خطب الجمعة

الوقت في حياة المسلم

خطبة يوم الجمعة 6/9/1435 الموافق 3/7/2014

1- فالحمد لله الذي بلغنا شهود هذه الأيام المباركة التي يكثر خيرها ويقل شرها، أيام تفتح فيها أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد فيها مردة الشياطين، أيام تضاعف فيها الحسنات، وتكفر السيئات، وتغفر الخطيئات، وتقال العثرات، وترفع الدرجات، أيام العاقل فيها غانم موفق مسدد، والغافل فيها خاسر مخذول مغبون، وقد نزل جبريل على النبي محمد صلى الله عليه وسـلم فقال له “رغم أنف امرئ دخل عليه رمضان ثم خرج فلم يغفر له” أسأل الله تعالى أن يجعلنا فيها من الفائزين الرابحين

2- أيها المسلمون: إن رأس مال المسلم في هذه الدنيا هو الوقت الذي هو مادة الحياة. والوقت أنفس من المال وأغلى، أرأيت لو أن محتضراً وضع أمواله جميعا ليزاد في عمره يوم واحد هل يحصل له ذلك التمديد وتلك الزيادة؟!

ولعظم أهمية الوقت فقد أقسم الله به عز وجل في آيات كثيرة من كتابه الكريم منها؛ فقال سبحانه {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقال سبحانه {والفجر وليال عشر}

فأقسم جل وعلا بالعصر، وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والأعمال الصالحة للمؤمنين، وزمن الشقاء للمعرضين، ولما فيه من العبر والعجائب للناظرين. وأقسم جل جلالـه بالفجر وأقسم بالضحى وأقسم بالليل والنهار والشمس والقمر؛ لأن هذه كلها من نعمه على عباده؛ يقول عز وجل في بيان هذه النعم العظيمة التي هي من أصول النعم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. وقال تعالى {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

3- وعنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ» أخرجه الترمذي وهو صحيح. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» أخرجه البخاري. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ” المستدرك وهو صحيح

4- إن الله عز وجل خلقنا لأمر عظيم حدد الإجابة فيه بآية كريمة فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} وقال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}

ومن جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان، وفي هذا يذكر القرآن الكريم موقفين الإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:

الموقف الأول: ساعة الاحتضار، حيث يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأُخِّر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فات. قال تعالى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ}  وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}

الموقف الثاني: في الآخرة، حيث تُوفَّى كل نفس ما عملت وتُجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف، ليبدؤوا من جديد عملاً صالحا. قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} وقال سبحانه {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

5- وعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِجُلَسَائِهِ: “يَا مَعْشَرَ الشُّيُوخِ: مَا يُنْتَظَرُ بِالزَّرْعِ إِذَا بَلَغَ؟ قَالُوا: الْحَصَادُ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ: إِنَّ الزَّرْعَ قَدْ تُدْرِكُهُ الْعَاهَةُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ” (الزهد للبيهقي)

إن وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإلا عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته.

6- الواجب على المؤمن المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل ألا يقدر عليها، إما لموت أو شغل أو غير ذلك من الحوادث {بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً} {لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون؛ فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}

7- الندم يوم القيامة على ما ذهب من أوقات في غير طاعة (أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله) (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل)

8- إذا كان حفظ الوقت مطلوباً في كل حين فهو آكد ما يكون في هذا الشهر المبارك الذي قال الله عنه (أياماً معدودات) الشهر الذي خصه الله تعالى بأنواع الخيرات والبركات والرحمات؛ ففيه أسباب المغفرة مبذولة، وسبل الخير متاحة، والسعيد من اغتنم وقته في طاعة ربه قبل أن يحال بينه وبين ما يشتهي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى