1ـ إن التذكير بقيمة الوفاء في أيامنا هذه أمر لا بد منه؛ بعدما رأس البلاد من اختاره الناس، وصار آخرون ولاة على النواحي والأقاليم، واختير فريق ثالث ليكونوا نواباً عن الشعب يحققون آماله، ويلبون مطالبه، ويسعون في مصالحه، ويعملون على ما يضمن لهم العيش الكريم. إن هؤلاء جميعاً ما فازوا إلا بعدما تقدموا للناس ببرامج، وبذلوا لهم وعوداً، وأعطوهم من أنفسهم عهوداً، وإنه ما أقلَّ الوفاء في دنيا الناس اليوم، إن الوفاء هو الصّبر على ما يبذله الإنسان من نفسه ويرهنه به لسانه. والخروج ممّا يضمنه (بمقتضى العهد الّذي قطعه على نفسه) وإن كان مجحفا به، فليس يعدّ وفيّا من لم تلحقه بوفائه أذيّة وإن قلّت، وكلّما أضرّ به الدّخول تحت ما حكم به على نفسه كان ذلك أبلغ في الوفاء
إن للوفاء بالعهود قيمة إنسانيّة وأخلاقيّة عظمى لأنّه يرسي دعائم الثّقة في الأفراد، ويؤكّد أواصر التّعاون في المجتمع، يقول الرّاغب الأصفهانيّ في ذلك: الوفاء: أخو الصّدق والعدل، والغدر: أخو الكذب والجور، ذلك أنّ الوفاء: صدق اللّسان والفعل معا، والغدر كذب بهما، لأنّ فيه مع الكذب نقض للعهد.
والوفاء: يختصّ بالإنسان، فمن فقد فيه (الوفاء) فقد انسلخ من الإنسانيّة، وقد جعل اللّه تعالى العهد من الإيمان وصيّره قواما لأمور النّاس، فالنّاس مضطرّون إلى التّعاون، ولا يتمّ تعاونهم إلّا بمراعاة العهد والوفاء به، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التّعايش. ولذلك عظّم اللّه تعالى أمره فقال )وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ( وقيل في قوله جل جلاله )وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ( أي نزّه نفسك عن الغدر، والوفاء قيمة عظيمة قدّرها عرب الجاهليّة. وقد أقرّهم الإسلام على ذلك، ولا يستطيع ذلك إلّا القليلون، ولقلّة وجود ذلك في النّاس قال تعالى: )وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ( وقد ضرب به المثل في العزّة فقالت العرب: «هو أعزّ من الوفاء».
2ـ إنكم أيها المسلمون مأمورون بطاعة من ولاه الله أمركم والوفاء ببيعته وبذل العون له فيما ولاه الله؛ وقد أمركم بذلك نبيكم صلى الله عليه وسلم حين قال: {كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ. وإنّه لا نبيّ بعدي. وستكون خلفاء فيكثرون} قالوا: فما تأمرنا؟ قال: {فوا ببيعة الأوّل فالأوّل. وأعطوهم حقَّهم. فإنّ اللّه سائلهم عمَّا استرعاهم} وعن عبد الرّحمن بن عبد ربِّ الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد اللّه بن عمرو بن العاص جالس في ظلّ الكعبة. والنّاس مجتمعون عليه. فأتيتهم. فجلست إليه. فقال: كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفر. فنزلنا منزلاً. فمنّا من يصلح خباءه. ومنّا من ينتضل، ومنّا من هو في جشره؛ إذ نادى منادي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الصّلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: {إنّه لم يكن نبيّ قبلي إلّا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم. وإن أمّتكم هذه جعل عافيتها في أوّلها. وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها. وتجيء فتنة فيرقِّق بعضها بعضا؛ وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثمّ تنكشف. وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحبّ أن يزحزح عن النّار ويدخل الجنّة، فلتأته منيّته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر. وليأت إلى النّاس الّذي يحبّ أن يؤتى إليه. ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر} فدنوت منه فقلت له: أنشدك اللّه آنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه. وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل. ونقتل أنفسنا. واللّه يقول )يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً( قال: فسكت ساعة ثمّ قال: {أطعه في طاعة اللّه، واعصه في معصية اللّه}
3ـ وإنكم أيها المسئولون والولاة والنواب، يا رئيس الجمهورية، ويا حكام الولايات، ويا من ستصيرون وزراء ومستشارين، ويا نواب البرلمان: اتقوا الله فيما استرعاكم )وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ # وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( )وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا # وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا( )وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ # وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ألا فاعلموا أن الوفاء بالعهد سمة المؤمنين المتقين؛ فليست التقوى في حقكم ـ أيها المسئولون ـ كثرة صلاة ولا صيام ولا حج ولا عمرة ولا قراءة قرآن، إذ ما يصنع الناس بذلك كله، إن هذه العبادات نفعها قاصر عليكم، وثوابها راجع إليكم، إن التقوى حقيقة أن تتقوا الله فيما ولِّيتم، وأن تجتهدوا في أداء ما ائتمنكم الناس عليه )ليْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( )بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ # إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ( إن الموفي بعهده هو البصير حقاً، هو العالم حقاً، هو الذي يعلم أن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، هو الذي يدرك أن بعد الحياة موتاً، وبعد الموت بعثاً، وبعد البعث جنةً أو ناراً )أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ # الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ # وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ # وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ # جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ # سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ( ما أسعدك يا من وفيت بعهدك، ويا من صدقت في وعدك، )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا # لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً( إن الوفاء بالعهد خلق النبيين وسمة الصالحين )أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى # وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى # أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى # وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى # وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى # ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى( )وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا # وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا( )إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً( عن عبادة بن الصّامت t أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: {اضمنوا لي ستّا من أنفسكم أضمن لكم الجنّة: اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم}