال المناويّ: العبادة فعل المكلّف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربّه.
أنواع العبادة: العبادة من حيث الاختيار والاضطرار نوعان:
1- عبادة بالتّسخير: وهي للإنسان والحيوانات والنّبات. وهي الواردة في قوله تعالى {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}
2- عبادة بالاختيار: وهي لذوي النّطق، وهي المأمور بها في قوله سبحانه {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم}
ومن حيث المعنى القرآني ذكر أهل التّفسير أنّ العبادة في القرآن على وجهين: أحدهما: التّوحيد. ومنه قوله تعالى في سورة النّساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} أي وحّدوه.
والثّاني: الطّاعة. ومنه قوله تعالى في يس: {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} وفي سبأ: {أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ}
أما من حيث أفرادها فهي عبادات قلبية كالخوف من الله ومحبته والتوكل عليه ورجاء ما عنده والرهبة من عذابه، ومحبة أوليائه من الأنبياء والمرسلين وعباده المقربين، وأخرى لسانية كذكر الله وقراءة القرآن وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتعليم العلم واللجوء إلى الله بالدعاء، وثالثة بدنية كالطهارة والصلاة والصيام والجهاد، ومن العبادات ما يكون بالمال كالزكاة المفروضة وصدقات التطوع وإطعام الطعام والإنفاق على الأهل والعيال، وبعض العبادات يجتمع فيها البدن والمال كالحج والعمرة، وبعض العبادات فيها الكف عما نحب كالصيام، وبعضها فيه بذل ما نحب كالزكاة والصدقات
تخصيص العبادة بنوع دون غيره: هذه اللفظة دخلها التخصيص كألفاظ أخرى كالعلم والفقه، فصار كثير من الناس إذا سمع كلمة العبادة لا يخطر بباله سوى الشعائر الظاهرة من صلاة وصيام وحج وعمرة، وهي في دين الإسلام أعم وأشمل بحيث تستغرق الزمان والمكان وسائر الأحوال، والمثال الأعلى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسـلم حيث كان يعبد الله جل جـلاله على كل أحواله؛ فكان صمته فكرا ونطقه ذكرا ونظره عبرا، وقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسـلم فما قال لي أف قط، وما رآني مرة إلا تبسم) فالعبادات في الإسلام تتسم بالشمول والتنوع، ومن ذلك:
1- إن الأعمال الصالحة عموماً التي يراد بها نفع الناس والتي لم تصبغ بصبغة تعبدية بحتة يمكن أن تتحول إلى عبادة وذلك بإصلاح النية لله تعالى وابتغاء مرضاته بذلك الفعل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل سلامى من الناس عليه صدقة: كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة ويعين الرجل في دابته فيحمله أو يرفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة) وقال (أحب العمل إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، تطرد عنه جوعاً أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا)
2- إن عمل الإنسان في أمور معاشه عبادة: فقد رأى الصحابة رجلا فعجبوا من جلده ونشاطه فقالوا لو كان هذا في سبيل الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن كان يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)
3- إن الأعمال الغريزية يمكن أن تصبح عبادة بالنية الصالحة قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يأتي شهوته من امرأته قال: (وفي بضع أحدكم صدقة) وكذلك الحال في الأكل والشرب إن قصد بهما التقوي على طاعة الله تعالى
شروط تحول هذه الأعمال إلى عبادة: ويشترط لجميع هذه الأعمال حتى تصبح عبادات يثاب عليها أن تتوفر فيها الشروط التالية:
أ- أن تصاحب جميع هذه الأعمال النية الصالحة قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)
ب- أن يكون العمل مباحاً في ذاته أما إذا كان منهياً عنه فإن فاعله يأثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا)
ج- أن يؤدي ذلك العمل بإتقان وإحسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)
د- أن يراعى فيه الضوابط الشرعية فيجتنب فيه الغش والظلم والفحش لقوله صلى الله عليه وسلم (من غشنا ليس منا) وقال الله تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
ه- ألا يشغله ذلك عن واجب ديني قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}
مقاصد العبادة في الإسلام: عناية القرآن الكريم بمقاصد العبادات تفوق عنايته بتفاصيلها؛ فحين الحديث عن الصلاة يقول الله عز وجل {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وكذلك الصيام {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ومقصد الخشوع في الصلاة والإقبال عليها يتطلب تأجيلها حال الجوع أو العطش أو حقن الإنسان أو حقبه، ومقصد الاجتماع لأدائها مقدم ولو أدى ذلك لتغيير هيئتها كما في صلاة الخوف، والطمأنينة في المشي إليها أولى من الإسراع لإدراك ركعة أو ركعتين، وفي الصيام يقول النبي صلى الله عليه وسـلم “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”
من العبادات التي غفل عنها الناس: عبادة التأمل ومعناه تدقيق النّظر في الكائنات بغرض الاتّعاظ والتّذكّر، وقد ذكر أهل العلم فروقاً دقيقة بين التأمل والتفكر والتدبر فقالوا: التّأمّل قد يكون بالبصر مع استمرار وتأنّ يؤدّي إلى استخلاص العبرة، والتّفكّر جولان الفكر في الأمر الّذي تكون له صورة عقليّة عن طريق الدّليل. أمّا التّدبّر؛ فإنّه يعني النّظر العقليّ إلى عواقب الأمور.
وقد جاءت النصوص القرآنية آمرة بذلك حاثة عليه في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} وقوله {قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} وقوله {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} وقوله {خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقوله {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِير} وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله وقوله {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ} وقوله {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وقوله {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى} وقوله {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
وهذا التأمل المأمور به كما يظهر من الآيات السابق ذكرها يتعلّق بأشياء كثيرة منها:
التّأمّل في عجائب صنع اللّه- عزّ وجلّ- ومنها التّأمّل في خلق الإنسان، ومنها التّأمّل في إحياء اللّه الأرض بعد موتها، ومنها التّأمّل في آثار الأمم السّابقة، وقد كان تأمّل ذلك حريّا بأن يردّهم إلى الصّواب ويحملهم على التّصديق بالوحدانيّة والإيمان بالبعث، ولكن أنّى لهم ذلك، وقد صاروا كالبهائم الّتي لا عقل لها فلا تستنبط شيئا ممّا تراه الأعين، ولو كانوا يعقلون لما فاتهم استخلاص العبر والوصول إلى النّتائج، قال تعالى: .. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}
وهذه العبادة بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسـلم عن عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قالت: كان أوّل ما بدأ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصّادقة في النّوم. فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنّث فيه (وهو التّعبّد) اللّيالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها. حتّى فجئه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ». رواه البخاري.
وقد كان الصالحون من هذه الأمة يتقربون إلى الله تعالى بهذه العبادة؛ فعن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال: «ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة بلا قلب». وقد سأل عبد الله بن عتبة أم الدرداء رضي الله عنها: ما كان أفضل عبادة أبي الدّرداء، قالت: «التّفكّر والاعتبار». وعن عامر بن عبد قيس رضي الله عنه قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون: إنّ ضياء الإيمان أو نور الإيمان التّفكّر.
