صور من قناعة الصحابة
البيان صور من قناعة الصحابة والسلف الصالح : وسار على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابتُه الكرام – رضي الله عنهم – والتابعون لهم بإحسان ؛ فقد عاشوا أول الأمر على الفقر والقلة ، ثم لما فُتحت الفتوح واغتنى المسلمون بقوا على قناعتهم وزهدهم ، وأنفقوا الأموال الطائلة في سبيل الله – تعالى – وهذه نماذج من عيشهم وقناعتهم .
أ- عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : ( رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته ) [1] .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – قوله : ( لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ) يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين [2] .
ب – وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ( من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم ، فلما افتتح صلى الله عليه وسلم قريظة أصبنا شيئاً من التمر والوَدَك ) [3] .
ثم فتح الله على المسلمين وأصبح المال العظيم يرسل إلى عائشة رضي الله عنها فبقيت على قناعتها وزهدها وأخذت تفرق المال على محتاجيه ؛ فقد بعث إليها معاوية رضي الله عنه بمئة ألف درهم .
قال عروة ابن الزبير : فوالله ما أمستْ حتى فرَّقتْها ، فقالت لها مولاتها : لو اشتريت لنا منها بدرهم لحماً ! فقالت : ألا قلتِ لي ؟ [4] لقد نسيت نفسها رضي الله عنها ، وفرقت مالها ، واستمرت على قناعتها بعد وفاة رسول الله .
وعن أم ذرة قالت : بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين يكون مائة ألف ، فدعت بطبق ، فجعلت تقسم في الناس ، فلما أمست قالت : هاتي يا جارية فطوري ، فقالت أم ذرة : يا أم المؤمنين ! أما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهم ؟ قالت : لا تعنفيني ، لو أذكرتني لفعلت [5] .
فهل تقتدي نساء المسلمين بعائشة رضي الله عنها بدلاً من سَرَف الإنفاق على النفس وحظوظها واللباس والزينة ؟ ! ج – وعن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزع ، قالوا : ما يجزعك يا أبا عبد الله ، وقد كانت لك سابقة في الخير ؟ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مغازي حسنة وفتوحاً عظاماً ! قال : يجزعني أن حبيبنا صلى الله عليه وسلم ، حين فارقنا عهد إلينا قال : ( ليَكْفِ اليوم منكم كزاد الراكب ) فهذا الذي أجزعني ، فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر ديناراً ، وفي رواية : خمسة عشر درهماً [6] .
د – وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم – رحمه الله تعالى – يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه : قد رفعت حوائجي إلى مولاي ، فما أعطاني منها قبلت ، وما أمسك منها عني قنعت [7] .
أسباب تحول دون القناعة : ذكر الماوردي – رحمه الله تعالى – الأسباب التي تمنع القناعة بالكفاية ، وتدعو إلى طلب الزيادة ، وهي – على سبيل الاختصار- : 1- منازعة الشهوات التي لا تُنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة ، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها ، وليس للشهوات حد مُتناهٍ ، فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناهٍ ، ومن لم يَتَنَاهَ طلبه استدام كدَّه وتعبه ، فلم يفِ الْتذاذُه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه ، مع ما قد لزمه من ذم الانقياد لمغالبة الشهوات ، والتعرض لاكتساب التبعات ، حتى يصير كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل ، ولا تنكفُّ عنه بقناعة .
2- أن يطلب الزيادة ويلتمس الكثرة ليصرفها في وجوه الخير ، ويتقرب بها في جهات البر ، ويصطنع بها المعروف ، ويغيث بها الملهوف ؛ فهذا أعذر ، وبالحمد أحرى وأجدر متى ما اتقى الحرام والشبهات وأنفق في وجوه البر ؛ لأن المال آلة المكارم ، وعون على الدِّين ، ومتألَّفٌ للإخوان .
قال قيس بن سعد : اللهم ارزقني حمداً ومجداً ؛ فإنه لا حمد إلا بفعال ، ولا مجد إلا بمال .
وقيل لأبي الزناد : لِمَ تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا ؟ فقال : هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها .
وقال بعض الحكماء : من أصلح ماله فقد صان الأكرميْن : الدِّين والعِرض .
3- أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدّخرها لولده ، ويخلِّفها لورثته ، مع شدة ضنه على نفسه ، وكفه عن صرف ذلك في حقه ، إشفاقاً عليهم من كدح الطلب وسوء المنقلب ، وهذا شقي بجمعها مأخوذ بوزرها قد استحق اللوم من وجوه لا تخفى على ذي لب ، منها : أ – سوء ظنه بخالقه : أنه لا يرزقهم إلا من جهته .
ب – الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه .
