- فإن شهر رجب قد أقبلت علينا أيامه وخفقت قلوب المسلمين للقائه؛ فهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيها: )) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ)) والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، ورجب. فعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض: السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان» رواه البخاري ومسلم
- وقد سُميت هذه الأشهر حُرماً لأمرين:
- لتحريم القتال فيها إلا أن يبدأ العدو . لذا يُسمى رجب الأصم؛ لأنه لا يُنادى فيه: يا قوماه! أو لأنه لا يُسمع فيه صوت السلاح.
- ولأن تحريم انتهاك المحارم فيها أشد من غيرها.
- وسُمي رجبٌ رجباً؛ لأنه كان يُرجَّب أي يُعظَّم
- دعاء دخول رجب: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا دخل رجب: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا رمضان» رواه أحمد 1/259، والبزار (616زوائد) والطبراني في الأوسط (3939) والبيهقي في الشعب (3815) وهو من رواية زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري قال البخاري: (منكر الحديث) وضعفه الحافظان ابن رجب و ابن حجر – رحمهما الله تعالى – (لطائف المعارف، ص 234)
- العمرة في رجب: يخص بعض المسلمين شهر رجب بعمرة ظناً منهم أن لها فضلاً وأجراً؛ والصحيح أن رجباً كغيره من الأشهر لا يُخَصُّ ولا يُقصد بأداء العمرة فيه، والفضل إنما يكون في أداء العمرة في رمضان أو أشهر الحج للتمتع، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وقد أنكرت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
- صيام رجب : رجب كغيره من الأشهر لم يرد في الترغيب في صيامه حديث صحيح، بل يُشرع أن يصام منه الإثنين والخميس والأيام البيض لمن عادتُه الصيام كغيره من الأشهر؛ أما إفراده بذلك فلا .. وأختم بما ذكره الحافظان ابن القيم و ابن حجر – رحمهما الله تعالى – تلخيصاً لما ذكرناه: قال ابن القيم: «كل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذب مفترى» ا. هـ. وقال الحافظ ابن حجر: «لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا صيام شيء منه معيَّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة» ا.هـ.
وذكر الإمام الطرطوشي أنه يكره صيام رجب على ثلاثة أوجه:
- أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام، حسِب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة، مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان.
- أو أنه سنة ثابتة خصه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصوم كالسنة الراتبة.
- أو أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام سائر الشهور، جارٍ مجرى صوم عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنة والفرائض، ولو كان من باب الفضائل لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله ولو مرة في العمر، كما فعل في صوم عاشوراء وفي الثلث الغابر من الليل. ولما لم يفعل بطل كونه مخصوصاً بالفضيلة، ولا هو فرض ولا سنة باتفاق، فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه، فكره صيامه والدوام عليه حذراً من أن يلحق بالفرائض والسنة الراتبة عند العوام. فإن أحب امرؤ أن يصومه على وجه تؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا يعد فرضاً أو سنة، فلا بأس بذلك
لكن يمكن الاستدلال لفضل الصوم في رجب بالحديث العام الدال على فضيلة الصيام في الأشهر الحرم، وهو ما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بسند جيد عن رجل من باهلة “أنّهُ أتى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمّ انْطَلَقَ فَأتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ تَغَيّرَتْ حَالُهُ وَهَيْئَتُهُ، فقال: يَا رَسُولَ الله أمَا تَعْرِفُنِي؟ قال: من أنت؟ قال: أنَا الْبَاهِليّ الّذي جِئْتُكَ عَامَ الأوّلِ، قال: فما غَيّرَكَ وَقَدُ كُنْتَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ؟ قُلْتُ: مَا أكَلْتُ طَعَاماً مُنْذُ فَارَقْتُكَ إلاّ بِلَيْلٍ، فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِمَ عَذّبْتَ نَفْسَكَ، ثُمّ قال: صُمْ شَهْرَ الصّبْرِ وَيَوْماً مِنْ كُلّ شَهْرٍ، قال: زِدْني فإنّ بِي قُوّةً، قال: صُمْ يَوْمَيْنِ، قال: زِدْنِي، قال: صُمْ ثَلاَثَةَ أيّامٍ، قال: زِدْنِي، قال: صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الْحُرْمِ وَاتْرُكْ، وَقال بِأصَابِعِهِ الثّلاَثَةِ فَضَمّهَا ثُمّ أرْسَلَهَا” وقد قيل:
تَوَخَّ الْخَيْرَ فِي رَجَبٍ … وَصُمْهُ صِيَامَ مُحْتَسِبِ
وَذَرْ عَنْكَ التَّشَاغُلَ فِيهِ … بِالْعِصْيَانِ وَالرِّيَبِ
وَلا تَعْصَ الإِلَهَ وَتُبْ … وَخَفْ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ
فَكَمْ قَدْ تَابَ فِيهِ فَتًى … وَأَشْيَبُ فِيهِ لَمْ يَتُبِ
وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ وَكُنْ … عَلَى حَذَرٍ مِنَ النُّوَبِ
فَكَمْ بَاغٍ بَغَى فِيهِ … فَأَسْلَمَهُ إِلَى الْعَطَبِ
أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا حَلَّ … بِالْبَاغِينَ فِي الْحِقَبِ
بَنِي الضَّبْعَاءِ أَهْلَكَهُمْ … وَغَيْرَهُمُ مِنَ الْعَرَبِ
وَكَانُوا قَبْلَ مَهْلِكِهِمْ … بِبَغْيِهِمْ ذَوِي نَشَبِ
فَلَمَّا أَنْ بَغَوْا هَلَكُوا … وَذَاقُوا شِدَّةَ الْحَرْبِ
فَشَمِّرْ فِي انْتِهَازِكَ مَا … تُقَدِّمُهُ مِنَ الْقُرَبِ
فَمَا فَازَ الَّذِينَ نَجَوْا … بِغَيْرِ الْجِدِّ وَالتَّعَبِ
فَيَا ذَا الطَّوْلِ مُنَّ عَلَى … الْجَمِيعِ بِحُسْنِ مُنْقَلَبِ
فَأَنْتَ الْغَافِرُ التَّوَّابُ … وَالْمَنَّانُ بِالرُّتَبِ
وأنت القادر الوهاب … والمعتلي بلا سبب
وما ترجو جماعتنا … سواك لفادح الكرب
أيها المسلمون عباد الله: احذروا الذنوب والمعاصي في هذا الشهر المبارك؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: “يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ، لَا تَأْمَنَنَّ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَملِتَهُ، فَإِنَّ قِلَّةَ حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ، وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ، أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَفَرَحُكَ بِالذَّنْبِ إِذَا ظَفَرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَحُزْنُكَ عَلَى الذَّنْبِ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا ظَفَرْتَ بِهِ، وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ”
أيها المسلمون عباد الله: إن جماع الأعمال الصالحة ثلاثة أنواع:
الأول: ما كان نفعه قاصراً على المكلَّف ولا يتعدى لغيره إلا تبعاً كالصلاة والصيام والذكر وقد جاءت النصوص مرغبة في هذه الأنواع كلها
الثاني: ما كان نفعه متعدياً إلى الغير؛ كالصدقات وتعليم العلم والدعوة إلى الله فهو إحسان إلى الغير وإحسان إلى النفس
الثالث: كف الشر والأذى عن الناس كما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
وعليه فليحذر كل امرئ أن يظلم أخاه المسلم في هذا الشهر المبارك؛ فإنه شهر له حرمة ومكانة عند الله عز وجل؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ يَعْرِضُ النَّاسَ عَلَى دِيَوَانِهِمْ، إِذْ مَرَّ بِهِ شَيْخٌ كَبِيرٌ أَعْمَى يَجْبِذُهُ قَائِدُهُ جَبْذًا شَدِيدًا فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَآهُ: “مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا أَسْوَأَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ جَالِسٌ عِنْدَهُ: وَمَا تَعْرِفُ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: “هَذَا ابْنُ ضَبْعَا السُّلَمِيُّ، ثُمَّ الْبَهْزِيُّ، الَّذِي بَهَلَهُ بُرَيْقٌ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ بُرَيْقًا لَقَبٌ، فَمَا اسْمُ الرَّجُلِ؟ قَالُوا: عِيَاضٌ، قَالَ: فَدَعَى لَهُ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي خَبَرَكَ وَخَبَرَ بَنِي ضَبْعَا قَالَ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ قَدِ انْقَضَى شَأْنُهُ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ غُفْرًا، مَا كُنَّا أَحَقَّ بِأَنْ نَتَحَدَّثَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مُنْذُ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، حَدِّثْنَا حَدِيثَكَ وَحَدِيثَهُمْ” قَالَ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا بَنِي ضَبْعَا عَشْرَةً، فَكُنْتُ ابْنَ عَمٍّ لَهُمْ لَمْ يَبْقَ مِنْ بَنِي أَبِي غَيْرِي، وَكُنْتُ لَهُمْ جَارًا، وَكَانُوا أَقْرَبَ قَوْمِي لِي نَسَبًا، وَكَانُوا يَضْطَهِدُونَنِي وَيَظْلِمُونَنِي، وَيَأْخُذُونَ مَالِي بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَذَكَّرْتُهُمُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ وَالْجِوَارَ إِلَّا مَا كَفُّوا عَنِّي، فَلَمْ يَمْنَعْنِي ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَأَمْهَلْتُهُمْ حَتَّى إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ رَفَعْتُ يَدَيَّ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قُلْتُ:
