الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً رسول الله، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، أما بعد
ففي مثل هذه الأيام من شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام على ما قال به بعض أهل العلم، وتلك الحادثة أيها المسلمون عباد الله يستفاد منها دروس ويستخلص منها فوائد:
أولها: أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لأمره، فالدينُ دينُه، والشرعُ شرعُه، والحكمُ حكمُه، الحلال ما أحلَّ، والحرام ما حرَّم، والدين ما شرع، وما على المؤمن إلا أن يسمع ويطيع {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}
ثانيها: أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أعظم الناس عبودية لربِّه جل جلاله حين بادر إلى تنفيذ أمر الله وهو في الصلاة، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم كانوا في تنفيذ أمر الله مسارعين وبحكمه راضين، حين كانوا في مسجد بني حارثة وفي قباء فأخبرهم مخبرٌ بتحويل القبلة فاستداروا وهم في الصلاة. عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستَّة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم. فخرج رجلٌ ممن كان صلى معه، فمرَّ على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة، فدارُوا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
ثالثها: أن الله جل جلاله يختبر عباده بالأوامر والنواهي؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلم المؤمنين المخلصين من الشاكِّين المرتابين {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم} {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ # وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} وقال تعالى {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وقال تعالى {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا}
رابعها: شغب السفهاء من اليهود ومن كان على شاكلتهم وطعنهم في الدين {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني في أهل الكتاب – (إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين)
خامسها: وسطية هذه الأمة {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} قال ابن كثير رحمه الله تعالى: لما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب
أيها المسلمون عباد الله: ثمة رسائل لا بد من توجيهها في هذا اليوم المبارك، وبلادنا تمور بها الأحداث موراً، وفي كل يوم يتجدد للناس شأن ويحصل فيهم تحول، فلا يمسي الناس حيث يصبحون ولا يصبحون حيث يمسون، ونسأل الله تعالى أن يجعل عاقبة ذلك خيراً للبلاد والعباد
أولى هذه الرسائل: أن الحفاظ على أمن البلاد والعباد مطلبٌ شرعيٌ وفريضةٌ دينيةٌ وضرورةٌ إنسانيةٌ، لا تستقيم الأمور إلا بتحقيقه، فما ينبغي التفريط فيه، ولا التهاون به؛ ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا، وليس من مصلحة الناس أبداً – حكاماً ولا محكومين – أن تسود الفوضى ويضطرب الأمن وتتحول البلاد إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، وإذا ضاع الأمن لا قدَّر الله وانفرط العقد فكلنا خاسرون، ولن يَصلحَ بذلك دينٌ ولا دنيا، ولذا فإننا ندعو – من منابرنا – إلى أن يسارع المجلس العسكر ي الانتقالي الحاكم في ترتيب الأوضاع في البلاد ترتيباً صحيحا، وذلك بتشكيل حكومة كفاءات تضطلع بمهامها و تتحقق بها مصالح الناس، ويحصل من خلالها تقليل للمفاسد وحل للأزمات بعضها أو كلها. حكومة تقوم على كفاءات مشهود لها بعيداً عن المحاصصة الحزبية أو المناطقية.
ثانيها: أننا – معشر الدعاة إلى الله تعالى – ندعو إلى معاقبة كل مفسد، ومحاسبة كل مقصر، والأخذ على يد كل سفيه، فما ينبغي أن يفلت من العقاب من يستحقه، فما ضرَّ البلادَ والعبادَ شيءٌ مثلما ضرَّهم أن يأمن المسيء العقوبة، فإن من أمن العقوبة أساء الأدب، كل من سفك دماً حراماً أو أكل مالاً حراماً ينبغي أن ينال جزاءه في محاكمات عادلة تشفِ صدور قوم مؤمنين، وتذهب غيظ قلوبهم، وما زال الدعاة إلى الله من على منابرهم يتكلمون عن ذلك من أمد بعيد؛ فإن الدعاة وأهل العلم هم الذين تكلموا عن فساد مبدأ التحلُّل، وهم الذين خوَّفوا الناس بالله من عاقبة التعدي على المال العام، وهم الذين دعوا إلى تأقيت مدة الحاكم لئلا يتمادى به طول الأمد إلى الطغيان، وهم الذين استنكروا قتل المتظاهرين السلميين أو التعدي عليهم، وكلماتهم في ذلك محفوظة مشهورة، وإن حاول الكارهون والشانئون أن يطمسوها أو يصوروا لبعض ضعاف العقول أن الدعاة إلى الله كانوا بالظلم راضين أو له مبررين أو على بقائه حريصين. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم، وإذا لم تكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والضوء مسفر ، ومع ذلك نقول: لا يجوز أخذ الناس بالظِّنة ولا يجوز إلقاء التهم جزافا، بل التثبت شعار المؤمن {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}
ثالثها: يا معشر الشباب يا أبناءنا ويا إخواننا: إياكم وأن يتخذ منكم البعض مطية لأغراضه؛ أو أن يركب على ظهوركم من أجل أن ينال مغنماً أو يشبع شهوته في الحكم، أو من أجل أن يمرر أجندة غريبة عن مواريث البلاد ودين أهلها، فقد ضحَّيتم وبذلتم وما زلتم؛ أسأل الله تعالى أن يتقبل من مات منكم شهيدا، وأن يعافي من بقي منكم جريحا، وأن يعوضكم عما بذلتم خيرا؛ وما كانت احتجاجاتكم تلك ثورةً منكم على الدين والأخلاق بل ثورة على أوضاع فاسدة من أجل غد أفضل ومستقبل أطيب، يجد فيه كلُّ ذي حق حقه، فإياكم والتحلُّلَ من قيم الدين وأخلاق المسلمين، إياكم والانجرار إلى سفاهات لا تليق بأهل هذه البلاد الذين رُبُّوا على القيم في احترام الكبير وتوقيره وعفة اللسان وسلامة المنطق، فإنه قد ساءنا ما سمعنا من ألفاظ نابية وإشاعات مغرضة وأكاذيب ملفقة وتهم مرسلة وممارسات يندى لها الجبين؛ فيما يكتب الناس وفيما يقولون، من تعدٍّ على الأعراض وانتهاك للقيم وتدخل في الخصوصيات، وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا، وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
رابعها: يا معشر الدعاة ويا أهل الإسلام: ارفعوا رؤوسكم وارفعوا أصواتكم، وأعلنوا مطالبكم، ولا تخشوا غير الله، فليس هناك ما تستحون منه ولا ما تخافون منه؛ ولا يغرنكم أولئك الأغيار الذين علت أصواتهم وقد بدت البغضاء من أفواههم، لا تخافوهم ولا ترهبوهم {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} إن الدعاة إلى الله ومعلمي الناس الخير ما كانوا يوماً من الأيام مطية لحاكم، ولا مركباً لظالم، ولا استفادوا شيئاً من نظام قد مضى، بل الدعاة إلى الله وأصحاب المنابر في هذه البلاد أغلبهم متطوعون، يأكل أحدهم من كدِّ يمينه وعرق جبينه، ليس لهم كادر وظيفي ولا راتب حكومي؛ وقد بذلوا النصيحة مخلصين، وكان شعارهم {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} فمن طعن فيهم فهو بالطعن أولى، ومن كان لهم كارهاً فإنما ذلك لمرض في قلبه
خامسها: رسالة للحكام الجدد نقول فيها: الدين خط أحمر، والشريعة غاية الغايات، لا يقبل منكم التعدي عليها ولا تلبية مطالب من يدعون إلى تنحيتها؛ فمن أجل الدين تزهق النفوس، ومن أجله تراق الدماء، ومن أجله تكون الموالاة والمعاداة، فقد سمعنا بعض من طالت عن الله غربته، وقد قضى سحابة عمره واضعاً يده في أيدي المتمردين وكل من حادَّ الله ورسوله يفوه بمكنون نفسه ويقول: لا بد من تحييد الدين؛ فلا علاقة للدولة بالدين، ولا علاقة للدين بالدولة!! {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} هذه مقولة من لا يرجو لله وقارا، مقولة من فسدت عقيدته ورقت ديانته، مقولة النصارى: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله. أما المسلمون الموحِّدون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون: قيصر وما لقيصر لله رب العالمين {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} وإن المسلم حقاً هو المستسلم لله تعالى في شأنه كله، المحكِّم له في جميع أحواله، الخاضع له في أمره ونهيه؛ كما قال سبحانه {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وكما قال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}