ج – ما حُرِم من منافع ماله وسُلِب من وفور حاله ، وقد قيل : إنما مالك لك أو للوارث أو للجائحة ؛ فلا تكن أشقى الثلاثة .
د – ما لحقه من شقاء جمعه ، وناله من عناء كده ، حتى صار ساعياً محروماً ، وجاهداً مذموماً .
هـ – ما يؤاخذ به من وزره وآثامه ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه .
وقد حُكي أن هشام بن عبد الملك لما ثَقُلَ بكى ولده عليه ، فقال لهم : جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء ، وترك لكم ما كسب ، وتركتم عليه ما اكتسب ، ما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له ! وقال رجل للحسن – رحمه الله تعالى – : إني أخاف الموت وأكرهه ، فقال : إنك خلَّفت مالك ، ولو قدَّمتَه لسرَّك اللحاق به .
4- أن يجمع المال ويطلب المكاثرة ، استحلاءً لجمعه ، وشغفاً باحتجانه ؛ فهذا أسوأ الناس حالاً فيه ، وأشدهم حرماناً له ، قد توجهت إليه سائر الملاوم .
وفي مثله قال الله – تعالى – [ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ][التوبة : 34] [8] .
السبيل إلى القناعة : 1- تقوية الإيمان بالله – تعالى – ، وترويض القلب على القناعة والغنى ؛ فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب ؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى ، وإن كان لا يجد قوت يومه ، ومن كان فقير القلب ؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهماً واحداً لرأى غناه في ذلك الدرهم ؛ فلا يزال فقيراً حتى يناله .
2- اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه ، كما في حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – وفيه : ( ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .. ) [9] .
فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب .
3- تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب .
يقول عامر بن عبد قيس : أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتُهن مساءً لم أبال على ما أُمسي ، وإذا تلوتُهن صباحاً لم أبال على ما أُصبح : [ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ] [فاطر : 2] ، وقوله تعالى : [ وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ] [يونس : 107] ، وقوله تعالى : [ ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ] ]هود : 6] ، وقوله – تعالى [ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ][الطلاق : 7] [10] .
4- معرفة حكمة الله – سبحانه وتعالى – في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد ، حتى تحصل عمارة الأرض ، ويتبادل الناس المنافع والتجارات ، ويخدم بعضهم بعضاً قال – تعالى [ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ][الزخرف : 32] ، وقال – تعالى – [ وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ] [الأنعام : 165] .
5- الإكثار من سؤال الله – سبحانه وتعالى – القناعة ، والإلحاح بالدعاء في ذلك ؛ فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أكثر الناس قناعة وزهداً ورضىً وأقواهم إيماناً ويقيناً ، كان يسأل ربه القناعة ؛ فعن ابن عباس : رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعو : ( اللهم قنِّعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف على كل غائبة لي بخير ) [11] ولأجل قناعته صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش والقليل من الدنيا كما قال – عليه الصلاة والسلام – : ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ) [12] .
6- العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء وكثرة الحركة وسعة المعارف ، وإن كان بعضها أسباباً ؛ إلا أن الرزق ليس معلقاً بها بالضرورة ، وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة أو ذكاءًا أو غير ذلك وأكثر منه رزقاً فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه .
7- النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا ، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها ؛ ولذا قال النبي ( انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله ) [13] .
وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا رأى أحدكم مَنْ فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب ) [14] .
وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء ، ومن هو أقل منه في أشياء ؛ فإن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك ، وإن كنت مريضاً أو معذباً ففيهم من هو أشد منك مرضاً وأكثر تعذيباً ، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك ، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك ؟ إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءًا ومعرفة وخلقاً ، فلِمَ لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت [15] ؟ ! 8- قراءة سِيَر السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا والزهد فيها والقناعة بالقليل منها ، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثاراً للباقية على العاجلة ، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وإخوانه من الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – ثم الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – والتابعون لهم بإحسان ؛ فإن معرفة أحوالهم ، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم ، وترغِّبه في الآخرة ، وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومتعها الزائلة .
9- العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد حتى يُسأل : عن عمره فيمَ أفناه ، وعن علمه فيمَ فعل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه ، وعن جسمه فيمَ أبلاه ) [16] فمشكلة المال أن الحساب عليه من جهتين : جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق ، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة وعاقبته وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حرماته اكتساباً وإنفاقاً .
ثم ليتفكر في أنه كلما تخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر وأسرع ؛ وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعاً كثيراً ؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتاً طويلاً لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفاً ليس معه شيء ، وحساب الآخرة أعسر ، والوقوف فيها أطول .
ولينظر أيضاً إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه ؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب ثم يحمل همَّ الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتماً مغتماً ، ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أُقيل من منصبه ، وكم من شخص كان ذلك سبباً في هلاكه وعطبه ! نسأل الله العافية .
10- النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه الحقيقة ، فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله ، وهو ما يسد حاجته وما فضل عن ذلك فليس له ، وإن كان يملكه ، فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير ، بل ربما كان الفقير أكثر أكلاً منه ، وبعبارة أخرى : هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد ، أو مائة ثوب فليبسها في آن واحد ؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد ؛ أو مائة دار فيسكنها في وقت واحد ؟ ! لا ؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلاً أو تنقص ، وللمستور كذلك مثله ، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلاً أو تنقص ، ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا متراً في مترين سواء كان قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً .
فعلام يُحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك ؟ ! وقد فهم هذا المعنى حكيم هذه الأمة أبو الدرداء – رضي الله عنه – حينما قال : أهل الأموال يأكلون ونأكل ، ويشربون ونشرب ، ويلبسون ونلبس ، ويركبون ونركب ، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم وحسابهم عليها ونحن منها برآء ، وقال أيضاً : الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت ، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ ، ما أنصَفَنا إخوانُنا الأغنياء : يحبوننا على الدِّين ، ويعادوننا على الدنيا [17] .
بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية .
قال عبد الله بن الشخير – رضي الله عنه – : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرأ [ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ] [التكاثر : 1] ، يقول : ( يقول ابن آدم – مالي ، مالي ! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟ ) [18] .
إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه ، ولا من اللباس أحسنه ، ولا من العيش أرغده ؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطمَّاع وإن كان الطماع أرغد عيشاً منه ؛ لأن القانع ينظر إلى الموسر وما يملك فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك ، لكنه سيحاسب عن كل ما يملك .
ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال ، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر ، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر ، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم ، وكم من رجال نشؤوا على فرش الحرير ، وشربوا بكؤوس الذهب ، وورثوا كنوز المال ، وأذلوا أعناق الرجال ، وتعبَّدوا الأحرار ، فما ماتوا حتى اشتهوا فراشاً خشناً يقي الجنب عض الأرض ، ورغيفاً من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع ، وآخرون قاسوا المحن والبلايا ، وذاقوا الألم والحرمان ، وطووا الليالي بلا طعام ، فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم ، وتكاثرت الخيرات ، وصاروا من سراة الناس ، وسيسوِّي الموت بين الأحياء جميعاً : الغني والفقير ؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير ، ولا بين الصعلوك والأمير ولا بين الكبير والصغير ، فلا يجزع فقير بفقره ، ولا يبطر غني بغناه [19] ، وما أجمل القناعة ! فمن التزمها نال السعادة ، وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها ! حتى يكونوا أعلام هدى ومصابيح دجى ، ولو تحلى بها العامة لزالت الضغائن والأحقاد ، وحلت الألفة والمودة ؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها ، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما قال : ( والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم ) [20] ، فهل من مدَّكر ؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه ، ويحاذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده ؟ ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .
________________________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة 442 .
(2) فتح الباري 1/639 .
(3) أخرجه ابن حبان 684 والوَدَك : دسم اللحم .
(4) أخرجه أبو نعيم 2/47 والحاكم 4/13 .
(5) أخرجه ابن سعد في الطبقات 8/67 ، وأبو نعيم في الحلية 2/47 .
(6) أخرجه الطبراني في الكبير والرواية الثانية له 6182 وأبو نعيم في الحلية 1/197وصححه ابن حبان 706 .
(7) الإحياء 3/239 ، ، والقناعة لابن السني 43 عن نضرة النعيم3173 .
(8) مختصراً من أدب الدنيا والدين 317-324 .
(9) أخرجه أحمد 1/382 ، والبخاري في بدء الخلق ، وفي أحاديث الأنبياء وفي التوحيد 7453 ومسلم في القدر 2643 وغيرهم .
(10) عيون الأخبار لابن قتيبة 3/206 .
(11) أخرجه السهمي في تاريخ جرجان برقم 50 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/356 .
(12) أخرجه البخاري في الرقاق 6460 ، ومسلم في الزكاة 1055 ، والترمذي 2362 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(13) أخرجه البخاري في الرقاق 6490 ، ومسلم واللفظ له 2963 .
(14) هذه الرواية لابن حبان في صحيحه714 .
(15) مع الناس للشيخ علي الطنطاوي 58 .
(16) أخرجه الترمذي ، وقال حسن صحيح (2419) .
(17) سير أعلام النبلاء (2/350 351) .
(18) أخرجه مسلم في الزهد 2958 .
(19) باختصار وتصرف يسير من : مع الناس 61 .
(20) أخرجه البخاري في الرقاق 6425 ، ومسلم 2961 .