خطب الجمعة

شروط الإستخلاف

إن الأدلة النقلية والبراهين العقلية تقوم ناطقة على أن الأصل في الإسلام هو السلام؛ إذ الإسلام دين يتوخى الأمن ويسعى إلى تحقيق السلام؛ فالسلام اسم من أسماء الله الحسنى؛ وشرائع الإسلام وصِفت بأنها سِلْم وسلام في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في هذا السلم؛ حيث دعاهم إلى التزام جميع عرى الإسلام، وامتثال كافة شرائعه؛ ومن شرائع ديننا الحنيف، الدعوة الصريحة إلى تحقيق الأمن والسلام متى ما وُجِدت أسباب السلام. يقول تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}

والأمر هنا موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى من يلي أمر المسلمين من بعده؛ ومعناه: فإن مال العدو إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة، فَمِل إليها أنت ومن اتبعك، وأقبِلوا عليها، {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} بل أبعد من ذلك أن الله تعالى نهى عن التعرض للأعداء بالقتال، أو بأضعف صور السوء ما داموا محتمين بهذه الحال من المسالمة والمهادنة.

قال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} بل إنه أباح للمؤمنين الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونهم في الدين، ولم يعاونوا على إخراجهم، وأن يعدلوا في معاملاتهم، ولا يظلموهم في شيء، عسى الله تعالى أن يبارك في هذا التعامل الإنساني المبني على البر والقسط، فيجعل بين المسلمين وبين أعدائهم محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة. مصداقاً لقول الله جلّ جلاله: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} كل هذا يقوم دليلاً ناطقاً على أن الإسلام يقوم على روح إنسانية سالمة من الضغائن والأحقاد، غير أنه إذا قوبلت هذه الروح السلمية بروح همجية بربرية صار القتال عند المسلمين فريضة وضرورة.

الجهاد فريضة وضرورة:  إذا كانت الأصول السابقة تؤكد تأكيداً صريحاً أن الإسلام دين الأمن والسلام العالميين، فلا ينبغي أن يُفهم من ذلك أنه دين الجبن والاستسلام، أو أنه أفيون لعقول الخاصة وتخدير لمشاعر العوام، بل إنه دين ينبذ العدوان ويأبى الطغيان؛ بحيث إذا انتُهِكت حرمات الله تعالى، وأريقت دماء الأبرياء، وأُزهقت أرواح الشهداء، وأُبيد العباد إبادة جماعية، وانتثرت أجساد الناس أشلاءً أشلاءً، وأُذلت إنسانية الإنسان، واقتلعت الأشجار، وخرّبت البيوت، وهدّمت المدارس والمستشفيات والصوامع، وطُمست المعالم الحضارية، وبكلمة جامعة: إذا أُهلك الحرث والنسل، فلا أمن ولا سلام، بل إذا حصل بعضٌ مما ذُكر وبالأحرى كله، صار القتال واجباً على كل مسلم بالغ عاقل قادر، قتالاً لا اعتداء فيه ولا عدوان، قتالاً أقل ما يمكن أن يقال عنه: إنه فريضة وضرورة: فريضة دينية، وضرورة حضارية، وهذا في حد ذاته مظهر من مظاهر سلام الإسلام.

 يقول الحق سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالقتال وإن كان في حد ذاته شيئاً تكرهه النفوس، فإنه في الوقت ذاته ذروة سنام الدين؛ لأنه رد لما في فتن الأعداء من الشر والفساد الذي هو أكبر وأعظم من كل فتنة، وإن التكليف من أجل الحرية مهما كان شاقّاً، فإن الرضا بالذل والهوان والدونية يكون في الغالب الأعم أشقَّ وأمرَّ، وإن العدو كلما أحسّ بتنازل يسير من المسلمين، ازداد همجية وغطرسة، وتطاولاً على المقدسات، واعتداء على الدماء والأعراض.

وعلى هذا الأساس، فقد فُرض القتال في الإسلام، سياحة للأمة الإسلامية، وحماية للأعراض، وذوداً عن الثغور؛ إنه القتال لإخراج الناس من جور الطواغيت إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، إنه القتال للذود عن المقدسات، إنه القتال لنشر الإسلام: عقيدة وشريعة، وتمكينه في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهاره على الدين كله، وفي الحديث الشريف: «لن يبرح هذا الدين قائماً، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»

وليس من العبث أن يأتي القرآن الكريم مليئاً بالنصوص التي توجب القتال وتدعو إليه، وتعظم أمر الجهاد وتذم التاركين له، وتصفهم بالنفاق ومرض القلوب… كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وقوله عز وجل: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}