أيها المسلمون: إن تحكيم الشريعة في حياة الناس هو مطلب الشرفاء، وهدف المؤمنين الأتقياء – حكاماً ومحكومين – إذ لا خيار لهم إلا ذلك، ولا هدف أسمى في حياتهم، يسعون لتحقيقه، ويجاهدون لتنزيله، من أن يروا شريعة الله حاكمة؛ وقوانينها مطبقة، وآدابها سارية، فتلك غاية الغايات وأنبل المقاصد وأنظف الرايات؛ ليقينهم بأنها قد حوت الكمال كله، والخير كله، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأن المسلمين ما يحتاجون معها إلى غيرها؛ قال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقد علم الناس أن في شريعة الإسلام أنظمة اجتماعية وأخرى اقتصادية وثالثة جنائية ورابعة للسياسة الشرعية، مع ما فيها من تنظيم لعلاقة الإنسان بربه وبأخيه الإنسان، وهي شريعة مرنة سهلة رفع الله عنا فيها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، وفيها قدرة على مواجهة النوازل والتكيف مع الحوادث
أيها المسلمون: إن إيماننا لا يكمل وديننا لا يصح إلا إذا رضينا بأن تكون شريعة الله تظللنا، وأحكام الله تعلونا؛ وقد نطقت بذلك آيات القرآن الكريم؛ فقال سبحانه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعليه فليتوكل المتوكلون}، وقوله سبحانه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}
أيها المسلمون: إننا نذكركم – في هذه الأيام – بصفحات من تاريخ هذه البلاد المعاصر، والذي ينبئنا أن أعداء الله عز وجل يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويمكرون المكر الكبار بالليل والنهار، ويمنُّون أنفسهم بيوم تسقط فيه راية الشريعة ويرضى المسلمون بالدنية في دينهم؛ وقد شنوا حرباً عسكرية ضروساً استمرت عقوداً، منذ أن استقلت هذه البلاد في منتصف القرن الماضي، وقد شاء ربنا أن يخزيهم ويَفُلَّ كيدهم ويبطل مكرهم {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} وما زال أعداء الله يبذلون الوعود والأماني لأهل الحكم؛ حالهم كحال الشيطان {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} بأن السودان سترفع عنه العقوبات الاقتصادية، ويُمحى اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ويُعاد إلى منظومة المجتمع الدولي؛ إلى آخر تلك الأماني التي لن يمضي إلا وقت يسير حتى يكتشف الناس أنها {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أو {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}
أيها المسلمون إن وجوهاً كالحة طالما ضاقت ذرعاً بالإسلام وأهله، واشمأزت من ذكر الله؛ يمننون أنفسهم بردة سريعة تَرجع بالناس إلى عهود التيه والظلام حيث كان الخمر مبذولاً والزنا متاحاً وسبُّ الدين يُسمع من غير نكير، والحال كما قال ربنا {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ^ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ^ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ^ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
أيها المسلمون عباد الله: إن القلوب التي تخفق بحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والتي طالما تاقت إلى أن ترى حكم الله يسود وشرعه يعلو لا يمكن بحال أن ترضى بمثل هذا، وإن سؤالاً لا بد أن يوجَّه إلى أهل الحكم عندنا: أترون تلك الدماء الزكية التي نزفت وأرتال الشهداء الذين صعدت أرواحهم إلى الله تعالى، أترون ذلك كله كان من أجل دنيا أو منصب أو جاه؟ اللهم لا. أترونهم قدَّموا نفوسهم الزاكية رخيصة في سبيل الله من أجل أن يسقط فلان أو يحكم فلان؟ اللهم لا. أترون أولئك الشباب والشيوخ الذين جاهدوا في الله حق جهاده يرضون بأن ترضخ القيادة لأهل النفاق تحت دعوى الإجماع الوطني فتمحو القوانين الشرعية طائعة مختارة؟ اللهم لا.
ألا إنه ليس من حق أحد خلال هذه الفترة الانتقالية أن يفرض إرادته على الناس، بل الموعد صندوق الانتخابات، فجمهور الناس هم الذين يقررون من خلال من ينتخبونهم ويرتضونهم حكاماً، وليس فئة قليلة من الناس قد علموا يقيناً أنه لا حظ لهم ولن يختارهم أحد، فشاهت وجوههم وأرادوا فرض إرادتهم في ليل بهيم.
هذا وليعلم الجميع أن شريعة الله ليست كلأ مباحاً ولا ملكاً لشخص ما يتنازل عنها متى ما أراد، وعليهم أن يستعيدوا التاريخ قديمه وحديثه ليروا كيف كان عاقبة من بدَّلوا وغيروا؛ ومن رقَّعوا دنياهم بتمزيق دينهم؛ فلا دينهم يبقي ولا ما يرقعوا، بل ذهبوا مشيَّعين بالغضب من رب العالمين واللعنات من المؤمنين.. ألا يا كل مخلص اعلم أن لك أسوة في الصديق أبي بكر رضي الله عنه الذي حفظ الدين بعد وفاة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم وردد بلسان اليقين (أيُنقص الدين وأنا حي؟)
إننا نذكِّر جماهير المسلمين – حكاماً ومحكومين – بجملة من الأمور التي ينبغي أن نعيها جيداً، وننطلق من الإيمان الراسخ بها، ومن ذلك:
أولاً: أن الدين مقدَّم على كل شيء؛ فالحفاظ عليه أولى الأولويات، وتطبيق أحكامه أعظم المهمات، ومن أجل ذلك خُلقنا ومن أجله نبقى؛ فإذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا حياة لمن لم يحي دينا، ومن أجل الدين تذهب النفوس والأموال والأعراض؛ بل إن الجهاد ما شرع إلا لحفظ الدين {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}
ثانياً: أن في تطبيق الشريعة ـ بأحكامها الكلية وآدابها المرعية ـ حفظاً لحقوق الناس كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ فليس في الشريعة ضيم ولا ظلم، بل شريعتنا هي العدل المطلق والحق الأبلج؛ وإننا لنقرأ في القرآن {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} ونقرأ في القرآن {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}
ثالثاً: يا أيها المتراجعون المتنازلون ما أدراكم بعد أن ترضخوا لمطالب القوم في تبديل الشريعة ومسخ الهوية أن يقتنعوا بأن يكفوا أيديهم، وإنا لنعيذكم بالله من أن تكونوا {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم} نعيذكم بالله من الحور بعد الكور، نعيذكم بالله من أن تتخذوا الدين مطية للدنيا
رابعاً: أن المسلمين في هذه البلاد يريدون أن يروا شريعة إسلامية تتمثل في إقرار الحقوق والوفاء بالعهود، شريعة يستوي فيها القوي والضعيف، والوضيع والشريف، شريعة تحفظ المال العام، وتأخذ على أيدي السفهاء، شريعة يرعى فيها حق اليتيم والمسكين ومن لا يجد ناصرا، شريعة تقوم على العدل والرحمة والقسط، ويجد كل امرئ فيها حقه غير متعتع. هذه هي الشريعة التي نريدها، ومبدؤها دستور إسلامي نصوصه واضحة في أن الحكم لله، وأن الحاكم ليس إلا حارساً للدين وسائساً للدنيا به.
خامساً: إن دعوى الإجماع الوطني من تلك الأحزاب دعوى كاذبة خاطئة؛ فوالله ما أجمع الناس في السودان، ولن يجمعوا أبداً على تحييد الدين أو التنازل عن الشريعة، بل هي دعوة شاذة خاسرة يقودها قوم {كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} قوم {قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم} وما هم في العير ولا النفير، يعلم ذلك كل منصف، وتشهد بذلك بيوت الله الغاصة بالركع السجود الذين لا يريدون لأحكام الله تبديلاً ولا تغييراً، إن هؤلاء الكارهين لحكم الله من الشيوعيين والمنافقين وأذناب الصليبين قليل عددهم ضعيف بأسهم، وقد يئسوا من أن تقوم لهم قائمة أو تروج لهم سلعة، فلجئوا إلى مثل تلك الحيل الباطلة والحجج الداحضة ليجدوا لأنفسهم موطئ قدم
أيها المسلمون: إننا مع حرصنا على استتباب الأمن وألا تتعطل مصالح الناس نعلنها عالية أننا لا نقبل مساساً بشريعة الله ولا نتنازل عن مكتسبات هذا الشعب، والتي من أجلها قدَّم الآلاف من الشهداء، وإن كان القوم يسيِّرون المواكب ويحشدون الحشود فنحن على ذلك – بعون الله – أقدر، والناس لنا أطوع؛ سنحشد كما يحشدون وسنهتف كما يهتفون، لكننا نهتف باسم الله ونخرج في سبيل الله؛ إعلاء لكلمة الله، ورغبة فيما عند الله
لن نخرب عامراً، ولن نحمل سلاحا، ولن نثير أحقاداً، ولن ننبز أحداً بلقب يسوؤه، لكننا سنكذِّب – بخروجنا هذا – أقواماً يزعمون أنهم يمثلون الشعب وهم كاذبون، سنثبت – بخروجنا هذا – أن السواد الأعظم من أهل هذه البلاد لدينهم محبون، وعلى شريعة ربهم حريصون، ولأهل النفاق والإلحاد كارهون.
يا أيها المسلمون: انفروا خفافاً وثقالا، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، واجعلوها غضبة لله، لا لعصبية ولا لجاهلية، وكونوا مع الله يكن الله معكم {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}