خطب الجمعة

دور العلماء في الإحتساب على الأمراء

خطبة يوم الجمعة 8/11/1426 الموافق 9/12/2005

 (1) حج سليمان بن عبد الملك فوافي طاووس بمكة. فقيل لطاووس: “حدِّث أمير المؤمنين”. فقال طاووس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {أشد النَّاس عذاباً يوم القيامة من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه} قال الفضل بن سليمان: فرأيت سليمان بن عبد الملك قد تغير وجهه[1].

(2) مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة ـ وهو يريد مكة ـ فأقام بها أياماً، فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحداً من أصحاب النبي e؟ قيل له: أبو حازم، فأرسل إليه، فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا عرفتك قال: فالتفت إلى محمد ابن شهاب الزهري وقال: أصاب الشيخ وأخطأت. قال سليمان: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. قال: أصبت يا أبا حازم. فكيف القدوم غداً على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكي سليمان وقال: ليت شعري مالنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله. قال: وأي مكان أجده؟ قال: )إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم(، قال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ قال: قريب من المحسنين. قال له سليمان: يا أبا حازم فأي عباد الله أكرم؟ قال: أولو المروءة والنهي. قال سليمان: فأي الأعمال أفضل. قال أبو حازم: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم. قال سليمان: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعاة المحُسَن إليه للمُحسِن. قال: فأي القول أعدل؟ قال: قول الحق عند من تخافه أو ترجوه. قال: فأي المؤمنين أحمق؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه وهم ظالم فباع آخرته بدنيا غيره. قال له سليمان: أصبت، فما تقول فيما نحن فيه؟ قال: يا أمير المؤمنين أو تعفيني؟ قال سليمان: لا. ولكن نصيحة تلقيها إلى. قال: يا أمير المؤمنين، إن آباءك قهروا النَّاس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوةً على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، فقد ارتحلوا عنها، فلو شعرت ما قالوا وما قيل لهم فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم. قل: كذبت. إن الله أخذ العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. قال له سليمان: ولم ذاك؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات. قال له سليمان: ليس ذاك إلى قال له أبو حازم: فما لي إليك حاجة غيرها. قال: فادع لي. قال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى[2].

(3) عمل أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الناصر الأموي في بعض سطوح الزهراء قبة بالذهب والفضة وجلس فيها، ودخل الأعيان فجاء منذر بن سعيد البلوطي، فقال له الخليفة كما قال لمن قبله: هل رأيت أو سمعت أن أحداً من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا؟ فأقبلت دموع القاضي تتحدر. ثم قال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ أن أنزلك منازل الكفار. قال: لم؟ فقال: قال الله U )ولولا أن يكون النَّاس أُمَّة واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسروراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين(. فنكس الناصر رأسه طويلاً، ثم قال: جزاك الله عنا خيراً وعن المسلمين، الذي قلت هو الحق، وأمر بنقض سقف القبة.

(4) دخل هارون الرشيد على العبد الصالح الفضيل بن عياض رحمه الله فلما لامست كفُّه كفَّه قال الفضيل: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله. ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاءً، وعددتها أنت وأصحابك نعمةً. فقال له سالم: إن أردت النجاة، فصم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت، وقال له ابن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء: إن أردت النجاة من عذاب الله، فأحب لهم ما تحب لنفسك، وأكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت، وإني أقول لك هذا وإني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه. فقال له الفضل بن الربيع: أرفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟ ثم أفاق هارون فقال له: زدني يرحمك الله. قال: بلغي أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكي إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه. فقال: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لن أعود إلى ولاية حتى ألقى الله. فبكى هارون بكاءً شديداً. فقال: يا أمير المؤمنين. إن العباس عم النبي e جاء إليه فقال: أمِّرني. فقال له: إن الأمارة حسرة وندامة يوم القيام، فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل[3]، فبكى هارون وقال: زدني: فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي e قال {من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة}[4]. فبكى هارون وقال له: عليك دَيْن؟ قال: نعم، دين لربي، لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سائلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلْهَم حجتي. قال: إنما أعنى من دين العباد. قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره. قال U  )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون([5] فقال: هذه ألف دينار خذها. فأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربك. فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا. سلمك الله ووفقك، ثم صمت[6].

(5) لما خرج الظاهر بيبرس إلى قتال التتار بالشام أخذ فتاوى العلماء بجواز أخذ مال من الرعية يستنصر به على قتال التتار، فكتب له فقهاء الشام بذلك. فقال: هل بقي من أحد؟ فقالوا نعم، الشيخ محيي الدين النووي، فطلبه فحضر. فقال له: اكتب خطك مع الفقهاء. فامتنع. فقال له: ما سبب امتناعك. فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق وليس لك مالٌ، ثم منَّ الله عليك وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة[7] من ذهب، وعندك مائتا جارية مع كل جارية حُقٌّ[8] من الحلي فإذا أنفقت كل ذلك، وبقي مماليك بغير مال أفتيك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من كلامه وقال: اخرج من بلدي. فقال النووي: السمع والطاعة. وذهب إلى بلده [نوى] قال الفقهاء للظاهر: إن هذا من كبار علمائنا وممن يقتدى بهم فأعده إلى دمشق، فأمر برجوعه فامتنع الشيخ رحمه الله، وقال: والله لا أدخلها والظاهر فيها، فمات الظاهر بعد شهر[9].

(6) دخل عمرو بن عبيد على الخليفة المنصور، وأخذ في نصيحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المُنكر فقال: يا أمير المؤمنين إن الله U يوقفك ويسألك عن مثقال ذرة من الخير والشر، وإن الأُمَّة خصماؤك يوم القيامة، وإن الله U لا يرضى منك إلا بما ترضاه لنفسك، وإنك لا ترضى نفسك إلا بأن يُعْدَل عليك، وإن الله U لا يرضى منك إلا أن تعدل في رعيتك، وإن وراء بابك نيراناً تتأجج من الجور. قال سليمان بن مجالد: يا عمرو قد شققت على أمير المؤمنين. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين من هذا؟ قال: أخوك سليمان بن مجالد. قال عمرو: ويلك يا سليمان إن أمير المؤمنين يموت، وإن كل ما تراه يفقد، وإنك جيفة غداً بالفناء، ولا ينفعك إلا عمل صالح قدمته، ولقرب هذا الجوار أنفع لأمير المؤمنين من قربك وإن كنت تطوي عنه النصيحة وتنهي من ينصحه، يا أمير المؤمنين إن هؤلاء اتخذوك سلماً لشهواتهم. فقال المنصور: فأصنع ماذا؟ ادع لي أصحابك أولِّهم. قال عمرو: ادعهم أنت بعمل صالح تحدثه، ومر بهذا الخناق فليرفع عن أعناق النَّاس، واستعمل في اليوم الواحد عمالاً كلما رابك منهم ريب عزلتهم ووليت غيرهم.

(7) دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان فقال له: يا أبا محمد: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين. اتق الله في حرم الله، وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك، فقال له: أفعل، ثم نهض وقام[10].

(8) فقيه أهل الشام الإمام الأوزاعي رحمه الله دُعِي للقاء السفاح عبد الله بن علي العباسي أول عهده بالأمر بعدما ولغ في دماء كثيرة وأثار الرعب في النفوس. يقول الأوزاعي رحمه الله: فلما قمت مقاماً يسمعني وسلمت قال: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير. قال: ما تقول في دماء بني أمية ـ فسأل مسألة رجل يريد أن يقتل رجلاً ـ فقلت: قد كان بينك وبينهم عهود. فقال: ويحك اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت[11] نفسي وكرهت القتل، فذكرت مقامي بين يدي الله U فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال لي: ويحك ولم؟ قلت: قال رسول الله e {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه} قال: ويحك. أو ليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: وكيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله  eأوصى إلى علي، قلت: لو أوصى إليه ما حكَّم الحكمين، فكست وقد اجتمع غضباً، فجعلت أتوقع رأسي تقع بين يدي، فقال بيده هكذا أي أخرجوه[12].

(9) الإمام ابن أبي ذئب قال له أبو جعفر المنصور: نشدتك الله، ألست أعمل بالحق؟ أليس تراني أعدل؟ فقال ابن أبي ذئب: أما إذ نشدتني بالله فأقول: اللهم لا، ما أراك تعدل، وإنك لجائر، وإنك لتستعمل الظلمة وتدع أهل الخير، فجزع أبو جعفر وقال له: قم فاخرج. وفي رواية أنه قال له: ما تقول في؟ وأعاد عليه، فقال: ورب هذه البَنيَّة[13] إنك لجائر[14]. ولما حج المهدي بن المنصور ودخل مسجد النبي  eفلم يبق أحد إلا قام له إلا ابن أبي ذئب، فقيل له: قم. قال: إنما يقوم النَّاس لرب العالمين. فقال المهدي: دعوه فقد قامت كل شعرة في رأسي[15].

(10) ناظر أبو جعفر المنصور مالكاً في مسجد النبي  eفرفع المنصور صوته، فقال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوماً فقال )لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي( ومدح قوماً فقال )إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى( وذم قوماً فقال )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون(

[1] – الزبير بن بكار – الموفقيات 82.

[2] – القرطبي – الجامع لأحكام القرآن 1/337، والقصة رواها الدارمي في سننه 1/24 باب في إعظام العلم.

[3] – رواه مسلم في كتاب الإمارة 16 من حديث أبي ذر  tوكذا أحمد في المسند 5/172.

[4] – رواه البخاري في كتاب الأحكام –باب من استرعى رعية فلم ينصح. ومسلم في الإمارة –باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر.

[5] – سورة الذاريات:56.

[6] – أبو نعيم – الحلية 8/104، الذهبي – سير النبلاء 8/428.

[7] – الحياص: سير طويل يشد به حزام الدابة. لسان العرب 7/20.

[8] – جمعه حقق وحقاق وهو المنحوت من الخشب والعاج وغير ذلك. اللسان 10/56.

[9] – محمد الغزالي –الإسلام المفترى عليه 222.

[10] – الذهبي – سير أعلام النبلاء 5/84.

[11] – نهضت وهمت بالبكاء. اللسان 6/276.

[12] – الذهبي –سير أعلام النبلاء 7/123.

[13] – يعني الكعبة المشرفة.

[14] – الذهبي – سير أعلام النبلاء 7/147.

[15] – الذهبي – سير أعلام النبلاء 7/143.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى