فقد ابتلى الله البشرية بوباء يسببه كائن مجهري دقيق، فيه تجلّت قدرة الله وعظمته وبان للنّاس جبروته وسلطانه في زمنٍ افتتن فيه الخلق بقوتهم، فطغوا في سائر البلاد وأكثروا فيها الفساد وبغوا على المستضعفين من العباد! فسلّطه الله عليهم وأتاهم الهلاك من حيث لا يرون ولا يشعرون، فأذل به رقاب الجبابرة والأباطرة! الذين قالوا من أشدُّ مِنّا قوةً أو لم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟
وهذا اليوم المبارك – يوم الجمعة – قد عطلت الصلوات في كثير من البلاد مخافة انتشار العدوى، وطلباً للسلامة، فيا حسرة على العباد حين يعصون ربهم جل جلاله!
أولاً: إنّ الله جلّ وعلا يبتلي عباده بالخير والشر وفق حكمته وهذه الأوبئة الخفية الفتّاكة وما تعيشه البشرية اليوم من الهلع والفزع خوفاً من فيروس كورونا إنّما هو بسبب تمردهم على الله قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وإنّ من رحمة الله بعباده إذا غفلوا أن يذكرهم ويخوفهم ببعض جنده وآياته! وما يعلم جُنود ربّك إلاّ هو وماهي إلا ذكرى للبشر
فعلى الناس أن يتوبوا التوبة النصوح حباً لله وتعظيماً وخوفا ورجاء لا هلعاً ولا جزعاً من الوباء وأن يعتبروا بسنن الله وأن يعودوا الى دين الله وشرعه وأن يجهدوا في التضرع والذِّلة والانكسار لله؛ قال تعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فأمّا الموفقون فإلى التضرع يفزعون، وأما المخذولون فكما قال الله فيهم: {ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرًا}
ثانياً: من أعظم أسباب الوقاية من الأوبئة وسائر الآفات؛ المحافظة على الأوراد الشرعية وأذكار الصباح والمساء وقد حَـفِـظَ الله عبادَه بها، فلا يؤتى العبد إلا من قِـبَـل تفريـطـه فيها. ومن تلكم الأذكار ما ثبت عن أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ) وقَالَ: فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟! فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا!! وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي البَارِحَةَ، قَالَ: أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ) وفي رواية للترمذي: (مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ حُمَةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةِ) وقد أورد الترمذي عقب الحديث عن سُهيل بن أبي صالح – أحد رواته – أنَّه قال: ( كان أهلُنا تعلَّموها ، فكانوا يقولونَها كلَّ ليلةٍ ، فلُدغَت جارِيَةٌ منهم ، فلَم تَجِدْ لَها وجَعاً) ومن الأذكار التي تقي من السوء وتدفع الضرر بإذن الله ما رواه عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال: (خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ فَقَالَ: أَصَلَّيْتُمْ؟ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا. فَقَالَ: قُلْ. فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ: قُلْ. فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ: قُلْ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) رواه أبو داود والترمذي، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ البرصِ والجنونِ والجذامِ ومن سيِّئِ الأسقامِ. أخرجه أبو داود بسند صحيح، وعَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، قَدِ احْتَرَقَ بَيْتُكَ، قَالَ: مَا احْتَرَقَ، اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِكَلِمَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَالَهُنَّ أَوَّلَ نَهَارِهِ؛ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ النَّهَارِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).أخرجه ابن السني في ((عمل اليوم والليلة) والبيهقي في ((دلائل النبوة)) وفي ((الأسماء والصفات)) والحافظ ابن حجر في ((نتائج الأفكار)).
٧_ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “من قرأ حم المؤمن إلى [إِلَيْهِ المَصِيرُ] (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)
وآية الكرسي حين يصبح حُفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حُفظ بهما حتى يصبح” أخرجه الترمذي والدارمي بلفظ: “لم ير شيئًا يكرهه “
ثالثاً: على الأصحاء أن يتجنبوا أسباب البلاء والوباء مع تحقيق التوكل على الله وتجريده وحقيقة التوكل هو تفويض الأمر إلى الله مع بذل الاسباب المشروعة فالذي يهمل الاسباب المشروعة ويعرض نفسه للوباء زاعماً التوكل فقد أخطأ مفهوم التوكل، والذي يعتقد أنّ الأسباب هي الفاعلة بذاتها وقع في الشرك
وقد جاء في هدي النّبي صلى الله عليه وسلم بيان حقيقة التوكل عند نزول الأمراض والأوبئة قال صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه مسلم، وقد تداوى النّبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالحجر الصحي في قوله: صلى الله عليه وسلم (لا يورد ممرض على مصح)رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) رواه البخاري، وجاءه صلى الله عليه وسلم وأخرج مسلم في الصحيح من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: (كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك فارجع) فرجع الرجل ولَم يمس النّبي صلى الله عليه وسلم يده) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها) رواه البخاري
رابعاً: الواجب على من كان مريضاً بهذا الوباء أو حاملاً لمسببه بشهادة أهل الطب، أن يأخذ التدابير المشروعة المأمور بها، وعليه أن يبتعد عن كل ما يفضي إلى انتشار المرض وتفشي الوباء كالتجمعات وأماكن الزحام، ويمتنع من حضور الجمع والجماعات في المساجد
خامساً: اختلفت الآراء وتعددت أقوال علماء هذا الزّمن في تعطيل الجمع والجماعات وإغلاق المساجد عند الصلوات سدّاً لذريعة تفشي هذا الوباء؛ وبالنظر في أقوالهم وسبر أدلتهم نقول وبالله التوفيق:
لا تغلق المساجد عند الصلوات ولا تُعطّل الجُمَع والجماعات ويتّخِذ المصلون أسباب الوقاية ويتجوزون في صلواتهم، ومن كان ضعيفاً أو يخاف على نفسه فله عذر في التخلف عن الجمعة والجماعة، أمّا من كان مريضاً بالوباء أو حاملاً لمسببه فيمنع من شهود الجمع والجماعات
وعلى الناس أن يعلموا علم اليقين أنّ قدرة الله فوق كل قدرة وأنّ الأسباب لا تعمل بذاتها وإلّا لكان هذا الداء أصاب كل الناس؛ فالصين يفوق عددهم المليار ونصف المليار وظهرت قدرة الله وحكمته فيهم فلم يصب الوباء إلّا نسبةً قليلة منهم ولم ينتقل المرض الى جميع السُّكّان؟ وهكذا المرض يتحرك ويصيب هنا وهناك من الصين الى أمريكا إلى أوربا إلى إيران إلى الخليج ويتجاوز كثير من البلاد تلك إرادة الله وليستبين للناس أنّ سائر أمور الخلق بتقديره وتدبيره وأنّ العدوى لا تنتقل بذاتها، وأنّ المتصرف هو الله وما فيروس كورونا إلا جند من جنوده يرسله حيث شاء