1/ الواقع الذي تعيش فيه أمة الإسلام يعج بالكثير من المفسدات ما بين فساد عقدي واستبداد سياسي وتخلف اقتصادي وتمزق اجتماعي وبعد عن الدين، وشيوع للميوعة والانحلال في جانب الفكر والتصور، مع حروب تثار هنا وهناك، ودماء زكية تنزف في صراعات قبلية أو عرقية أو طائفية، وفي ظل هذا كله يكثر الحديث عن تبني السياسات الإصلاحية سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو القانوني أو الثقافي أو غير ذلك، وتؤكد الأحاديث على أهمية تبنيها، ومتابعة أنشطتها، والتغني بأدنى نجاح لها؛ وتحتل ساحتنا الإسلامية مساحة أكبر في الدعوة إلى هذه الإصلاحات والاهتمام بتطبيقها وتنفيذ بنودها، وترتفع أصوات سدنة النظام الدولي الجديد ناصحة – أو بالأصح آمرة – بضرورة التغيير للأوضاع القائمة التي أصبحت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم في كل مجالات الحياة.
2/ إن ما يتحدث به الغربيون وصنائعهم عن الأحوال المتردية في عالمنا الإسلامي هو جزء من كلمة حق يراد بها كل الباطل؛ فهم حينما يشيرون إلى مساوئ الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها لا يبتغون من ذلك أن نعود إلى ديننا وشرعة ربنا وتاريخ أمتنا لنصحح الأوضاع على أسسها مع الاستفادة من معطيات العصر، بل إنهم يخططون ويمكرون ليتم التغيير وفق رؤاهم وتبعاً للحلول التي يلزمون بها بعض ولاة المسلمين وحكوماتهم رغبة ورهبة.
3/ إذا أردنا أن نستعرض وصفاتهم لعلاج الأوضاع السياسية فإننا نجدهم يحثون على تبني الديمقراطية أولاً، ثم الاستسلام للعدو الصهيوني والتطبيع معه ثانياً، ومع ذلك فمن حقنا أن نتساءل: أي ديمقراطية يريدون؟ إنها تلك الصورة التي تمكِّن السفهاء والعملاء والأذيال من أن يتربعوا على عروش أمتنا دون أن يكون للأمة أي فرصة للاحتجاج أو الرفض وإلا اتهمت بالعداء للديمقراطية، حتى نموذجهم في الديمقراطية لا يجرؤون على تصديره إلينا وتطبيقه عندنا؛ لأنهم يخشون ظهور الإسلاميين وصعودهم إلى سدة الحكم؛ وإذا حدث ما لا يتوقع في ظل الديمقراطية الزائفة وانتصر الإسلاميون في بلد ما، فإنهم لا يخجلون من موقف الصمت وغض الطرف عمَّا يحدث من التفاف على نتائج الديمقراطية ولا يصفونه بالعداء لها، هذا إذا لم يكونوا هم من دبر الانقلاب وخطط للالتفاف ومصادرة صوت الأمة.
أما الحل الذي يقضي بارتماء أمتنا في أتون الاستسلام وجحيم التطبيع مع اليهود فإن آثاره على العقيدة والدين والمقدسات والأخلاق والعقول والاقتصاد والثقافة وكل جوانب الحياة أصبحت معلومة من الواقع بالضرورة، وبادية واضحة لا نحتاج فيها إلى مزيد بيان.
وإذا أردنا أن ننظر في معالجتهم لاقتصادنا وجدناها إصلاحاً لاقتصادهم وضخاً إلى بنوكهم ورعاية لاستثماراتهم، بينما تحصد أمتنا مزيداً من الأعباء والديون والفقر وإضاعة الثروات والانشغال بالقوت الضروري، والعديد من المشاكل والأزمات.
وفي مجال الإصلاح القانوني والقضائي تجد أن الحل يتم بالقضاء على ما تبقى من حكم الشريعة في جوانب الأحوال الشخصية وما شابهها، وجعل الحكم لغير ما أنزل الله من تعاليم وقوانين الجاهلية المعاصرة.
أما في المجال الثقافي فالعلاج أن يدين الناس جميعاً بالتصورات الغربية، وأن تصاغ عقول أمتنا الإسلامية من خلال مفردات الحضارة الغربية وتعاليمها القائمة على الخروج على كل ما هو رباني، والسير بالبشر نحو حيوانية سافرة؛ وإن كان من ضرورة روحية واعتناق لديانة فلتكن المسيحية المتهوِّدة.
4/ ليس غريباً أن ترى الأمم وأتباع الديانات الباطلة المنحرفة يستجيبون لداعي الحضارة الغربية ويسيرون خلفها حذو القذة بالقذة تدخل بهم جحر الضباع وأوكار التيه، بل المستغرب المحزن أن ترى في الركب الضال فئاماً كثيرة من المنتسبين لدين الإسلام.
من اليسير أن نتوقع إذعاناً فخرياً لأمم الأرض تجاه القوة المادية الغربية، وأن نتوقع خضوعاً ذليلاً منها نحو ثقافة الغرب وحضارته؛ لكنه ليس من اليسير أن يتوقع ذلك من أمة الإسلام التي تمتلك ما لا تملكه أمةٌ غيرها من مقومات القيادة والريادة والخيرية، ومن أسس العيش بأمن وطمأنينة ورفاه، ومن أركان الحياة الطيبة المهتدية، ومن أسباب القوة المادية والمعنوية.
إن أمتنا تملك العقيدة الإسلامية السليمة والدين الحق والملة القويمة، وهي تملك الإرث المجيد والتاريخ التليد، وهي تملك النظرة السوية للإنسان والكون والحياة، وهي – بفضل الله – تملك الكثير من مقومات القوة المادية متمثلة بالتعداد السكاني والثروات الهائلة والمواقع الاستراتيجية، بل المستقبل الواعد بالتمكين والخلافة.
5/ لنقلب معاً صفحات بيضاء من ماضي أمتنا المجيد، ننظر في ثناياها إلى واحدٍ من النماذج المتميزة في إدارة إصلاح الدول والمجتمعات، نموذج لم تُعق القائمين عليه قلة الإيرادات ولا قصر الفترة ولا استشراء الفساد، مَثل من أمثلة الإدارة الناجحة للأزمات الكبرى وتحقيق الإنجازات العظمى، ودرس من دروس الإفاقة الحكيمة لاستعادة النقاء الغابر واسترجاع السداد المنسي.
إن نموذج خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وإصلاحاته الشاملة وصفه المؤرخون بأنه كان تجديداً للدين، واعتبروا أن الخليفة عمر كان مجدداً ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود.
ومن أسباب اختيار هذا النموذج أنه حدث في فترة بعيدة نسبياً عن المرحلة النبوية والخلافة الراشدة، وكان الفساد قد ظهر في جوانب عدة بسبب ما طرأ على مسيرة الحكم الإسلامي من تغيير إلى الملك العضوض، وكثرة سفك الدماء وإضاعة الأموال والتعلق بالدنيا وطغيان الشهوات، مع وجود جوانب خير متمثلة في تنمية القدرات الإسلامية على الجهاد، وكثرة الفتوحات وتوسيع رقعة الإسلام، إضافة إلى ذلك فإن الفترة الزمنية التي تحققت فيها نجاحات عمر لم تكن طويلة بل قصيرة جداً بالمقارنة مع حياة الأمم والدول، فهي لم تتعدَّ السنتين والنصف، كل هذه الميزات تجعل هذا النموذج جديراً بالدراسة والمقارنة غير الكاملة مع أوضاعنا الراهنة.
مقومات الإصلاح في زمان عمر بن عبد العزيز
1- خلفية الإصلاحات: من المعلوم أن لكل سياسة إصلاحية خلفية عقائدية فكرية (أيديولوجية) تشكل أساساً لها وتتحكم في صورة أهدافها، ووسائلها، ونوعية الأشخاص الذين يقومون بها، وسمات العمليات الإدارية التي تمر بها من تخطيط وتنفيذ ومراقبة ومتابعة.
والإصلاحات الإسلامية تنطلق من عقيدة القرآن والسنة، والنظرة الشاملة للإنسان والكون والحياة، وشمولية التغيير والإصلاح، وسعة الأهداف التي تتخطى حاجز المكان والزمان المقيد بالدنيا وحواجزها، كما تتميز بوسائلها الشرعية الطاهرة، وصفات المتولين لتنفيذ سياستها؛ وهذا بالضبط ما يجعلها تنفرد عن غيرها من خلال اتصالها بالله واتصافها بالربانية التي نحميها من قصور البشر وأهوائهم وجهلهم وأخطائهم، ولا تحصر نفسها في معالجة الأسباب المادية الظاهرة فقط؛ بل هي تعترف بالأسباب المعنوية المتمثلة في تقصير البشر في الأخذ بالأسباب والاستقامة على أمر الله وارتكابهم للمعاصي، ثم هي لا تعترف بمعالجات جزئية مبتورة تمسُّ جانباً دون الآخر بل تأخذ الإصلاح والدين كُلاًّ لا عِضين.
والقائمون على الإصلاحات الإسلامية الشاملة يستمدون العون من الله؛ ولذا فهم لا يرجون إلا الله، ولا يخافون إلا الله، ولا يسعون لإرضاء أحد أو يخشون غضب أحد إلا الله، يعبدونه ويعبِّدون الناس له، ولذا تراهم من أكثر الناس عبادة، وأزهدهم في الدنيا، وأشدهم طلباً للآخرة، وأوفرهم نشاطاً وعملاً وسهراً وتعباً.
هكذا كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهكذا أعلن من أوائل أيام خلافته: “يا أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل إليكم كتاب؛ فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حرام إلى يوم القيامة. ألا إني لست بقاض، وإنما أنا منفذ لله، ولست بمبتدع ولكني متبع، يا أيها الناس إن أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم”.
بينت خطبته الخط السياسي الذي انتهجه، ولذا كان عاملاً بالشرع لا يحيد عنه، ولم يتخذ من الوسائل ما تتعارض معه، بل اهتم بالوسائل الشرعية مثل الزكاة في حل المشكلة الاقتصادية فأغناه الله بها، ولم يرض بأخذ الجزية ممن أعلن إسلامه بالرغم من إلحاح بعض الولاة وتخوفهم من أن تنضب موارد الدولة إن رفعت الجزية عن الداخلين إلى الإسلام، وقال قولته المشهورة : “إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً ولم يبعثه جابياً ” كما أنه رفع الضرائب عن الأمة وهي ما تسمى بالمكس؛ وتحكي سيرة عمر بن عبد العزيز أنه كان من أشد الناس خوفاً من الله وأكثرهم قياماً في الليل وبكاءً من خشية الله، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم، وزهد في الدنيا بل زهد في حقه الشرعي وأخذ نفسه بالشدة وطلب الآخرة؛ وكان لا يرتاح إلا قليلاً.
2 – التخطيط: كان عمر رضي الله عنه قد شارك في إدارة شؤون الخلافة والياً ومستشاراً، فتوفرت لديه معلومات كافية عن شؤون الدولة وأخطاء الحكام، وهذه المعلومات الشاملة الدقيقة ساعدته على اتخاذ القرارات المناسبة، وعلى الرغم من هذا لم يكتف بذلك، بل نقل عنه ابن عبد الحكم أنه: “احتجب عن الناس ثلاثاً لا يدخل عليه أحد، ووجوه بني مروان وبني أمية وأشراف الجنود والعرب والقواد ببابه ينظرون ما يخرج به عليهم منه، فجلس للناس بعد ثلاث وحملهم على شريعة من الحق فعرفوها، فردَّ المظالم، وأحيا الكتاب والسنة”. اختلى بنفسه ليخطط ويبني سياساته القادمة، ولم ينس أن يجعلها متدرجة ومرحلية كما ظهر من حديثه مع ابنه عبد الملك حينما استعجله على تطبيقها.
3 – البدء بالنفس وتقديم القدوة: من هراء القول ومن كاذبات الأماني أن يتوقع القائمون على أمر الإصلاحات من أفراد شعوبهم أو شيعهم استجابة صادقة وصبراً وتضحية وحماسة مندفعة في الأخذ بالإجراءات المتخذة للقيام بالإصلاح، بينما يرون قيادتهم وريادتهم تخالف ذلك وترفل في ثياب النعيم؛ بل التبذير والعبث بأموال الأمة، وإضاعة أقوات رعاياهم في إشباع رغباتهم وشهواتهم.
بل إن هذا الموقف المشين ليولِّد النقمة والحقد ويدفع إلى فقدان الانتماء وانتهاز الفرص للانتقام والعمل على عدم نجاح سياسة الولاة، ويحث على التسابق على الكسب الحرام والسلوك الخاطئ.
إن مما يعارض العقل والعُرف لا الشرع فقط، أن يطالب كبراء الناس صغراءهم بربط الأحزمة ووضع الحجارة على البطون والصبر على اللأواء من جراء تبعات سياسات الإصلاح، ثم يختالون – أي الكبراء – أمام أعينهم بمظاهر الترف والبذخ، ويسلكون سبيل السفهاء في التعامل مع مقدرات الأمة.
فقد أعطى عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – من نفسه القدوة السامقة والأسوة الرائعة؛ فقد بدأ بنفسه وأخذها بأكثر مما هو مطلوب؛ إذ تبنى معها كل القسوة وألزمها العنت، ونأى بها حتى عن حقوق وضروريات؛ كل ذلك لأنه علم أنه لا يمكن أن يحدث الانقلاب في دولته ما لم يحدث انقلاباً سابقاً في نفسه يدفع الآخرين إلى احترامه والإذعان لسياسته، وقد تجلّى هذا الأمر في عدد من المواقف نقتطف منها ما يلي:
لما دفن الخليفة السابق سليمان بن عبد الملك، وقام عمر قُرّبت إليه المراكب، قال: ما هذه؟ قالوا: مراكب لم تُركب قطُّ يركبها الخليفة أول ما يلي، فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم، ضمّ هذا إلى بيت مال المسلمين. ثم فعل مثل ذلك مع السُّرادقات والحُجر التي نصبت له، ثم انصرف إلى الفراش والوطاء الذي فرش له وجعل يدفعه برجله حتى أفضى إلى الحصير. ثم تآمر عليه الوزراء في عرض الجواري لعلّهم يجدون منه ضعفاً أو ثغرة يستغلونها فيه، فلما عُرضن عليه كأمثال الدُّمى سألهن عن أصلهن، وأمر بردّهن إلى أهليهن، فلما رأوا ذلك أيسوا منه وعلموا أنه سيحمل الناس على الحق.
دخل عليه أحد أصدقائه (عنبسة بن سعيد) يريد الحصول على مبلغ كبير من المال كان قد أعطيه من الخليفة السابق، ولم يبق من إجراءات التسلُّم سوى القبض بعد أن انتهت إلى ديوان الختم، فأبى عمر وبيَّن له أن المبلغ يُغني آلافاً من بيوت المسلمين وليس له فيه حق، فما كان من عنبسة إلا أن ألمح إلى قطيعة لعمر أعطيه قبل خلافته؛ إذ قال: “فما بال جبل الورس؟ فقال له عمر: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً (مثلاً سائراً)، يا غلام، هات ذلك القفص! فأُتي بقفص فيه قطائع بني عبد العزيز؛ فقال: يا غلام اقرأ عليَّ! فكلما قرأ قطيعة قال: شقها. حتى لم يبق في القفص شيء إلا شقه”.
فخرج صديقه بعد ذاك ليخبر من كان في الباب من بني أمية يطلبون مصالحهم، فلما أعلمهم بذلك، قالوا: “ليس بعد هذا شيء!!” ثم طلبوا منه أن يأذن لهم بأن يلحقوا بالبلدان (يعملون في التجارة) بعد أن يئسوا من أموال المسلمين، فأذن لهم.
عندما بدأ بردِّ المظالم قال: “إنه لينبغي ألاَّ أبدأ بأول من نفسي. فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه، حتى نظر إلى فص خاتم، فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاء به من أرض المغرب، فخرج منه”.
4 – اختيار البطانة الصالحة: حيث شاء الله أن يختص ذاته بالكمال، وأراد بحكمته أن يكون لدى الإنسان مثالب وجوانب قصور مهما بلغ من العلم والتقوى والورع والنجابة والحكمة، وهذا ما يجعله في حاجة إلى من يشركه أمره ويشد به أزره، وأحوج الناس إلى ذلك هم أصحاب الأمانات الكبرى والولايات العظمى، حتى الأنبياء سلام الله عليهم مع عصمتهم وتأييدهم بالوحي، احتاجوا إلى الحواريين والأصحاب والبطانة الصالحة. عند البخاري من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله). وعند أبي داود بإسناد جيد من حديث عائشة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكِّره، وإن ذكر لم يعنه).
لذا فإن القائمين على شؤون الأمة بحاجة إلى من يعينهم على حمل المسؤولية، ومن يبصرهم السداد، ويأخذ على أيديهم عند الخطل، ويحجزهم عن الغواية والظلم، ويقدم لهم المشورة الحكيمة؛ أما اتخاذ بطانة النفاق والسوء الذين تتقشر أكفهم من كثرة التصفيق، وتبح أصواتهم من وفرة الحديث عن المنجزات، فإنهم لا يزيدون الخلفاء والسلاطين إلا خبالاً، ولا يهدونهم إلا سوء السبيل، وتظل تخدعهم بما ترتضيه نفوسهم من زخرف القول والعمل، ثم يستيقظون على خزي الدنيا والآخرة.
اهتم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من أول يوم بتوفير البطانة الصالحة؛ فقد ورد في سيرته أنه قال لعمرو بن مهاجر: “إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يديك في تلبابي؛ ثم هُزني ثم قل: يا عمر ما تصنع؟”.
كما جاء في سيرته أنه لما استخلف قال: انظروا إلى رجلين من أفضل مَنْ تجدون؛ فجيء برجلين، فكان إذا جلس مجلس الإمارة ألقى لهما وسادة قباله فقال لهما: إنه مجلس شرة وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إليّ، فإذا رأيتما مني شيئاً لا يوافق الحق فخوِّفاني وذكراني بالله عز وجل”.
إضافة إلى ذلك فقد سخَّر الله له من أهل بيته من أعانه على تحقيق ما أراد من إصلاح أمور المسلمين؛ فقد كانت زوجته فاطمة نعم الصابرة والمحتسبة والمضحية، وكان ابنه عبد الملك من أكثر أهل بيته شداً لأزره وتقديماً للنصح ودفعاً إلى الخير وموافقة له عليه، ومما يذكر في هذا المقام موقفه في أول أيام الخلافة بعد أن أعلن أبوه عن رد المظالم، ذهب الخليفة عمر يتبوأ مقيلاً، فقال له ابنه عبد الملك: “تقيل ولا ترد المظالم؟ قال: أي بني! قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال له: من أين لك أن تعيش إلى الظهر؟ فخرج عمر، ولم يقِل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة، فليرفعها.
كما أن عمر نادى في الأمة أن تعينه على الخير، وتقدم له الآراء والمقترحات، ووعدها على ذلك المكافأة الجزيلة؛ إذ كتب لهم: “أما بعد: فأيما رجل قدم علينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار بقدر ما يُرى من الحسبة وبُعد الشقة، رحم الله امرأً لم يتكاءده بُعدُ سفر، لعلّ الله يحيي به حقاً، أو يميت به باطلاً، أو يفتح من ورائه خيراً”.