مفاهيم تتعلق بالعبادة: وقد علمت باستقراء أدلة القرآن والسنة، ومن ذلك:
أولا: أنه لا معبود بحق إلا الله: فقد جاء الإسلام أول ما جاء بكلمة التوحيد وهي كلمة الشهادة التي يصبح بها المرء مؤمنا بالله ورسوله لا إله إلا الله محمد رسول الله وهذه الشهادة تعني أنه لا معبود بحق إلا الله تعالى وبذلك قضى الإسلام على كل ألوان الشرك والتي تناقض كلمة الشهادة ومن أهم الوسائل التي جعلها حماية للتوحيد ما يلي:
– أنه جعل الشرك سببا لإحباط الأعمال والخروج من الدين قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
– سد كل الذرائع المفضية إلى الشرك: فقد حرص الإسلام على سد كل ما يؤدي إلى الشرك؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تعظيمه وإطرائه بما يؤدي إلى الغلو في الاعتقاد فيه فبين بأنه عبد الله ورسوله فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبده ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله)
ثانيا: تحرير العبادة من سلطان الكهنوت:
أ- ذلك أن الأديان السابقة للإسلام بعد تحريفها اتخذ رجالها وسائل ومراسيم كثيرة لم يرد بها شرع الله مما مكنهم من التسلط على رقاب العباد والتأثير على ضمائرهم باحتكار العبادة مما جعل العباد لا يستطيعون الاستقلال في صلاتهم بالله تعالى إلا عبر تلك الوسائط والمراسيم التي تصب في جيوب رجال الدين لذا جاء الإسلام بكل ما يصلح ذلك أو يمنعه ومن ذلك أنه حرر الضمير من كل سلطان غير سلطان الله تعالى فالعلاقة بالله تعالى في الإسلام مفتوحة لكل مؤمن بدون وسائط بل عد اتخاذ هؤلاء الوسائط من الشرك ولو كان الوسيط من الرسل الكرام عليهم السلام. وقد فتح الله تعالى باب دعائه وأمر المؤمنين بذلك فقال {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وقال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أما العلماء فإنما يكون دورهم الشرح والبيان لأحكام الإسلام وشرائعه كما قال الله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} .
ب- أنه حرر العبادة ذاتها من قيود المكان والزمان: فتح المكان كله للعبادة كما فتح الطريق بين العبد وربه قال الله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» . وهذه القاعدة عامة لا يخرج عنها إلا الحج الذي خص بالبيت الحرام إحياء لذكرى إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام جميعا أما الزمان فقد جعل الله تعالى لبعض العبادات مثل الصلوات الخمس ميقاتا قال الله تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} وقال في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أما ما سوى ذلك كله فكله زمان للطاعات المطلقة.
ثالثا: التوازن بين الروح والجسد:
إن مما مسته التحريفات للأديان السابقة على الإسلام مسألة التوازن بين الروح والجسد حيث غلت فئة وأفرطت في شأن الروح بينما غلت الفئة الأخرى وأفرطت في الجانب المادي أما الإسلام فقد تدارك ذلك حفاظا على جوهر الدين والرجوع به إلى صورته الحقة القائمة على التوازن وجاء في ذلك بمبادئ هامة منها:
1- الاعتراف التام بأن لكل من الروح والجسد متطلباته التي يجب إشباعها والوفاء بها قال صلى الله عليه وسلم (إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حقا حقه) وقال الله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} .
وعليه فقد شرع الله تعالى ما يشبع حاجات الروح المتمثلة في عبادة الله تعالى وطاعته كما أباح ما يشبع الجسد وذلك بإحلال الطيبات من الرزق.
2- إن الإسلام جعل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وجعل وظيفة الإنسان في الأرض إعمارها بالصالحات التي تشمل كل خير يقدمه المؤمن لنفسه ولمن حوله من عموم الخلق فلا خصومة في الإسلام بين الدين والدنيا ولا تعارض بين الدنيا والآخرة بل الدنيا ميدان للعمل لتحصيل الآخرة لذا نجد أن الله تعالى يعلم عباده أن يدعوه قائلين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
رابعا التيسير ودفع الحرج في العبادات:
فقد جاء الإسلام بشرائعه جميعا ميسرا رافعا للحرج الذي كان في الديانات السابقة بل قد نص على ذلك صراحة بقوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ومن هنا أخذ العلماء بتلك القواعد كقولهم: (الأمر إذا ضاق اتسع) وقولهم (المشقة تجلب التيسير) وقولهم (الضرورات تبيح المحظورات) وفي هذه تدخل جميع الرخص الواردة في الشريعة الإسلامية مثل رخص السفر من جواز الفطر فيه في نهار رمضان وقصير الصلاة وغير ذلك قال الله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقد علم باستقراء أدلة الشرع أن مظاهر التيسير في ديننا سبعة وهي الإبدال والإنقاص والإلغاء والتقديم والتأخير والترخيص والتغيير، والأمثلة واضحة من نصوص الشرع