خطب الجمعة

سنن النصر والتمكين من غزوة الفتح

خطبة يوم الجمعة 19/9/1440 الموافق 24/5/2019

السنَّةُ الأولى: هو أن الله عز وجل لا يعجل لعجلة عباده، فقد مرت إحدى وعشرون  سنة من أصل ثلاث وعشرين سنة من عمر البعثة بكاملها واللات والعزى ومناة وهبل تعبد من دون الله عز وجل في داخل مكة المكرمة.

البعض كان يتمنى ويقول: يا ليت مكة فُتحت مبكراً، والرسول صلى الله عليه وسلم حكم الدولة الإسلامية الواسعة فترة طويلة من الزمان؛ لنرى فعله وحكمه وأثره صلى الله عليه وسلم على العالمين وهو ممكن في الأرض، لكن لو حدث هذا فقد تكون مخالفة للسنة الإلهية، فهذا لا يكون أبداً: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}

فرب العالمين سبحانه كان قادراً أن يفتح مكة من أول لحظات الدعوة، وأن يجعل أهل مكة جميعاً مؤمنين من أول لحظات الدعوة، وعلى الأقل بعد سنة أو سنتين من بناء الدولة في المدينة المنورة، لكن هذا الانتظار الطويل؛ لكي نعلم جميعاً أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده.

السنة الثانية: يأتي التغيير ويأتي النصر ويأتي التمكين من حيث لا يحتسب المسلمون، فلم يكن سبب الفتح اعتداء قريش على المدينة المنورة مثلا، أو محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم مثلا، أو اعتداءهم على قافلة للمسلمين، بل كان سبباً لم يخطر ببال أحد، وهو إعانة قريش قبيلة بكر على قبيلة خزاعة، وكانت خزاعة حليفة للمسلمين، فجاء عمرو بن سالم الخزاعي مستغيثاً بالنبي عليه الصلاة والسلام

السنة الثالثة: أن النصر قد يأتي من حيث يكره الناس ولا يحبون. وهذا متكرر حتى صار سنة، فـطالوت رحمه الله ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن جعل الله عز وجل النصر في هذا اللقاء، كذلك كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله عز وجل فيه النصر، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} فكان يوم الفرقان.

وكره المسلمون تحزُّب الأحزاب حول المدينة قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} لكن كان فيه خير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).

وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: (لم نُعط الدنية في ديننا؟)، وكان فيه الخير كل الخير، وقد رأينا تفصيلات الخير الذي تلا صلح الحديبية.

وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم وحبيبهم الحارث بن عمير رضي الله عنه سفير الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عظيم بصرى، ولكن كان من وراء هذا القتل انتصار مؤتة.

كذلك في قصتنا الآن كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، لا شك أنهم كرهوه، لا شك أنهم يريدون الهدنة أن تمتد عشر سنوات وأكثر؛ لأنهم رأوا في أقل من السنتين خيرات كثيرة جداً، فكيف إذا امتد الأمر لأكثر من ذلك؟ رأوا أعداد المسلمين تتزايد بكثرة في زمن الهدنة والأمن وغياب الحرب، لكن الآن بعد هذا النقض قد تحدث حرب وقد يحدث اضطراب وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، ويمكن أن تحدث مشاكل لا حصر لها.

ونحن نكره القتال الآن، ولا نريد أن يحدث أي حرب في هذا الوقت، ونحب الهدنة، لكن أن يحدث ما نكره قصراً ورغماً عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين من خلال الحدث الذي نكرهه هذا أمر عجب!! لماذا هذه السُّنة؟ لماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ لماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟ لهذه السنة هدف واضح جداً، وهذا الهدف هو أن الله عز وجل لا يريد لنا أن نُفتن بنصرنا، ولا يريد لنا أن نعتقد أن النصر إنما جاء لحسن تدبيرنا، ولدقة خطتنا، ولبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا، وحتى لا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي سبحانه وتعالى، لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل ومن حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله عز وجل، ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت.

السنة الرابعة: طول فترة الإعداد وقصر فترة التمكين، حيث مكث المسلمون إحدى وعشرين سنة في إعداد وتهيئة، ثم كان مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح سنتين وبضعة أشهر، ولتراجع معي قصص التمكين في القرآن الكريم التي سبقت الرسول عليه الصلاة والسلام، لتراجع قصة نوح عليه السلام وفترة الدعوة إلى الله كم ظل يدعو الناس؟ (950) سنة، (1000) سنة إلا (50) عاماً، وفترة التمكين يسيرة جداً وقصيرة جداً.

هود وصالح كذلك عليهم السلام جميعاً. وموسى عليه السلام ظل في فترة إعداد طويلة جداً، إعداد له شخصياً، ولبني إسرائيل فترة تعذيب وتشريد واضطهاد طويلة جداً، وبعد ذلك فترة التمكين قصيرة.

هذا أمر متكرر جداً سواء قبل الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، راجع قصة صلاح الدين الأيوبي حوالي (80) أو (90) سنة إعداد، وفترة التمكين (15) أو (20) سنة على الأكثر.

وبعد موقعة الزلاقة والتمكين الكبير لدولة المرابطين في الأرض، إعداد طويل جداً حوالي (60) سنة ثم التمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان.

هذا الكلام يحتاج إلى وقفة، لماذا تستمر فترة التمكين لمدة قصيرة بينما يكون الإعداد طويلاً جداً؟ هذا من أجل سببين رئيسيين: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين، الوضع الاقتصادي جيد، والأوضاع الاجتماعية كذلك تتحسن، فالدنيا كلها تنفتح على المسلمين فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع في زمن التمكين على المال والسلطان.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المسلمين من هذا الأمر، وذكرنا أكثر من مرة هذا الحديث لخطورته وأهميته في تكوين الدولة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم)، بينما في أثناء فترة الإعداد لا توجد دنيا عندها ولا توجد فتنة، لكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعاً، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، والقليل جداً من الأمة الذي لا يقع في هذه الفتنة.

إذاً: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين، والتصارع بين المسلمين على المال والسلطان.

السبب الثاني: عدد هائل من البشر سيدخل الإسلام لقوته لا اقتناعاً بمبادئه.

الخطبة الثانية

فما زالت أزمات البلاد تراوح مكانها – سياسية واقتصادية واجتماعية – لأن كثيراً من الناس همه أن يحكم، همه نصيبه من كعكة السلطة وسيف المعز وذهبه، وها هنا رسائل لا بد من توجيهها:

أولاً: إلى المجلس العسكري القائم على أمر هذه البلاد، عليكم الاجتهاد في حفظ أمن البلاد والعباد، وعليكم بما يحفظ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وإياكم والترخص في سفك دم مسلم، ولا بد من إسراع في محاسبة كل من يثبت عليه فساد في دم أو عرض أو مال

ثانياً: إلى الشباب المعتصمين عليكم بتقوى الله عز وجل والعمل بما يرضيه، مطالبكم مشروعة وآمالكم ممكنة، لكن إياكم والفساد في الأرض بإغلاق الطرق والجسور أو تعطيل مصالح الناس ومعايشهم؛ فإن ذلك فساد بحد ذاته {والله لا يحب المفسدين}

ثالثاً: إلى عموم الشعب (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله) قد عرفت الدنيا كلها أن شعبنا من أكثر أهل الأرض تسامحاً وتغافراً وإغضاء عن الزلات وستراً للعورات؛ فلا تسمحوا لمن يريد أن يزرع بينكم العداوة والبغضاء وأن يحرش بينكم؛ بل ليكن شعارنا في تعاملنا {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى