الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له {أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا وقدوتنا وأسوتنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، أما بعد.
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله، وتكذيباً بقدر الله، ومعاداة لرسل الله، واستجابة لداعي الردى في تلك النفوس التي جُبلت على الشح المطاع والهوى المتبع والإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وإن في القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كقولهم لنوح عليه السلام (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) وقولهم لموسى وهارون عليهما السلام (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) وقولهم لصالح عليه السلام (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر) وقولهم لشعيب عليه السلام (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) وجماع ذلك قول الله في القرآن (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: هذه الميتة من قتلها؟ فقال (الله) قالوا: عجباً!! ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ قال سبحانه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وهجى ورشاد، وأنهم يرومون الخير للناس، مثلما قال ربنا جل جلاله عن المنافقين الأولين (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
وفي هذه الأيام النحسات التي تموج فيها بلادنا بكثير من الرؤى والأفكار، يطرح دعاة العلمنة والكارهون لما أنزل الله على الناس شبهات تروج على بعضهم ممن لم يتفقه في دين الله، ولم يعتن بالبحث عما يقوي إيمانه ويزيد يقينه، فيقع الكثيرون – خاصة من الشباب – فريسة سهلة لهاتيك الشبهات، ولا حول ولا قوة إلا الله {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون. لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} ومن تلك الشبهات التي يريدون بها إقناع الناس بأن أحكام الإسلام لا تصلح لزماننا، ولا تناسب أحوالنا، ولا تلائم واقعنا، وما ينبغي إنفاذها ولا الخضوع لها:
أولاً: قولهم: إن في السودان ناساً يدينون بغير الإسلام، وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم، والجواب على هذه الشبهة أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم! فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من تطبيق ما تؤمن به من قيم أو مبادئ؟ ثم هل يوجد في العالم بل وفي التاريخ الإنساني دولة فيها نقاء ديني وإثني وسياسي أم أن التنوع حالة مصاحبة للوجود الإنساني وليست نازلة جديدة؟ أليست الدول المدنية الديمقراطية الكبرى – التي تعظمون شأنها وترون فيها المثال والقدوة – يعيش فيها الناس من أعراق شتى وديانات مختلفة ورؤى سياسية متباينة؟ هل حال ذلك دون تطبيق قانون واحد عليهم جميعا؟
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حماية من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة) بل إن الثابت ـ واقعاً وتاريخاً ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنه وكوسوفا وكشمير عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه. ثم ماذا يضير النصارى – مثلا – أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الاستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب – ممن تربوا على موائدها ويريدون تنفيذ أجندتها على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) لكن الأمر الذي لا ينقضي منه العجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
إننا ندرك من خلال تصريحات هؤلاء أن احترام التنوع عند العلمانيين يعني دكتاتورية الأقلية؛ فإذا علم هؤلاء أن الكثرة الغالبة من أهل السودان مسلمون فبأي منطق يريد هؤلاء إلغاء الحكم بالإسلام وهي رغبة الأكثرية مراعاة لرغبة أقلية قليلة لا تكاد تذكر؟ ولماذا يستعجلون الأمر وهم حكومة انتقالية ما جاءت عبر اختيار حر ولا انتخابات نزيهة، بل فرضوا أنفسهم فرضاً بممارسات لا يزال العهد بها قريبا، والناس عليها شهود؟ إن كانوا يمثلون أغلبية لمَ لا ينتظرون الانتخابات إن كان ثمة انتخابات؟ لمَ لا يحتكمون إلى الشعب عبر استفتاء نزيه؟ إن احترام التنوع الذي يهرف به هؤلاء وتتكلم به السيدة العضو في مجلس السيادة ليس إلا تكريساً لدكتاتورية الأقلية في أبشع صورها.
ثانياً: قولهم: إن علمانية الدولة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني. والجواب هو أن العلمانية ما كانت في يومً من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت في لبنان سنين عددا؟ أم منعت العلمانية صراعاً محموماً في تركيا مع الأكراد؟ وفي هذه البلاد التي حكمت بالعلمانية منذ استقلالها هل حال ذلك دون الصراع السياسي والانقلابات العسكرية، بل التصفية الجسدية كالتي حصلت للأنصار في أبا وود نوباوي من قبل الشيوعيين؟ بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون بالعلمانية بل بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك (وجادلهم بالتي هي أحسن) (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (لا إكراه في الدين) (إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
ثالثاً: قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس، والجواب أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله عز وجل في القرآن (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وقال ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وقال (وإن كثيراً من الناس لفاسقون) (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم) وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروةً فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضا المسلمين ولا مشورتهم بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر، ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً
رابعاً: قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات. نقول: بل الدين لله والوطن لله والحكم لله والخلق عباد الله (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليهاـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
خامساً: قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي. نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً على نهج ماركس، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا) ويقول (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
سادساً: قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية. ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدور فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تُستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يُعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله ثم يُجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم. (ما لكم كيف تحكمون؟ أفلا تذكرون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون) إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله عز وجل وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك. إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً
سابعاً: قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة. والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالإسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده فقد شرع الله تعالى للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراما. قال الله تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم (أنتم أعلم بشئون دنياكم) فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم ومنا ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله عز وجل (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
أيها المسلمون عباد الله: إننا نطرح على دعاة العلمانية هؤلاء من المسئولين وغيرهم سؤالاً: إن بريطانيا دولة ديمقراطية بغير خلاف بيننا وبينكم، فهل تنكرون أن القانون البريطاني ينص على أن رأس السيادة العليا يجب أن يكون بروتستانياً وأن الكنيسة الإنجيلية هي الكنيسة الرسمية للدولة؟ لم لا يراعون المذاهب النصرانية الأخرى ويجعلونها على قدم المساواة تحت دعوى احترام التنوع؟ وسؤال آخر: إن في الولايات المتحدة وهي دولة ديمقراطية بغير خلاف بيننا وبينكم حزباً شيوعيا، لكن أين هي أدبياته في سياسات الدولة الأمريكية؟ لماذا يخضع الحزب الشيوعي الأمريكي للتعايش مع اقتصاديات السوق الحر الأمريكي ضارباً برؤاه الاشتراكية عرض الحائط؟ ولماذا يخضع الحزب الشيوعي للأيدلوجية الرأسمالية في الدول التي يشكل فيها أقلية ويرفض الخضوع للأيدلوجية الإسلامية في الدول التي تطالب الأغلبية فيها بتطبيق الإسلام ويرى ذلك مخالفاً لاحترام التنوع؟