غير أن الواقف عند هذه النصوص القرآنية وقفة تأمل وتدبر، يتبيّن له ابتداءً أن الجهاد لا يكون دائما بالخروج المباشر إلى ساحة الحرب والقتال: إنما يكون أحياناً بالمال، ويكون أحياناً أخرى بالنفس، وقد يكون أيضاً باللسان… وبأي شكل كان، فهو تجارة لن تبور، تجارة رابحة مع الله عز وجل؛ وهذا ما تؤكده نصوص عدة، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ}

 إنها تجارة رابحة، تجارة: رأس مالها الجهاد بالمال أو النفس أو اللسان، والربح فيها إعلاء كلمة الله تعالى في الدنيا، والظفر بالجنة في الآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}  والأمر الذي لا شك فيه ولا جدال، أن تنصيص الوحي على الجهاد باللفظ العام والمطلق من غير تخصيص ولا تقييد كان لحكمة إلهية بالغة: إذ النفس مراتب وأنواع، والمال أصناف وأشكال، واللسان عديد الوظائف، فأيّها جُنِّد في مواجهة العدو كان جهاداً في سبيل الله…

 وبهذا لن يُحرَم أولو الضرر من الظفر بأجر الجهاد، ولن تحرم النساء من ذلك، ولن تتعطل المؤسسات الصناعية والاقتصادية والمالية والتعليمية والتربوية والصحية والإعلامية وغيرها عن أداء وظيفتها الحضارية أثناء الحرب، فإن حطَّم العدو مؤسسة من المؤسسات، نَفَر فريق من المسلمين لإصلاح ما دمّره العدو أو إيجاد بديل عنه؛ وإن احتاج المجاهدون بأنفسهم إلى السلاح أو الدواء أو الإمداد وهذا أمر لا بد منه وجدوا مِن ورائهم مَن يمدهم بكل ما يحتاجون إليه وزيادة، وفي هذا كفاية للرفع من معنوياتهم، وإشعارهم بوجود من يحمل همّ هذا الدين معهم، وهذا سرّ مكين من أسرار قوله تعالى في سورة التوبة: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» فجاء النص عاماً ليستغرق كل ما من شأنه أن يساهم في ترهيب المشركين من العتاد المادي واللفظي والمعنوي.

غير أن الكثيرين من مسلمي زماننا أساؤوا فهم مثل هذه النصوص، فاعتقدوا أن الخروج إلى الجهاد فرض كفاية، وقعدوا عن الالتحاق بالمقاتلين: إِنْ خوفاً وتهاوناً، أو محاصرة من لدن من نصّبوا أنفسهم دعاة للسلام ومحاربين للإرهاب.

وفي كل الأحوال فلا ينبغي للمسلم أن يعجز أو يتقاعس عن تقديم الدعم المناسب لإخوانه، ولا سيما في الظروف العصيبة كالتي نعيشها ونعاني من أهوالها في هذا الزمان، وتقديم الدعم المناسب بأي شكل كان، إنما يدخل في باب التجهيز للغزاة، وفي الحديث الشريف أن «من جهز غازياً في سبيل الله، فقد غزا، ومن خَلَفَه في أهله بخير فقد غزا» وإنما ظفر المجهز بشرف الغازي؛ لأن في التجهيز تقوية لشوكة الغازي، وترهيباً وترويعاً للغاصب المعتدي، ولمن يقف وراءه بالدعم المعنوي والعسكري والمادي

الاستخلاف والتمكين صنيع رباني:  أغلب الآيات البينات التي جاءت لتحريض المؤمنين على قتال المعتدين، وحثهم على جهاد المشركين تؤكد أن القتال وإن كان فيه ما كان من المصائب والبأساء والضراء؛ فإن فيه أيضاً فوائد جليلة في العاجل والآجل، فوائد لا توجد في القعود والدعة، ومنها: امتثال المكلفين لأمر الله تعالى بالقتال، وظفرهم بالغنيمة، وظهورهم على الأعداء، وتمكنهم في الأرض، ونيلهم للشهادة، ومن ثمة ظفرهم بأعلى عليين الجنة، وهذه المكرمات اللامتناهية يقابلها ما يلزم القاعدين عن القتال والمتخلفين عن الجهاد من الذل، والهوان، وذهاب الأمر، والروح الانهزامية الأبدية، وهو عينه ما يحصل للمسلمين في زماننا حيث تُرك الجهاد على الثغور، وتمكن الجبن في الأنفس، وتولى المسلمون أيام الزحف للركون إلى ما طاب وما خبث من الشهوات والملذات، حتى استولى المشركون على أراضي المسلمين، وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وأسروا رجالهم، واستحيوا نساءهم، ومزقوا أجساد أطفالهم أشلاء أشلاء؛ فإنَّا لله وإنا إليه راجعون؛ ذلك بما قدمت أيدينا، وأن الله ليس بظلام للعبيد.

  وإذا كنّا مسلمي هذا الزمان قد صارت الهزيمة عنواناً لنا، والاستكانة لازمة من لوازمنا؛ فقد حان الأوان لتتحرك هممنا، فنتساءل مستفهمين ومستنكرين عن أسباب الهزائم التي تُلحَق بنا كلما تمَّ الهجوم علينا، مع أن أسلافنا كانوا يُلحقون الويلات بأعداء الدين، وكان العدو يضرب ألف حساب لعمر وحمزة وخالد والجرّاح وقُطز والرشيد وصلاح الدين، وغيرهم ممن كان من المقهورين فصار من القاهرين، وكان من المطلوبين فصار من الطالبين، حتى حقق الله على أيديهم النصر المبين، وأظهر بهم الدين، وشتت على أيديهم شمل المشركين.

فما الذي أهَّل أولئك لدحر العدو وترهيبه مع قلتهم وندرة إمكاناتهم؟ وما الذي خذل هؤلاء مع وفرة الرجال وكثرة العتاد؟ جواباً على هذا السؤال أقول: لا يحتاج الباحث عن الحقيقة إلى جهد جهيد للوقوف على أسرار ثبات رجال السلف، وتمكنهم في الأرض، وظفرهم بالأمن بعد الخوف، بل إن نظرة أولية إلى تاريخ الإسلام والمسلمين تكشف عن حقيقة الترسانة الحربية التي كان المسلمون يعتمدونها سلاحاً لترهيب أعدائهم؛ إنها ترسانة لا تُقاوم مَهْما بَلغ عتاد الأعداء الحربي في التطور والدقة، إنها طبعاً ترسانة الإيمان بالله تعالى والعمل بما يرضيه؛ فقد دخل أنصار محمد صلى الله عليه وسلم في السَّلم كافة، وامتثلوا شرائع الإسلام جملة وتفصيلاً، ونصروا الله تعالى موقنين، فنصرهم نصراً عزيزاً يعز به الدين، ويذل به الشرك والمشركين الحاقدين، وهذا سر مكين من أسرار الاستخلاف والتمكين.

  وإذا استقرأنا ما بين دفتي المصحف الشريف ألفينا نصوصاً قرآنية عدة ورد التمكين فيها منسوباً إلى الله تعالى، ومنها قوله جل جلاله: [ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْض ]( الأعراف: 10 )، وقوله عز وجل: [ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء ]( يوسف: 56 )، وقوله جل شأنه: [ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا ]( القصص: 57 ).

  وفي القرآن الكريم أيضاً نصوص كثيرة تدل على أن النصر من عند الله تعالى؛ حتى إن في القرآن سورة تسمى بسورة النصر، وفي مطلعها نُسب النصر إلى الله تعالى: [ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ]( النصر: 1 )، نصرٌ يخص الله تعالى به الموحدين، وإن كانوا قلة، ويرفع به راية المسلمين، وإن كانوا أذلة، وهو الذي ينزل سكينته على المؤمنين، ويؤيدهم بجنودٍ لا تراها العيون [ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ]( آل عمران: 126 )؛ لهذا كان الصالحون المصلحون من الأنبياء والأئمة والدعاة، عبر تاريخ الإنسانية، يتضرعون إلى الله تعالى ويستنصرونه، كما جاء في قوله تعالى حكاية عن نوح – عليه السلام -: [ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ]( المؤمنون: 26 )، وكما جاء في قوله عز وجل على لسان الموحدين: [ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ]( البقرة: 250 )، وهذا ما ينبغي أن يكون ورداً يومياً لعباد الله الصالحين: [ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ]( الحج: 40 ).

 فأما من كان يطلب النصر عند غير الله تعالى من إله مزعوم، أو شخص متَّبَع، أو جهة يظنها قاهرة، فقد حكم على نفسه بالهزيمة المحققة والذل الأبدي، وليعلم إن كان يجهل أو يتجاهل أن المسؤول لا يستطيع لنفسه ولا لغيره نصراً ولا ظهوراً أمام قوة الله تعالى القاهرة؛ ومن تمسك بالله عز وجل فقد ظفر بنصر يعلو ولا يعلى عليه مصداقاً لقوله جل شأنه: [ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ]( آل عمران: 160 ).

 * شروط الاستخلاف والتمكين:  في القرآن الكريم آيات بينات كثيرات تعِد المؤمنين بالأمن والاستخلاف والتمكين، ومنها قول الله تعالى: [ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ]( النور: 55 ).

 ففي هذا النص وعد بالاستخلاف والتمكين، وهو وعد عام في النبوة والخلافة والإمامة والقيادة؛ إنه وعد مطلق في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وإن في النص دلالة قاطعة على أن الاستخلاف فعل إلهي صرف، وأن التمكين صنيع رباني خالص؛ غير أن شيئاً من ذلك لا يمكن أن يتحقق إلاّ إذا وجدت شروط النصر ومؤهلاته، وأبرزها بعد عقيدة التوحيد: الإيمان بالله تعالى، والعمل الصالح؛ وتفصيل ذلك هو الآتي: 1 – شرط الإيمان بالله تعالى:  جاء في النص القرآني السابق: [ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ]( النور: 55 )، وهو وعد رباني صادق بالاستخلاف والتمكين لطائفة بعينها؛ إنها طائفة الذين آمنوا، فتبين أن الله تعالى لا ينصر الكافرين، ولا ينصر الفاسقين، ولا ينصر الظالمين، ولا ينصر المعتدين، ولا ينصر الفراعنة الطاغين، ولا ينصر المنافقين، بل إنه تعالى وعد وتكفل بنصر المؤمنين الملتزمين بدين الله الخالص، الذابِّين عن حوزة هذا الدين، حتى يتحقق الأمن والعز للإسلام والمسلمين، وإن نصر الله تعالى للموحدين المؤمنين، رهين بنصرتهم لله تعالى: في سرِّهم وعلنهم، وفي حركاتهم وسكناتهم، وإن بين النصرين علاقة أشبه ما تكون بعلاقة اللازم بالملزوم؛ مصداقاً لقوله تعالى: [ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ]( الروم: 47 )، وقوله جل شأنه: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ]( محمد: 7 ).

 فالخطاب هنا موجه إلى الذين آمنوا، والوعد الرباني ينفذ في الذين آمنوا، فمَن هم المؤمنون؟ إنهم الذين وصفهم الوحي بصفات متنوعة، وفي مواضع عدة، يكفينا منها ما جاء في مطلع سورة المؤمنون المكية: [ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ]( المؤمنون: 1-11 )؛ فما أكثر المصلين في هذا الزمان، ولكن ما أقل من يقيم الصلاة، ومن يخشع فيها، ومن يحافظ على أوقاتها، ومن يظفر بمقاصدها ! وما أكثر الأموال التي تنفق في بلاد المسلمين، ولكن ما أقل ما ينفق في سبيل الله لإقامة المصالح الخاصة والعامة للمحرومين، وما أكثر صور اللغو في صفوف المسلمين، وما أكثر صور الزنا السري والعلني والمرخَّص له في بلاد الإسلام، وما أكثر الأمناء وأهل العهود، وما أقل من يؤدي الأمانة ومن يفي بالعهود ! كل هذا، والإسلام يدعو إلى أن تكون أمة الإسلام أمة العفة والطهارة ومكارم الأخلاق، أمة الأمن والسلام، أمة القيادة والشهادة على الناس، أمة الرسالة الخالدة، أمة تهابها الأمم لما معها من الحق والبرهان، أمة تحتمي بها الأمم إذا بغى بعضها على بعض…

 وبالفعل فقد كانت هذه الأمة على هذه الحال من القوة والمسؤولية، ولكنها للأسف الشديد صارت في زماننا أمة الروح الانهزامية، أمة الضعف والدَّخَن، أمة الذل والاستكانة والاستسلام.

 وما كنا لنصل إلى هذه الرتبة من الدونية والتبعية لو اتقينا الله حق تقاته، وأخلصنا له حق الإخلاص، وامتثلنا شرائعه حق الامتثال.

 قال تعالى: [ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ]( النحل: 112 )، وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.

 قيل: يا رسول الله ! فمِنْ قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يُجعل الوهن في قلوبكم، ويُنزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت » [6].

 2 – شرط العمل الصالح:  جاء في النص القرآني السابق: [ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات ]( النور: 55 )؛ فالخطاب هنا موجه فضلاً عن المؤمنين إلى الذين يعملون الصالحات، والوعد الرباني ينفذ فيهم، غير أن صلاح الأعمال يتوقف على ما يترتب عليها من درء المفاسد وجلب المصالح في العاجل والآجل، وعلى كل ما من شأنه أن يحفظ للمسلمين دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم؛ فما أكثر الأعمال التي تبدو في الظاهر صحيحة، لكنها في منظور الشرع والعقل والفطرة غير صالحة:  إذ ليس من العمل الصالح أن يُشجع العصيان والفسق والسوء والفجور في بلاد المسلمين: كتشجيع الاقتصاد القائم على رجس الربا، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهده؛ وكالتساهل في ترويج الخمور، وهي أمّ الخبائث، وقد بيّن الله تعالى أنها رجس من عمل الشيطان وأمَرَ باجتنابه؛ وكالتسامح مع الزناة؛ مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أهل الزنا بالفناء المحقق؛ فهل بعد هذا التبشير من استدلال وتعليل؟  وليس من العمل الصالح أن تتحول وسائل إعلام المسلمين إلى منابر تسعى إلى تعميم الفساد في الخلق، وإلى نصرة الباطل على الحق، وفي الوقت نفسه يُسكَت صوت العلماء الربانيين، والدعاة العاملين على نشر الحق والفضائل ومكارم الأخلاق في صفوف المسلمين.

 ففي هذا الظرف العصيب لا تزال بعض وسائل إعلامنا المكتوبة تخص صفحاتها للخطابات السخيفة التافهة، والتي أقل ما يمكن أن يترتب عليها توهين العزائم وتثبيط الهِمم؛ أقصد هِمم المجاهدين الذين وفقهم الله تعالى للجهاد، وهيأ لهم أسباب الاستشهاد.

  إن جل أعمالنا في هذا الزمن الرهيب لا تمت إلى الصلاح بصلة، مع أن انتصارنا واستخلافنا رهين بالعمل الصالح بعد الإيمان بالله تعالى: [ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ]( المائدة: 9 )؛ فليس من العبث أن يتم التنصيص على العمل الصالح جنباً إلى جنب مع الإيمان بالله تعالى؛ وليس من العمل الصالح أيضا أن يوالي المؤمنون المشركين من دون المؤمنين بأي صورة من صور الموالاة، وقد نهى الشرع في أكثر من نص قرآني وحديثي عن موالاتهم وعن الاستعانة بهم، ومن فعل ذلك فقد تبرأ منه الله ورسوله والملائكة والمؤمنون.

 يقول الحق سبحانه وتعالى: [ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ]( النساء: 139 )، ولا سيما أن من صفات الكافرين اللازمة لهم التضليل للعباد والكره للمؤمنين وحسدهم على ما منّ الله به عليهم من نعمة الإسلام والإيمان من بعد ما تبين لهم الحق، ورغبتهم في ردة المسلمين عن دينهم، وحرصهم على ذلك.

 قال تعالى: [ وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ]( البقرة: 120 ) وكيف يرضى اليهود و النصارى عن الموحدين وهم الذين لم يتريثوا لحظة واحدة لضرب الإسلام والمسلمين عبر الأزمان وفي كل مكان: بدءاً بمهبط الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصولاً إلى ما يحدث في أيامنا هذه في فلسطين وفي أفغانستان، وبشكل أكثر بشاعة في العراق حيث غطرسة أحفاد القردة والخنازير، وعجرفة رعاة البقر.

  وفي تقديرنا يبقى واضحاً أن الحروب التي يشنّها المشركون على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لا مسوِّغ لها، ولا تفسير لها إلاَّ أن تحمل المسلمين على عدم التساهل في كل زمان ومكان مع المعتدين الذين يعلون في الأرض فساداً، ولا سيما أن القرآن الكريم دعا دعوة صريحة إلى معاداة الغاصبين المعتدين ومقاطعتهم، وعدم موالاتهم، ومن يتولهم فهو منهم، وحث المسلمين على أسرهم، وقتلهم حيثما كانوا وأينما وجدوا.

 قال تعالى: [ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوَهُمْ وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ]( النساء: 91 ).

  وعلى العموم، فإن ما يتعرض له المسلمون في هذا الزمان من الإهانة والتعذيب كاف لمن أراد أن يعتبر؛ فكيف نطمع في نصرة الله تعالى، وكيف نطمع في الاستخلاف والأمن والاستقرار والتمكين وأغلب أعمالنا لا يرضاها الله تعالى لنا؟ أعمال قد تبدو في ميزان المصالح الدنيوية الصرفة أنها أعمال صحيحة، والراجح أنها أعمال غير صالحة، بل إنها أعمال فاسقة يُسر بها الشيطان، وتستوجب غضب الرحمن، وتستدعي الخراب والدمار، وزوال الأمة بأكملها، وتلك سنة من سنن الله في الخلق، مصداقاً لقول تعالى: [ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ]( الإسراء: 16 ).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى