1- الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى: {قل آمنَّا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وَالنَّبِيُّونَ من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون}. ومن لم يؤمن بالرسل ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً}
2- الذين يزعمون أنَّهم مؤمنون بالله ولكنّهم يكفرون بالرسل والكتب هؤلاء لا يقدرون الله حقَّ قدره، {وما قدروا الله حقَّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيءٍ} فالذين يقدرون الله حقَّ قدره، ويعلمون صفاته التي اتصف بها من العلم والحكمة والرحمة لا بدَّ أن يوقنوا بأنَّه أرسل الرسل وأنزل الكتب، لأن هذا مقتضى صفاته، فهو لم يخلق الخلق عبثاً، {أيحسب الإنسان أن يترك سُدًى}.
ومن كفر بالرسل وهو يزعم أنَّه يؤمن بالله فهو عند الله كافر لا ينفعه إيمانه، قال تعالى: {إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً – أولئك هم الكافرون حقّاً} فقد نصَّت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل {ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله}، يقول القرطبي في هذه الآية: “نصّ سبحانه على أنَّ التفريق بين الله ورسله كفر، وإنَّما كان كفراً لأنَّ الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردّوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية، وكذلك التفريق بين الله ورسله”.
3-الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، قال تعالى: {كذَّبت قوم نوحٍ المرسلين}، وقال: {كذَّبت عاد المرسلين}، وقال: {كذَّبت ثمود المرسلين}، وقال: {كذَّبت قوم لوطٍ المرسلين}، ومن المعروف أنَّ كلَّ أمةٍ كذَّبت رسولها، إلا أن التكذيب برسول واحد يعدّ تكذيباً بالرسل كلِّهم، ذلك أنَّ الرسل حملة رسالة واحدة، ودعاة دين واحد، ومرسلهم واحد، فهم وحدة، يبشر المتقدم منهم بالمتأخر، ويصدق المتأخر المتقدم.
ومن هنا كان الإيمان ببعض الرسل والكفر ببعض كفراً بهم جميعاً، وقد وسم الله من هذا حاله بالكفر {إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً – أولئك هم الكافرون حقّاً}، وقد أمرنا الله بعدم التفريق بين الرسل والإيمان بهم جميعاً {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيُّون من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون}، ومن سار على هذا النهج فقد اهتدى {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}، والذي يخالفه فقد ضلَّ وغوى {وَّإن تولَّوا فإنَّما هم في شقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وهو السَّميع العليم}
وقد مدح الله رسول هذه الأمة والمؤمنين الذين تابعوه لإيمانهم بالرسل كلهم، ولعدم تفريقهم بينهم، قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من رَّبه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رُّسله} ووعد الله الذين لم يفرقوا بين الرسل بالمثوبة والأجر الكريم {والَّذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحدٍ منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رَّحيماً} وقد ذم الله أهل الكتاب لإيمانهم ببعض الرسل وكفرهم ببعض {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وَرَاءهُ وهو الحقُّ مصدقاً لما معهم}
4- هل صحيح أنَّ البشرية بلغت – اليوم – مبلغاً يجعلها تستغني عن الرسل وتعاليم الرسل؟ وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيداً عن منهج الرسل؟
يكفي في الإجابة أن ننظر في حال تلك الدول التي نسميها متقدمة متحضرة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين – لنعلم مدى الشقاء الذي يغشاهم، نحن لا ننكر أنَّهم بلغوا في التقدّم المادي شأواً بعيداً، ولكنّهم في الجانب الآخر الذي جاء الرسل وجاءت تعاليمهم لإصلاحه انحدروا انحداراً بعيداً.
لا ينكر أحد أنَّ الهموم والأوجاع النفسية والعقد النفسية – اليوم – سمة العالم المتحضر، الإنسان في العالم المتحضر اليوم فقد إنسانيته، خسر نفسه، ولذلك فإن الشباب هناك يتمردون، يتمردون على القيم والأخلاق والأوضاع والقوانين، أخذوا يرفضون حياتهم التي يعيشونها، وأخذوا يتبعون كل ناعق من الشرق أو الغرب يلوِّح لهم بفلسفة أو دروشة أو سفسطة يظنون فيه هناءهم، لقد تحوّل عالم الغرب إلى عالم تنخر الجريمة عظامه، وتقوده الانحرافات والضياع، لقد زلزلت الفضائح أركان الدول الكبرى، والخافي أعظم وأكثر من البادي، إن الذين يسمّون – اليوم – بالعالم المتحضر يخربون بيوتهم بأيديهم، حضارتهم تقتلهم، حضارتهم تفرز سموماً تسري فيهم فتقتل الأفراد، وتفرق المجتمعات، الذين نسميهم اليوم بالعالم المتحضر كالطائر الجبّار الذي يريد أن يحلق في أجواز الفضاء بجناح واحد.
إننا بحاجة إلى الرسل وتعاليمهم لصلاح قلوبنا، وإنارة نفوسنا، وهداية عقولنا … ونحن بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في الحياة، وعلاقتنا بالحياة وخالق الحياة. نحن بحاجة إلى الرسل كيلا ننحرف أو نزيغ فنقع في المسنقع الآسن.
5- قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: قال: “الرسالة ضرورية للعباد، لا بدَّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأيُّ صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كمن مَّثله في الظُّلمات ليس بخارجٍ منها}، فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأمّا الكافر فميت القلب في الظلمات”.
وبيَّن رحمه الله تعالى: “أن الله سمّى رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقدت الحياة، قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَّهدي به من نَّشاء من عبادنا}، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور، فالروح الحياة، والنور النور” وبيَّن رحمه الله تعالى: “أن الله يضرب الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونوراً لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنَّار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: {أنزل من السَّماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السَّيل زبداً رَّابياً وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً وأمَّا ما ينفع النَّاس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}
يقول شيخ الإسلام رحمه الله معقباً على الآية: “فشبه العلم بالماء المنزل من السماء لأن به حياة القلوب، كما أنَّ بالماء حياة الأبدان، وشبّه القلوب بالأودية، لأنّها محلّ العلم، كما أنَّ الأودية محل الماء، فقلب يسع علماً كثيراً، وواد يسع ماءً كثيراً، وقلب يسع علماً قليلاً، وواد يسع ماءً قليلاً، وأخبر تعالى أنَّه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنّه يذهب جفاءً، أي: يرمى به، ويخفى، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاءً، ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال: {وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل}. فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء.
وبين رحمه الله أن لهذين المثالين نظيراً “وهما المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الَّذي استوقد ناراً فلمَّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون – صمُّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون – أو كصيبٍ من السَّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين}.
وبعد أن بيَّن الشيخ رحمه الله وصف المؤمن، بين وصف الكافر، فقال: “وأمّا الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حيّ، وإن كانت حياته حياة بهيمية، فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها الإيمان، وبها حصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإنّ الله – سبحانه – جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه “.
ثم بيّن رحمه الله هذه الأصول التي أشار إليها هنا فقال: “فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصّها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم.
والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه. والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنّة والنار والثواب والعقاب”.
6- يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم ((مفتاح دار السعادة)) مقارنة بيّن فيها أنّ حاجة الناس إلى الشريعة أعظم من حاجتهم إلى علم الطب مع شدّة حاجة الناس إليه لصلاح أبدانهم، فحاجتهم إلى الرسالة أعظم من حاجتهم إلى غيرها من العلوم، قال: “حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمَّا أهل البدو كلهم، وأهل الكفور كلّهم، وعامة بني آدم – لا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحُّ أبدانا، وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب، ولعّل أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم، وجعل لكلّ قوم عادة وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إنَّ كثيراً من أصول الطب إنما أخذت من عوائد الناس، وعرفهم وتجاربهم.
وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلاً عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن، وتعطل الروح عنه، وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبد، وشتان بني هذا وهلاك البدن بالموت، فليس النّاس قطّ إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاّ بالعبور على هذا الجسم” .
هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي: يزعم الناس في عالم اليوم أنّه يمكنهم الاستغناء عن الرسل والرسالات بالعقول التي وهبهم الله إياها، ولذلك نراهم يسنُّون القوانين، ويحلُّون ويحرمون، ويخططون ويوجهون، ومستندهم في ذلك كلّه أن عقولهم تستحسن ذلك أو تقبحه، وترضى به أو ترفضه، وهؤلاء لهم سلف قالوا مثل مقالتهم هذه “فالبراهمة – وهم طائفة من المجوس – زعموا أن إرسال الرسل عبث، لا يليق بالحكيم، لإغناء العقل عن الرسل، لأنّ ما جاءت به الرسل إن كان موافقاً للعقل حسناً عنده فهو يفعله، وإن لم يأت به، وإن كان مخالفاً قبيحاً – فإن احتاج إليه فعله وإلاّ تركه”
الخطبة الثانية
قد بلغت حياة الناس مبلغاً عظيماً من الضنك والضيق، وعادت صفوف الخبز طويلة، ولربما ضيع كثير من الناس وقتاً نفيساً في البحث عن رغيف يسد جوعتهم، والبلاد تنتقص من أطرافها فيبلغ عملاء الحركة الشعبية أن يدخلوا مدينة أبي زبد في غرب كردفان ويعيثوا فيها فسادا، ثم يخرجون دون خسائر تلحقهم، والواجب علينا في مثل تلك الأحوال أن نتوب إلى الله ونرجع إليه ليكشف ما بنا، لكن أهل الريبة والفساد لا يريدون ذلك فتخرج علينا صحف الثلاثاء مبشرة بأن وفداً أمريكياً من إحدى المنظمات قد وصل إلى البلاد من أجل أن يعقد دورة لنحو مائتي شاب يعلمهم فنون الرقص‼ وناشر الخبر ينقل على لسان بعضهم أن ذلك يأتي لتجسير الهوة في العلاقات بين السودان وأمريكا.