1- إن من سنن الله تعالى في خلقه حنين الإنسان إلى وطنه مهما كان في ذلك الوطن من العنت والشقاء. لا يشذ عن ذلك نبي مرسل ولا ولي مقرب؛ وإن لم يكن في ذلك الوطن ما يجذب السائحين من هواء عليل أو منظر جميل أو ماء سلسبيل؛ فهذا نبي الله محمد صلى الله علـيه وسلم حين خرج من مكة مهاجراً بعد أن ضيق عليه أهلها، نظر إليها نظرة المشتاق الوله، وقال: والله إنك لأحب البلاد إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت) فأنزل الله عليه {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} بشره بأنه سيرجع إليها فاتحا منتصرا، وقد قال القائل:
بلاد ألفناها على كل حالة وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
وهذا نبي الله موسى عليه السلام لمّا غادر وطنه بغير رضاً منه أو اختيار، وغاب عنه سنين عديدة، بسبب جور الظالمين عليه، أعد عدَّته وعاد إلى وطنه، بعد ما قضى ذلك الأجل الذي تمّ بينه وبين ذلك الشيخ الكبير، والذي يُقدَّر بعشر سنوات، ويسدل الستار على تلك السنوات العشر، لا ندري ماذا تلقَّى فيها موسى، وماذا عمل فيها؟ إلاّ رعيه للغنم فقط، ثم عقد العزم على الرجوع إلى أهله وبلاده، مستصحباً معه في طريقه أهله ومتاعه، ويلقى في تلك الرحلة من المشاهد والمواقف الشيء العظيم، والنص القرآني يبين ذلك ويوضحه بدون تفصيل.
قال تعالى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يَعْقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} إن هذا النص القرآني الكريم يحمل في طياته أخبار تلك الرحلة بإيجاز، ويعرض لنا مشاهدها باختصار، مع التمام في المعنى، وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته وعظمته.
لقد عاد موسى عليه السلام إلى بلاده برفقة أهله وبعض متاعه، يحثُّ الخطو إلى بلاده – عادة كل غائب يعود إلى أهله وأرضه – لكن يفاجأ عليه السلام بنداءات ومشاهدات وبراهين لم يعهدها من قبل في طريقه، ممّا أثار في نفسه الخوف والوجل والقلق والحذر
2- إن أعظم مشهد وموقف قابله موسى عليه السلام في هذه الرحلة البرية هو تكليف الله تعالى له بالرسالة إلى عدوه اللدود «فرعون» الذي هرب منه في أول الأمر، وهجر أهله وأرضه من أجله، وهذا تحقيق لوعد الله تعالى الذي لا يخلف الميعاد حيث طمأن أمّه بأنه سبحانه سيرُدُّه إليها، وفوق ذلك سيجعله من المرسلين. كما قال سبحانه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
إنّ هذا هو اختيار الله تعالى لك، ونِعمَ المختار، ونِعمَ الاختيار. قال تعالى {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وهي محبة الله تعالى ترعاك وتكلؤك. قال تعالى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وهو اصطفاء الله تعالى لك من دون الناس بالرسالة والكلام. قال تعالى {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
3- مطالب موسى عليه السلام من ربه: لما علم موسى عليه السلام بتكليف الله تعالى له بالرسالة، لم يتردد في حملها، لكنه تذكر شيئاً من ماضيه مع فرعون وقومه، إنه عاش أول حياته في قصر فرعون، ورأى من طغيانه وجبروته الشيء الكثير، ومع ذلك حفظه الله من بأسه وبطشه، وهو في حالة ضعف وغربة، وطلب موسى من الله تعالى مطالب تُحققُ له، لكي يستطيع أن يقوم بأداء ما كُلِّف به خير قيام، بعضها معنوي، وبعضها حسي، ومن تلك المطالب ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} وقال تعالى {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} وقد استجاب الله تعالى لعبده موسى ما طلب، قال تعالى {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وقال تعالى {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ} إنّ هذه الإجابات من الله تعالى لعبده موسى تحمل في طياتها الرحمة والنصرة والغلبة على العدو؛ نصرة من الله تعالى لموسى وهارون على عدوهما فلا يصل إليهما، ونصرة من هارون لأخيه موسى عليهما السلام تتمثل في شد أزره وعضده، وفي الفصاحة والبيان، وفي الأنس من وحشة الطريق، وكل هذا رحمة من الله تعالى كما قال سبحانه {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}
4- إنّ مواجهة أهل الباطل المتمكنين في الأرض كـ «فرعون» وغيره، لهو أمر صعب على النفس، خاصة وأن الله تعالى بينَّ لهما أنه طغى، لأن الذي لا يستحي ممن خلقه ورزقه، وبيده محياه ومماته، فإنه من باب أولى لا يستحي من مخلوق مثله، فقد يبطش به، أو يسفّهه، أو يسجنه، أو يسلط عليه السفهاء، وإن هذه المواقف ما غابت عن «موسى وهارون» عليهما السلام فقد حكى الله عنهما ذلك فقال تعالى {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} لكن من كان الله تعالى معه فلا يخاف ظلماً ولا بخساً، ولقد وجه الله تعالى عبديه الصالحين بعدة توجيهات في مواجهة «فرعون» الطاغية، وأخبرهما أنه سبحانه معهما يسمع ويرى، ومن تلك التوجيهات الربانية:
- السرعة في تنفيذ حجج الله تعالى وبراهينه ومعجزاته. قال الله تعالى {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} وفسَّر ابن عباس رضي الله عنهما ذلك بقوله: لا تُبطئا. وبقوله: لا تضعفا.
- اللين في القول. لقوله تعالى {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} إن الرفق في جميع الأمور ما كان في شيء إلا زانه، كما أن الغلظة والشدة ما كانتا في شيء إلا شانتاه، وكما أن هذا التوجيه من الله لموسى وهارون عليهما السلام جاء أيضاً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ}
- عدم الخوف في القيام بالرسالة الربانية. إن من طبيعة النفس البشرية أن يعتريها شيء من الخوف، وهو على درجات متفاوتة، والذين يحملون المنهج الرباني يدركون تبعاته وما يترتب على تبليغه ونشره، وموسى وهارون عليهما السلام وقع لهما شيء من الخوف من طاغية عصرهما «فرعون» أن يبطش بهما، ويعتدي عليهما لأول وهلة يلتقيان معه، لجهله من جانب، ولظلمه وطغيانه وجبروته من جانب آخر، والله ذكر ذلك في كتابه فقال – تعالى {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} إن الله تعالى اختار من خلقه من يحمل رسالته، ويقوم بنشرها وتبليغها، وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم وجاء في وصفهم في كتاب الله العزيز: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}
- العاقبة الوخيمة لفرعون وملئه: لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون لكل مخلوق من خلقه بداية ونهاية، ولا يبقى إلاّ وجهه الكريم، قال تعالى {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولقد ذكر الله تعالى لنا في كتابه أحوال كثير من خلقه أفراد ومجموعات من الذين طغوا وتجبروا وتكبروا في الأرض بغير الحق، بل بغياً وعدواناً، كما جاء في وصف فرعون وجنوده، في قوله تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
- وبيَّن لنا سبحانه كيف أخذهم، وأنه سبحانه أخذ كلاً بذنبه، فقال بعد أن ذكر الله تعالى نوحاً، وإبراهيم، و لوطاً، و شعيباً، و هوداً، و صالحاً، وموسى عليهم السلام وقومهم: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
- وقد وعد الله – تعالى – عباده الصالحين بالنصر والفوز المبين، والغلبة والتمكين، فقال تعالى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ}