1/ الربا من معاملات اليهود والمشركين: كان من أعظم أمور الجاهلية، وتعاملاتهم المالية ممارسة الربا وكسب الأموال عن طريقة، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن إلغاءه على مسمع من الناس في حجة الوداع حينما خطبهم فقال: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ثم قال: وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) واليهود يتعاملون بالربا حتى كان أكلهم له سبباً من أسباب عقوبتهم كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع الحيل وصنوف من الشبه.
ولم يفارق اليهود عادتهم القديمة؛ فأباطرة الربا في هذا العصر وملاك كبريات مؤسساته ومصارفه هم من اليهود، وهم الذين أفسدوا اقتصاد العالم، ونشروا المعاملات المحرَّمة، وحطموا أسعار كثير من العملات، وأفقروا كثيراً من الشعوب. فمن تعامل بالربا فقد تشبه بأعداء الله تعالى من المشركين واليهود، وكفى بذلك إثمًا وخسرانا.
2- أنه محاربة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم: جاء الزجر عن الربا في كتاب الله تعالى عنيفاً شديداً؛ إذ هو من الذنوب العظائم القلائل التي وصف اقترافها بمحاربة الله ورسوله. وإذا كان قطاع الطريق يحاربون الله تعالى بإشهار السلاح، وإزهاق الأرواح، واغتصاب الأموال، وترويع الآمنين، وقطع السبيل؛ فإن أكلة الربا يحاربون الله تعالى بدمار المجتمعات، والإفساد في الأموال مما يؤدي إلى الفساد في الأرض، وتوسيع الهوة بين الطبقات مما يلزم منه حدوث الجرائم وكثرة الخوف، وقلة الأمن.
إن أكلة الربا لا يرفعون السلاح كما يرفعه قطاع الطريق، ولا يأخذون المال عنوة؛ ولكنهم يمتصون دماء الفقراء وهم يبتسمون لهم!! وينتبهون أموال الناس وهم يربتون على أكتافهم!! إنها محاربة ماثلت في بشاعتها محاربة قطاع الطريق؛ ولكنها أوسع نطاقاً، وأكثر تنظيماً ومخادعة؛ ففاقت في انتشارها وقبحها رفع السلاح وانتهاب الأموال بالقوة، وقد قال الله تعالى محذراً منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} وويل ثم ويل لمن حارب الله تعالى وهو يمشي على أرضه، ويأكل رزقه، وينعم بفضله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقال قتادة السدوسي رحمه الله تعالى (أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون؛ فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا) ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية قد أومأت إلى سوء خاتمة أكلة الربا.
3- أن فيه كفراً لنعمة المال: لم يكتف المتعامل بالربا بما رزقه الله من مال، ولم يشكر نعمة الله تعالى به عليه؛ فأراد الزيادة ولو كانت إثماً، فكان كافراً لنعمة ربه عليه؛ فمال ماله إلى المحق ونزعت البركة، كما قال الله تعالى ((يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ)). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل).
4- أن الربا مخل بالإيمان: كل معصية تخل بإيمان العبد، وعلى قدر المعصية يكون اختلال الإيمان؛ إذ إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما هو مذهب السلف الصالح وأتباعهم بإحسان، وقد قال الله تعالى في شأن الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال القاسمي رحمه الله تعالى (فبيَّن أن الربا والإيمان لا يجتمعان). ولذا كان المتعامل حقيقًا باللعن والطرد من رحمة الله تبارك وتعالى. قال جابر رضي الله عنه: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء}.
5- أنه من المهلكات للأفراد والأمم: أما الأفراد فقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الربا من التسع الموبقات، ثم عده في السبع الموبقات التي حذر منها وأمر باجتنابها.
وأما على مستوى الأمم فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه: (ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلُّوا بأنفسهم عقاب الله) وكفى بذلك زاجراً عنه للأمم التي تود المحافظة على اقتصادها، وتخشى الكوارث والنوازل.
6 – الربا أعظم إثماً من الزنا: ورد في السنة النبوية أحاديث كشفت حقيقة تلك الجريمة النكراء، وأبانت بشاعتها وقبحها بما يردع كل مؤمن بالله تعالى والدار الآخرة عن مقاربتها بله مقارفتها؛ ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم} وكذا حديث عبد الله بن حنظلة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {درهمُ ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية}. قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (قوله: أشد من ست وثلاثين… إلخ يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها؛ لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح) ومن نظر في هذين النصين وشواهدهما من السنة النبوية تبين له أن قليل الربا أعظم من كثير الزنا، مع ما في الزنا من فساد الدين والدنيا؛ حيث سماه الله تعالى فاحشة وساء سبيلا، ونهى عن الاقتراب منه كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}، وحرمت الشريعة الطرق المفضية إليه، وسدت الذرائع الموصلة له، وفيه خيانة كبرى لزوج المزني بها ووالديها وأسرتها، ويؤدي إلى فساد الأخلاق وارتفاع الحياء، واختلاط الأنساب، وفشو الأمراض، وحصول الشكوك، وتبرؤ الزوج من نسبة ابن زوجته الزانية وملاعنتها على ذلك، وربما حصل عنده شك في أولاده من زوجته قبل زناها إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة التي استوجبت أن يكون حد الزناة المحصنين الرجم بالحجارة حتى الموت. وحد غير المحصنين الجلد والتغريب، ورد شهادتهم ووصفهم بالفسق إلا أن يتوبوا، ومصيرهم في البرزخ إلى تنور مسجور تشوي فيه أجسادهم. رغم ما تقدم كله فإن الدرهم من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية؛ فإذا كان هذا في درهم واحد فكيف بحال من يأكلون الألوف من الربا بل الملايين والمليارات؟ وكم هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا الخبيثة، ومن كانت وظيفته كتابة الربا، أو الدعاية له، أو حراسة مؤسسته؟ وما هو مصير جسد ما نبت إلا من ربا، وأولاد ما أطعموا إلا من كسبه الخبيث وما غٌذّيت أجسادهم إلا عليه، فما ذنبهم أن تبنى أجسادهم بالسحت؟
ما الصلة بين الربا والزنا؟ إن المتأمل للحديثين السابقين وما في معناهما يجد أن ثمة علاقة وثيقة بين جريمتي الربا والزنا، وأن الربا أشد جرماً من الزنا؛ فما هو السر في ذلك يا ترى؟ إن الذي يظهر لي والعلم عند الله تعالى أن من أهم أسباب انتشار الزنا في الأمم تعامل أفرادها بالربا، ودرهم الربا ضرره على الأمة كلها، أما الزنا فضرره مقصور على الزاني والزانية وأسرتها وولدها ولا يتعدى ذلك في الغالب إذا لم يكن ثمة مجاهرة به، وإقرار له.
إن الطبقية التي يصنعها الربا بين أبناء الأمة الواحدة، والفجوة بين الفقراء والأغنياء التي تزداد اتساعاً وانتشاراً كلما تعامل الناس بالربا تجعل الفقير كلما اقترض تضاعفت ديونه، وازداد فقره واشتد جوعه؛ حتى يٌضعٍفَ الفقر والجوع والحاجة غيرته على عرضه، فلا يأبه إن زنت محارمه إذا كان من وراء ذلك عائد مالي يقلل فقره ويشبع بطنه. وما زنت الزانية المحتاجة أول ما زنت إلا لما جاع بطنها، وصاح رضيعها واحتاج أهلها، ولربما أمرها وليها بالزنا عوذاً بالله من أجل أن تطعم أسرتها. وإذا انكسر حياؤها مرة فلن ينجبر أبداً حتى تتخذ الزنا مهنة لها إلا أن يشاء الله تعالى؛ والواقع يشهد ذلك في كل البلاد التي عمّ فيها الربا، وزال من أفرادها الإحسان؛ حتى أصبح المال في أيدي عدد قليل من عصابات المرابين، وأما بقية الناس فيغرقون في ديونهم، ويموتون جوعًا وفقرًا.
فالربا ليس سبباً في وقوع الزنا فحسب؛ بل هو سبب لانتشاره في الأمم، وإذا كان الزنا جريمة أخلاقية؛ فإن الربا جريمة أخلاقية مالية تجر إلى كوارث عدة من انتشار البطالة والفقر والجوع والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة.
7- المتعامل بالربا يُعذَّب في قبره وعند نشره: الربا من المعاملات التي أجمعت الشرائع السماوية كلها على تحريمه، الآخذ والمعطي فيه سواء. وآكل الربا يُبعث يوم القيامة وهو يتخبط في جنونه كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: (بعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق)، وقال وهب بن منبه: {يريد أن بُعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}، إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون. ويشهد لهذا المعنى حديث مرفوع فيه ضعف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أتيت ليلة أسرى بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها حيات تُرى من خارج بطونهم؛ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلةُ الربا} رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن أبي حاتم، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
وأما عذابه في البرزخ فكما جاء في حديث المنام عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأتينا على نهر – حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم – وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، فيأتي ذلك السابح إلى ذلك الذي جمع الحجارة عنده، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً حتى يذهب به سباحة إلى الجانب الأخر وذكر في تفسيره في آخر الحديث أن ذلك السابح الناقل للحجارة أكل الربا. قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى: إنما عوقب أكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر. وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً، وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من ورائه يمحقه.
8- أن المتعامل به ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء} قال النووي رحمه الله تعالى: هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابين، والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل. وقال الصنعاني: أي دعا على المذكورين بالإبعاد عن رحمة، وهو دليل على إثم من ذكر وتحريم ما تعاطوه، وخص الأكل لأنه الأغلب في الانتفاع، وغيره مثله.
أضرار الربا الدنيوية
إذا تلوثت الأجواء أصاب كل من يتنفس الهواء نصيب من هذا التلوث، وإذا تكدرت المياه دخل شيء من كدرتها جوف كل شارب منها، وهكذا يقال في كل شيء متلوث يباشره الناس، حتى الأموال إذا داخلها الكسب الخبيث أصاب المتعاملين بها بيعًا وشراءً، وأخذًا وعطاءً شيء من خبثها وسحتها؛ فكيف إذا كانت بنية الاقتصاد العالمي على الكسب الخبيث؛ وفقًا للنظرية الرأسمالية المبنية على الحرية المطلقة في الأموال، والمقررة أن الغاية تسوِّغ الوسيلة؟ فلا شك – والحال ما ذكر – أن تتلوث الأموال عالميًا بالكسب الخبيث؛ حتى إن من حاول الاحتراز والتوقي يصيبه رذاذ خبث الأموال، وغبار الربا المتصاعد منها، مصداقًا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره) رواه أصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي.
وإذا كان الأمر كذلك فإن حصول أضرار دنيوية اقتصادية واجتماعية وغيرها متحقق ولا مفر منه في كل أمة انتشر فيها الربا وما يتبعه من كسب خبيث كما دلت على ذلك النصوص والعقل وواقع حال البشر في هذا العصر الذي علا فيها شأن الاقتصاد المبني على الربا على الشؤون الأخرى. ومن تلكم الأضرار الدنيوية ما يلي:
1/ أن الربا سبب للعقوبات ومحق البركات: قال الله تعالى: ((يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ)). ونظير هذه الآية قوله تعالى ((وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ)) والآيتان دالَّتان على مباركة المال بالصدقة لترغيبهم فيها، ومحقه بالربا لترهيبهم وتنفيرهم منه، ولا سيما أن النفوس البشرية تحب تملك المال وتنمية له؛ فبيَّن الله تعالى أن البركة تحصل بالصدقة، والمحق يحصل بالربا. قال الرازي: لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ذكر ها هنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير؛ فبين تعالى أن الربا وإن كان في زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأن الصفة وإن كانت نقصانًا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل ألا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف، بل يعول على ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف.
والظاهر أن محق الربا للمال يكون في الدنيا والآخرة؛ لعموم النصوص وعدم تخصيصها المحق بدار دون أخرى: ومن صور محقه في الدنيا: عدم بركته، وإنفاقه فيما لا يعود على صاحبه بالنفع بل فيها يصره؛ ليقينه أنه كسب خبيث فينفقه في خبيث أيضاً، فيكتسب به إثمين: إثمًا في الاكتساب وإثمًا في الإنفاق؛ ذلك أن كسب المال في حرام لا يجيز إنفاقه في الحرام كما يظن كثير ممن يتخوضون في الحرام.
ثم إن من استغل حاجة الفقراء وأكل أموال الناس بالربا فإنهم يبغضونه ويلعنونه ويدعون عليه؛ مما يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله، وإذا جمع مالاً عظيماً بالباطل توجهت إليه أطماع الظلمة والغاصبين، ويشجعهم على ذلك أنهم لا يرون أحقيته بالمال، فيسوغون لأنفسهم أخذه منه أو مشاركته فيه.
ومن صور محقه في الآخرة: عدم تسخيره في الطاعة لعلمه أنه محرم، ولو تصدق به أو حج أو أنفق في وجوه البر لكان حرياً بالرد وعدم القبول؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، ثم إن ما يحصل له من شدة الحساب والعذاب المرتب على الربا في البرزخ وعند النشر من أعظم المحق، ذلك أن الأصل في المال منفعة ينفع صاحبه، والمرابي عاد عليه ماله بالضرر. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلٍّ) أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. قال المناوي رحمه الله: أي أنه وإن كان زيادة في المال عاجلاً يؤول إلى نقص ومحق آجلاً بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك؛ فهو مما يكون هباء منثورا. قال الطيبي: والكثرة والقلة صفتان للمال لا للربا؛ فيجب أن يقدر: مال الربا؛ لأن مال الربا ربا. ولا يشك مؤمن أن القليل المبارك من المال خير من الكثير الممحوق البركة ولو كان الكثير محل إعجاب الناس وتطلعاتهم ورغباتهم؛ ولذا قال الله تعالى {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والواقع المشاهد يؤكد هذه الحقيقة التي قررتها نصوص الشريعة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي والأممي.
2/ أما على المستوى الفردي فإن أكثر الناس في هذا العصر – عصر الربا – يشكون من قلة بركة أموالهم رغم كثرة دخولاتهم وتعدد سبل كسبها. أما على المستوى الأممي – العالمي – فرغم اختراع الآلة، واستغلال ثروات الأرض، وتنوع الصناعات، وتعدد الزراعات التي أصبح الإنسان المعاصر ينتج منها في اليوم ما لم يستطع إنتاجه من قبل في سنوات؛ حتى صارت أرقام الإنتاج الزراعي والصناعي أرقامًا عالية جداً؛ رغم ذلك كله فإن أكثر سكان الأرض يعيشون فقراً، ولا يجدون كفافاً وفي كل يوم يموت منهم جموع من الجوع والمرض، فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية؟ لِمَ لَمْ تسد جمع الملايين من البشر وهي تبلغ ملايين الملايين من الأطنان؟ فما كانت إذن قلة إنتاج، ولكنها قلة بركة فيما ينتجون ويزرعون ويصنعون!! وأما حلول العقوبات، فإن المحسوس المشاهد منها الذي يعاني منه البشر في عصر الربا من التنوع والكثرة بما لا يعد.
3/ وهناك عقوبات معنوية يعاني منها أكثر الناس ولم يكتشفوا سر تلك المعاناة ومنها: استعباد المادة للإنسان بحيث تحولت من كونها وسيلة لراحته وهنائه إلى غاية ينصب في تحصيلها، ثم يشقى بحفظها، ويخشى فواتها.
وتلك عقوبة أيُّ عقوبة!! إن الإنسان في العصر الرأسمالي الذي أساسه الربا يريد الاستغناء بالأشياء، فإذا ما استغنى بها سيطر عليه هاجس زوالها فيظل شقياً في تحصيلها، شقياً في الحفاظ عليها، وهل يجد لذة الحياة من نعم جسده، وعذّب قلبه، وأي عذاب أعظم من عذاب القلب؟ وقد كان الإنسان قبل العصر الرأسمالي يستغني عما لا يستطيع تحصيله، ويقنع بما كتب له، فيرتاح باله، ويطمئن قلبه.
4/ الربا سبب لازدياد الفقر: سيطرة المادة على الناس، وخوفهم من الفقر والحاجة، وانعدام قناعتهم بالضروري من العيش، وتطلعهم إلى كماليات لا يحتاجونها، إلى غير ذلك انتشر وساد في العصر الرأسمالي الربوي، وكل ذلك وتوابعه ليست أخلاقاً ذميمة فحسب؛ بل هو عقوبات وعذاب يتألم الناس من جرائها في زمن انتشار الربا؛ حتى أصبح الفقير يريد الغنى، والغني يريد أن يكون أكثر ثراء، وصاحب الثراء الفاحش يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع وحب الذات وكراهية المتنافسين، وغير ذلك من الأخلاق الرديئة، وصار في الناس مستورون لا يقنعون، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى.
وإذا ما استمر العالم على هذا النحو من تفشي الربا، وارتباط المعاملات المالية به فإن النهاية المحتومة ازدياد الفقر والجوع حتى يهلك أكثر البشر، واجتماع المال في خزائن فئة معدودة من كبار المرابين، وهذا ما جعل أحد كبار الاقتصاديين الأوروبيين يطلق على الربا: تجارة الموت، فيقول: (الربا تجارة الموت، ومن شأنه أن يشعل الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيل مضاعفة رأس المال ببيع السلاح) وما حطم قيمة الأوراق النقدية، وقضى على أسعار العملات إلا الربا الذي يقوم عبره عصابة من المرابين بضخ المال في عملة من العملات ثم سحبه من رصيدها لتقع قيمتها من القمة إلى الحضيض، فيصيب الفقر شعوباً وأممًا لا تملك سوى عملتها التي ما عادت تساوي شيئًا، وليس ببعيد عن الأذهان ما حصل لبعض دول شرق آسيا.
5/ الربا سبب لرداءة النقود وضعفها: المتخصصون في الاقتصاد يقررون أن النقود هي دماء الاقتصاد، والنقود السليمة هي التي تجعل الاقتصاد سليماً؛ ولكن نقود العالم الحالية مريضة بالتضخم الناتج عن الربا، ولا يمكن علاجها إلا بمعالجة التضخم، ولن يتم علاجه إلا بإلغاء فوائد الربا.
ويشخص هذه الحقيقة الاقتصادي الألماني: (جوهان فيليب بتمان) مدير البنك الألماني (فرانكفورت) فيقول: كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما يؤدي الماء إلى رداءة النقود. قد يبدو الأمر أننا نسوق تعبيرات أدبية، أو أننا نبسط المسألة ونسطحها؛ ولكن الحقيقة أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في الواقع معادلة سليمة وصحيحة تدل عليها التجربة، ويمكن إثباتها؛ فالفائدة العالية تدمر قيمة النقود، وتنسف أي نظام نقدي ما دامت تزيد كل يوم، وتتوقف سرعة التدمير وحجمه على مقدار الفائدة ومدتها. وهكذا صارت عاقبة الربا وإن كثر إلى قِلٍّ وهذه صورة من صور المحق التي يسببها الربا للأموال المتعاملين به.
وبسبب انتشار الربا في المعاملات المالية أضحت البورصات العالمية وكأنها صالة قمار واسعة، ليس الأمر فيها يتصل بالمقامرات غير المحسوبة فحسب؛ بل إن هناك من يبيع دائماً ما لا يملك، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمناً.
ومن يتظاهر بأن هناك أسهماً لشركات وما هي في الواقع بشركات، ومن يقيد بالدفاتر مليارات كبيرة دون أن يراها، ودون أن يقابلها رصيد من أي نوع، إنها الفائدة الملعونة المسئولة عن المصائب الكبرى في النظام النقدي العالمي، وهي المسئولة عن التضخم، وعن ضياع الأموال، وعن عجز دفع المدينين ديونهم، كما قرر حقيقة ذلك الاقتصادي الغربي (موريس آليه) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.
6/ الربا سبب لرفع الأمن وانتشار الخوف: تسود الأنانية وحب الذات وانعدام الرحمة كل المجتمعات التي ينتشر فيها الربا؛ فالموسرون المرابون يقرضون الفقراء المحتاجين بفوائد الربا التي تزداد مع طول المدة وشدة الحاجة، مما يجعلهم عاجزين عن السداد.
والنتيجة النهائية: إما أن يسرقوا لسداد القروض الربوية، وإما أن تصادر أملاكهم وتباع للمقرضين؛ ليعيشوا وأسرهم بقية أعمارهم على قارعة الطريق يتكففون الناس، أو في الملاجئ والدور الاجتماعية مما يكون سبباً في قتل كرامتهم، وحرمان المجتمع من عملهم وإنتاجهم.
إن الربا هو السبب الرئيس في انتشار الجريمة والانتقام بين أصحاب رءوس الأموال وكبار المرابين، مما يكون سبباً في رفع الأمن، وبسط الخوف والذعر في المجتمعات.
وواقع كثير من البلدان التي ينتشر فيها الربا شاهد على ذلك، وهل يستطيع إنسان بِيعَ بيتُه، وشُرِّدَ هو وأولاده لسداد ما عليه من قروض الربا أن يصبر عن الانتقام؟ وماذا يبقى له في الدنيا إذا كان يريد العيش لها إلا أنه فقدها فجأة؟!.
أحكام فقهية تتعلق بالربا
1/ الربا نوعان: ربا الديون: وهو الذي نزل القرآن نصاً في تحريمه، وربا البيوع وهو الربا الذي جاءت به السنة المطهرة. وربا البيوع: وهو الذي يكون في بيع الأموال الربوية، والأموال الربوية المنصوص عليها ستة: الذهب والفضة والبر والتمر والملح والشعير. وجمهور الفقهاء على أنه يلحق بهذه الأصناف ما اتفق معها في العلة، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد هذه العلة.
2/ هذا وينقسم ربا البيوع إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النسيئة.
أولاً: ربا الفضل: وهو زيادة أحد العوضين عن الآخر في بيع الأموال الربوية، فإذا بيع ذهب بذهب فقد وجب التماثل والتقابض، وأي زيادة تُلحِقُ البيع بالبيوع الربوية، ففي حديث عبادة بن الصامت يقول النبي صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في هذا الباب، ذكر منها السبكي في تكملة المجموع اثنين وعشرين حديثاً في الفصل الخاص بربا الفضل وحده، ومنها ما هو في الصحيحين، ومنها ما تفرد به مسلم، ومنها ما هو خارج الصحيحين، وفيها ما هو صحيح وما هو محل نظر.
حكمة تحريم ربا الفضل؛ لقد خفيت حكمة تحريم ربا الفضل على كثير من الناس لأن ظاهره يخلو من الغبن، إذ من المعقول والمقرر أن لا يستوي الخبيث والطيب ولا الجيد والرديء. فإذا بيع صاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الرديء فقد لا يرى العقل بذلك بأسا، فأين موقع الحكمة في هذا التحريم؟
وقبل أن نحاول تلمس هذه الحكمة من خلال ما كتبه أهل العلم في هذا المقام لا يفوتنا إن نذكر بأصل محكم لا يحوز أن ينسى في الزحام، وهو وجوب امتثال المسلم لأمر الله سواء أظهرت له حكمة الأمر أم خفيت عليه، وحسبه في هذا المقام صدور هذا التكليف من الحكيم الخبير الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً وتمت كلمته صدقاً وعدلاً. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}
وبعد هذه التوطئة نقول: لعل أظهر ما قيل في بيان الحكمة في هذا التحريم أنه من قبيل سد الذرائع، لأن ربا الفضل قد يجر إلى ربا النسيئة، وينشئ فيهم نفسية من لوازمها شيوع المراباة في المجتمع، فإن من باع شيئاً بجنسه حالاً مع الزيادة قد يجره الطمع إلى أن يبيعه مؤجلاً مع الزيادة.
وهذا هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق إلا مثلاُ بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئاً غائباً منها بناجز، فإني أخاف عليكم الرما) والرما أي الربا ذلك أنه إذا منعهم من الزيادة في البيع الحال مع كون هذه الزيادة مقابل جودة أو صفة أو سكة ونحوها، فإن منعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل – أولى وأجلى.
ثانياً: ربا النسيئة: وهو تأخر قبض أحد العوضين في بيع الأموال الربوية، فإذا بيع مال ربوي بغير جنسه كأن يباع ذهب بفضة والعكس أو تباع عملة بعملة أخرى فإنه يجوز فيها التفاضل ويحرم فيها التأخير لقوله صلى الله عليه وسلم {فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد}
وعلى هذا فتصبح القواعد التي تحكم بيع الأموال الربوية ما يلي:
أ- وجوب التماثل والتقابض عند اتحاد الجنس والعلة كالذهب بالذهب أو الفضة بالفضة.
ب- وجوب التقابض فقط وجواز التفاضل عند اختلاف الجنس واتحاد العلة كالذهب بالفضة أو البر بالتمر ونحوه.
ت- عدم وجوب التماثل أو التقابض عند اختلاف الجنس واختلاف العلة كبيع الذهب بالبر أو الفضة بالتمر ونحوه، إذ يحل حينئذ التفاضل والنساء جميعا