1/ أما بعد: فإن أحداثاً ساخنة تشغل المسلمين في هذه الأيام؛ حين يرون بأم أعينهم دماء إخوانهم في غزة تسفك وأرواحهم تزهق وبيوتهم تهدم وحرماتهم تنتهك؛ فيتألم كل ذي قلب حي لهذا الذي يراه ويسمعه، ويتمنى لو كان مع إخوانه ليشد أزرهم ويقوي سواعدهم ويشاركهم مصابهم، هذا الشعور هو الذي عمَّ المسلمين في المشارق والمغارب ـ رجالاً ونساء كباراً وصغارا ـ سوى فئة قليلة جعلت من هذه الأحداث مطية لإظهار حقدها الدفين على الإسلام وأهله ـ رغم كونهم ينتسبون لهذه الأمة بالشارات والعناوين ـ فئة تمثلت في الحكام الظلمة الذين لا يرجون لله وقارا؛ حيث جعلوا من هذه الأحداث سبيلاً لتصفية الحسابات فيما بينهم ونيل المكاسب الدنيوية الوضيعة والتآمر على المسلمين؛ وإسداء الخدمات لأهل الكفر والعهر؛ وإظهار المودة لهم؛ وذلك رغبةً منهم في القضاء على كل حركة إسلامية جهادية تقود الأمة في الاتجاه الصحيح، وفئة أخرى ـ من حملة الأقلام وأصحاب القنوات ـ تمالئ العدو وتزوِّر الحقائق وتثبط الهمم وتقتل العزائم مشتغلة بسفاسف الأمور، حتى حُقَّ لنا أن نتحدث عن النفاق والمنافقين؛ لأن وقت الأزمات والشدائد هو أنسب الأوقات لتجلية حقيقتهم وهتك أستارهم، {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم + ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم} وكما قيل: جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي؛ وقد يقول قائل: إن معركتنا اليوم مع اليهود فما بال الحديث عن المنافقين؟ والجواب أن المنافقين هم إخوة اليهود المنسقون معهم الحريصون على نصرتهم؛ فصلة المنافقين بهم صلة قوية، صلة الحميم بحميمه والأخ بأخيه، صلة الدفاع والحماية والمشاركة في السراء والضراء {أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} مع أنهم ليسوا من اليهود في ديانتهم ولا منهم في أصولهم، وإنما يجمعهم الهدف المشترك وهو الكيد للإسلام فيتوالون عليه {أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولأنهم أعظم خطراً على الدين وأهله من الكفار المعروفين؛ {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين أنهم كثيرون، منتشرون في بقاع الأرض، كما قال الحسن البصري رحمه الله (لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات) وقال ابن القيم (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين!! فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك)
2/ إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً؛ لأنهم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد. فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من عَلَم له قد طمسوه؟ وكم ضربوا بمعاول الشُّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون {أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}
3/ حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) وقد كثر الحديث في القرآن الكريم عن النفاق والمنافقين، صفاتهم وأخلاقهم وأنهم شرُّ أنواع الكفار، وأن مصيرهم في الدرك الأسفل من النار، ومن ثم تحذير المؤمنين منهم لأن بلية المسلم بهم أعظم من بليته بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم {هم العدو فاحذرهم} ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد ها هنا لحصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات الأولية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يُتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها، فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر.
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: نبه الله عز وجل على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خيراً.ا.هـــ
4/ ومن الآيات في تكفيرهم ومصيرهم في الآخرة قوله تعالى {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} وقوله عز وجل {بشر المنافقين بأن لهم عذاباْ أليماْ + الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا} وقوله سبحانه {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وقوله تعالى {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها} {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير + يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمَوا بما لم ينالوا} وقوله عن طائفة من المنافقين {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}
من صور النفاق في أحداث غزة
أ/ من صور النفاق مظاهرة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين، وهذه من أخص صفات المنافقين، فهم في الظاهر مع المؤمنين، لكنهم في الحقيقة مع الكفار عيوناً وأعواناً لهم، يكشفون لهم عورات المسلمين وأسرارهم، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر؛ قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين + فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية بعدما ذكر الخلاف في المعني بهذه الآية: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان.ا.هـــ ومن الآيات الصريحة دلالتها في اتصاف المنافقين بهذه الصفة قوله تعالى {بشر المنافقين بأن لهم عذاباْ أليماْ + الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاْ} قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: فمن صفة المنافقين، يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي، والإلحاد في ديني أولياء يعني أنصاراً وأخلاء من دون المؤمنين، يعني من غير المؤمنين أيبتغون عندهم العزة أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهـل الإيمان بي؟ فإن العزة لله جميعاً يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الأذلاء الأقلاء.ا.هـــ
ب/ من أقوال المنافقين من خلال هذه الأحداث: إنما حدث ذلك كله بسبب ضيق أفق حماس وقلة فهمهم للواقع وضعف خبرتهم بالسياسة الدولية؛ كما قال المنافقون الأولون ـ وعلى رأسهم ابن سلول ـ أيعصيني محمد ويطيع الأحداث، علام يقتل أحدنا نفسه؟ وهكذا المنافقون المعاصرون يعتقدون أن المسلمين لا يستطيعون فعل شيء ولا مواجهة شيء ولا مقاومة عدو، وأنهم ليس لهم من الأمر شيء؛ كما حكى ربنا عن أسلافهم حين قال {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور}
ج/ من أقوالهم: لولا أن حماس أطلقت صواريخها وأفشلت التهدئة لما كان قتال ولا دماء؛ وهذه هي أقوال المنافقين التي حذَّرنا منها ربنا جل جلاله حين قال {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير}
د/ من أقوالهم: إن حماس قد جرَّت على نفسها شراً بهذه الحرب وأغرقت المنطقة في بحر من الدماء؛ وهي الخاسرة ـ دماء وأموالاً ـ والجواب من القرآن {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين + إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}
هـ/ من أقوالهم: يجب محاكمة حماس على هذه الحرب التي جرَّت الناس إليها، وما ذنب المساكين الذين قتلوا!! والجواب: ما كان من حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن جحش ومصعب بن عمير وأصحاب الرجيع وأصحاب بئر معونة، والجواب على هؤلاء من القرآن {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين + وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون + الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}
و/ من أقوالهم: إن الصواريخ التي تطلقها حماس عبثية لا تحدث في العدو النكاية المطلوبة، والجواب: أين السلاح المخزون الذي كُدِّس حتى علاه الصدأ؟ هل استخدم يوماً في حرب اليهود؟ وهل أطلقت منه رصاصة تجاه دولة الصهاينة؟ أما كان الأولى بحكام العرب أن يمكِّنوا المجاهدين من ذلك السلاح أو يمدوهم ببعضه ثم بعد ذلك يوجهون اللوم لهم؟ ثم إن القول بأن هذه الصواريخ عبثية إنما هو كلام الظلمة الذين يريدون تبرير قعودهم عن الجهاد، وهل غزا المسلمون بلاد فارس والروم وهم يملكون مثل أسلحتهم وعتادهم؟
ز/ يقولون: كان الواجب على المجاهدين أن يصبروا حتى يستكملوا قوتهم ويكافئوا قوة الصهاينة ومن بعد يشرعون في الجهاد!! والجواب: هل كانت قوة المسلمين يوم بدر مكافئة لقوة المشركين؟ أما نقرأ في السيرة أنه ما كان لهم سوى فرسين وأن كل ثلاثة كانوا يعتقبون بعيرا؟ هل كانت القوتان متكافئتين يوم مؤتة؟ {ما لكم كيف تحكمون}