لَا هُمَّ أَدْعُوكَ دُعَاءً جَاهِدَا … اقْتُلْ بَنِي الضَّبْعَاءَ إِلَّا وَاحِدَا
ثُمَّ اضْرِبِ الرَّجُلَ فَذَرْهُ قَاعِدَا … أَعْمَى إِذَا مَا قِيدَ عَنَّى الْقَائِدَا
فَتَتَابَعَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ فِي عَامِهِمْ مَوْتًا، وَبَقِيَ هَذَا مَعِي، وَرَمَاهُ اللَّهُ فِي رِجْلَيْهِ بِمَا تَرَى، فَقَائِدُهُ يَلْقَى مِنْهُ مَا رَأَيْتَ، فَقَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَلْعَجَبُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَشَأْنُ أَبِي تَقَاصُفٍ الْهُذَلِيُّ ثُمَّ الْخُنَاعِيُّ، أَعْجَبُ مِنْ هَذَا، قَالَ: «وَكَيْفَ كَانَ شَأْنُهُ؟» قَالَ: “كَانَ لِأَبِي تَقَاصُفٍ تِسْعَةٌ هُوَ عَاشِرُهُمْ، وَكَانَ لَهُمُ ابْنُ عَمٍّ هُوَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ عِيَاضٍ مِنْ بَنِي ضَبْعَا، فَكَانُوا يَظْلِمُونَهُ وَيَضْطَهِدُونَهُ، وَيَأْخُذُونَ مَالَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إِلَّا مَا كَفُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ:
لَاهُمَّ رَبَّ كُلِّ امْرِئٍ آمَنٍ وَخَائِفْ … وَسَامِعَ هِتَافَ كُلِّ هَاتِفْ
إِنَّ الْخُنَاعِيَّ أَبَا تَقَاصُفْ … لَمْ يُعْطِنِي الْحَقَّ وَلَمْ يُنَاصِفْ
فَاجْمَعْ لَهُ الْأَحِبَّةَ الْأَلَاطِفْ … بَيْنَ كَرَّانَ ثَمَّ وَالنَّوَاصِفْ
قَالَ: “فَتَدَلَّوْا حَيْثُ وَصَفَ فِي قَلِيبٍ لَهُمْ يُصْلِحُونَهُ، فَتَهَوَّرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ لَقَبْرٌ لَهُمْ جَمِيعًا إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَلْعَجَبُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَشَأْنُ بَنِي الْمُؤَمَّلِ مِنْ بَنِي نَصْرٍ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ: “وَكَيْفَ كَانَ شَأْنُ بَنِي مُؤَمَّلٍ؟ قَالَ: كَانَ لَهُمُ ابْنُ عَمٍّ، وَكَانَ بَنُو أَبِيهِ قَدْ هَلَكُوا، فَأَلْجَأَ مَالَهُ إِلَيْهِمْ وَنَفْسَهُ لِيَمْنَعُوهُ، فَكَانُوا يَظْلِمُونَهُ وَيَضْطَهِدُونَهُ، وَيَأْخُذُونَ مَالَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَلَّمَهُمْ، فَقَالَ: يَا بَنِي مُؤَمَّلٍ، إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُكُمْ عَلَى مَنْ سِوَاكُمْ، وَأَضَفْتُ إِلَيْكُمْ مَالِي وَنَفْسِي لِتَمْنَعُونِي، فَظَلَمْتُمُونِي وَقَطَعْتُمْ رَحِمِي، وَأَكَلْتُمْ مَالِي وَأَسَأْتُمْ جَوَارِي، فَأُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ وَالْجِوَارَ إِلَّا مَا كَفَفْتُمْ عَنِّي فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَبَاحٌ، فَقَالَ: يَا بَنِي مُؤَمَّلٍ، قَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ ابْنُ عَمِّكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيهِ، فَإِنَّ لَهُ رَحِمًا وَجِوَارًا، وَإِنَّهُ قَدِ اخْتَارَكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ خَرَجُوا أَعْمَارًا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَدْبَارِهِمْ، وَقَالَ:
لَاهُمَّ زِلْهُمْ عَنْ بَنِي مُؤَمَّلِ … وَارْمِ عَلَى أَقْفَائِهِمْ بِمِنْكَلِ
بِصَخْرَةْ أَوْ عَرْضِ جَيْشٍ جَحْفَلٍ … إِلَّا رَبَاحًا إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ
فَبَيْنَمَا هُمْ نُزُولٌ إِلَى جَبَلٍ فِي بَعْضِ طَرِيقِهِمْ أَرْسَلَ اللَّهُ صَخْرَةً مِنَ الْجَبَلِ تَجُرُّ مَا مَرَّتْ بِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ صَخْرٍ، حَتَّى دَكَّتْهُمْ دَكَّةً وَاحِدَةً، إِلَّا رَبَاحًا وَأَهْلَ جَنَابِهِ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فَقَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَلْعَجَبُ، لَمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا كَانَ يَكُونُ؟ قَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ لِمَ كَانَ ذَلِكَ؟ كَانَ النَّاسُ أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، لَا يَرْجُونَ جَنَّةً وَلَا يَخَافُونَ نَارًا، وَلَا يَعْرِفُونَ بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً، فَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُمْ عَلَى الظَّالِمِ لِيَدْفَعَ بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ مَعَادَهُمْ، وَعَرَفُوا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ قَالَ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرَّ}, فَكَانَتِ النَّظِرَةُ وَالْمُدَّةُ وَالتَّأْخِيرُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ”