1ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَزَادَ مَحَبَّةَ الصَّاحِبَينِ الكَرِيمَينِ لِبَعضِهِمَا وَقَوَّى المَوَدَّةَ بَينَهُمَا أَنَّه تَوَّجَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَا بَذَلَهُ لِرَسُولِ اللهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِابنَتِهِ وَفَلَذَةِ كَبِدِهِ عَائِشَةَ، فَدَفَعَ بها إِلَيهِ وَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا؛ لِتَكُونَ امرَأَةَ إِمَامِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَلِتَصِيرَ زَوجَتَهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَلِتُصبِحَ أُمًّا لِلمُؤمِنِينَ وَتَنضَمَّ إِلى بَيتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ، ذَلِكُمُ البَيتُ المُبَارَكُ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، المُمتَلِئُ عَفَافًا وَطَهَارَةً وَنَزَاهَةً، فَيَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: {ِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا}، وَلِتَغدُوَ الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ في مَكَانَةٍ لا تُوَازِيهَا فِيهَا امرَأَةٌ مِن نِسَاءِ الأُمَّةِ إِلاَّ أُمَّهَاتُ المُؤمِنِينَ الَّلاتي أَرَدنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، فَيَقُولُ سُبحَانَهُ عَنهُنَّ: {يَا نِسَاءَ النَّبيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ}، وَلِتَغدُوَ عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ وَأَبُوهَا أَحَبَّ النَّاسِ إِلى رَسُولِ اللهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَعَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَن أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، قِيلَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: (أَبُوهَا).
2ـ عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَعَن أَبِيهَا وَأَرضَاهُمَا- عَلَمٌ عَلَى رَأسِهِ نَارٌ، هِيَ بُشرَى جِبرِيلَ لِرَسُولِ اللهِ وَرُؤيَاهُ في مَنَامِهِ، وَهِيَ زَوجُهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَلم يَتَزَوَّجْ بِكرًا غَيرَهَا، وَهِيَ فُرقَانٌ بَينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَفَيصَلٌ بَينَ مُؤمِنٍ مُحِبٍّ وَمُنَافِقٍ شَانِئٍ، عَابِدَةٌ زَاهِدَةٌ، خَطِيبَةٌ أَدِيبَةٌ، عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ، مُحَدِّثَةٌ فَصِيحَةٌ، طَاهِرَةٌ مُطَهَّرَةٌ، تَقِيَّةٌ نَقِيَّةٌ، أَقرَأَهَا الرُّوحُ الأَمِينُ السَّلامَ، وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ في لِحَافِهَا وَثَوبِهَا، وَأَحَبَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طُولَ حَيَاتِهِ، وَتُوُفِّيَ في بَيتِهَا وَفي يَومِهَا وَبَينَ سَحرِهَا وَنَحرِهَا، وَجَمَعَ اللهُ بَينَ رِيقِهَا وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ، بِكُلِّ ذَلِكَ صَحَّتِ الأَخبَارُ وَثَبَتَتِ الآثَارُ. 3ـ في فضها ثبتت الأحاديث ووردت الآثار: ü قَالَ صلى الله عليه وسلم (كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلم يَكمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَريَمُ بِنتُ عِمرَانَ وَآسِيَةُ امرَأَةُ فِرعَونَ، وَفَضلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) ü وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أُرِيتُكِ في المَنَامِ ثَلاثَ لَيَالٍ، يَجِيءُ بِكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ فَقَالَ لي: هَذِهِ امرَأَتُكَ، فَكَشَفتُ عَن وَجهِكِ الثَّوبَ فَإِذَا أَنتِ هِيَ، فَقُلتُ: إِنْ يَكُن هَذَا مِن عِندِ اللهِ يُمضِهِ) ü وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّ جِبرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا في خِرقَةِ حَرِيرٍ خَضرَاءَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَذِهِ زَوجَتُكَ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ü وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (يَا عَائِشُ، هَذَا جِبرِيلُ يُقرِئُكِ السَّلامَ)، قَالَت: وَعَلَيهِ السَّلامُ وَرَحمَةُ اللهِ. ü وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّونَ بِهَدَايَاهُم يَومَ عَائِشَةَ، يَبتَغُونَ بِذَلِكَ مَرضَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَت: إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزبَينِ: فَحِزبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَودَةُ، وَالحِزبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَ حِزبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَن أَرَادَ أَن يُهدِيَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَليُهدِهِ إِلَيهِ حَيثُ كَانَ. فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ لَهَا: ((لا تُؤذِيني في عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الوَحيَ لم يَأتِني وَأَنَا في ثَوبِ امرَأَةٍ إِلاَّ عَائِشَةَ))، قَالَت: أَتُوبُ إِلى اللهِ مِن ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَونَ فَاطِمَةَ فَأَرسَلنَ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ: ((يَا بُنَيَّةُ، أَلا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟)) قَالَت: بَلَى، قَالَ: ((فَأَحِبِّي هَذِهِ)). ü وَعَن أَبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَا أَشكَلَ عَلَينَا أَصحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلنَا عَائِشَةَ إِلاَّ وَجَدنَا عِندَهَا مِنهُ عِلمًا. ü وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: إِنَّ مِن نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ في بَيتي وَفي يَومِي وَبَينَ سَحرِي وَنَحرِي، وَأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَينَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أَبي بَكرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيتُهُ يَنظُرُ إِلَيهِ، وَعَرَفتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلتُهُ فَاشتَدَّ عَلَيهِ وَقُلتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنتُهُ فَأَمَرَّهُ، وَبَينَ يَدَيهِ رَكوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدخِلُ يَدَيهِ في المَاءِ فَيَمسَحُ بهمَا وَجهَهُ وَيَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، إِنَّ لِلمَوتِ سَكَرَاتٍ)، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: (في الرَّفِيقِ الأَعلَى)، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَت يَدُهُ. وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: مَاتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَينَ حَاقِنَتي وَذَاقِنَتي. 3ـ هَذِهِ هِيَ أُمُّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةُ، الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ، نَشَأَت مُنذُ نُعُومَةِ أَظفَارِهَا في بَيتِ إِسلامٍ وَصَلاحٍ، لم تَعرِفْ جَاهِلِيَّةً وَلا ضَلالاً، وَلم تُجَرِّبْ غِوَايَةً وَلا سَفَاهَةً، قَالَت رَضِيَ اللهُ عَنهَا: (لم أَعقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ). إِنَّهَا المَرأَةُ الَّتي عَاشَت في قَلبِ رَسُولِ اللهِ قَبلَ أَن يَبنيَ بها بِبِشَارَةِ اللهِ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ بها صلى الله عليه وسلم بَعدَ أَن هَاجَرَ إِلى المَدِينَةِ وَنَصرَهُ اللهُ في غَزوَةِ بَدرٍ الكُبرَى، تَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: تَزَوَّجَنيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في شَوَّالٍ، وَبَنَى بي في شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحظَى عِندَهُ مِنِّي؟! 4ـ ثُمَّ إِنَّهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا عَاشَت مَعَهُ حَيَاتَهُ وَهِيَ الشَّابَّةُ الصَّغِيرَةُ الحَدِيثَةُ السِّنِّ المَحَبَّةُ لِلَّعِبِ، فَكَانَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا يُسَرِّبُ إِلَيهَا صَوَاحِبَهَا يُلاعِبْنَهَا، وَمَكَّنَهَا مِن أَن تَضَعَ رَأسَهَا عَلَى كَتِفِهِ الشَّرِيفِ وَخَدُّهَا عَلَى خَدِّهِ مُستَتِرَةً بِهِ لِتَنظُرَ إِلى الأَحبَاشِ وَهُم يَلعَبُونَ بِحِرَابِهِم في المَسجِدِ، وَكَانَ مِن حُبِّهَا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُحَادَثَتَهَا إِذَا سَافَرَ، وَسَابَقَهَا مَرَّةً فَسَبَقتُهُ، ثُمَّ سَابَقَهَا أُخرَى فَسَبَقَهَا، وَبَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن كَانَ يُدَلِّلُهَا فَيَقُولُ: (يَا عَائِشُ)، وَ:(يَا مُوَفَّقَةُ)، وَ:(يَا بِنتَ الصِّدِّيقِ)، وَإِذَا غَارَت زَوجَاتُهُ مِنهَا قَالَ: (إِنَّهَا بِنتُ أَبي بَكرٍ)، بَل بَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن جَعَلَ يَعلَمُ بما يَدُورُ في خَاطِرِهَا تُجَاهَهُ، فَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لأَعلَمُ إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى)، قَالَت: فَقُلتُ: مِن أَينَ تَعرِفُ ذَلِكَ؟! فَقَالَ: (أَمَّا إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى قُلتِ: لا وَرَبِّ إِبرَاهِيمَ)، قَالَت: قُلتُ: أَجَلْ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهجُرُ إِلاَّ اسمَكَ. وَكَانَ يُدَاعِبُهَا فَيَتَعَمَّدُ شُربَ المَاءِ مِنَ المَوضِعِ الَّذِي تَشرَبُ مِنهُ وَالأَكلَ ممَّا تَأكُلُ مِنهُ، فَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعطِيني العَرْقَ فَأَتَعَرَّقُهُ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ، وَيُعطِيني الإِنَاءَ فَأَشرَبُ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ. حَتَّى إِذَا مَرِضَ استَأذَنَ نِسَاءَهُ في أَن يُمَرَّضَ في بَيتِهَا فَأَذِنَّ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ في حِجرِهَا وَهُوَ رَاضٍ عَنهَا، بَل وَدُفِنَ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَاهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا في بَيتِهَا. 5ـ وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَقِيَتِ الصِّدِّيقَةُ بَعدَهُ مَنَارَةَ عِلمٍ وَمَوئِلَ فِقهٍ، فَأَفتَتِ المُسلِمِينَ في عَهدِ عُمَرَ وَعُثمَانَ، وَجَلَسَت لِلتَّحدِيثِ فَرَوَى عَنهَا كِبَارُ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مَسرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنهَا قَالَ: حَدَّثَتني الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللهِ المُبَرَّأَةُ فَلَم أُكَذِّبْهَا. 6ـ إن الله تعالى ما كان ليختار لرسوله وخير خلقه إلا خير الزوجات، مِن أَفضَلِ النِّسَاءِ دِينًا وَخُلُقًا وَأَكمَلِهِنَّ عَقلاً وَعِلمًا، غَيرَ أَنَّ مِن حِكمَتِهِ سُبحَانَهُ أَن جَعَلَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءَ ثُمَّ الأَكمَلَ فَالأَكمَلَ، فَكَانَ أَنِ ابتَلَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَصَاحِبَهُ أَبَا بَكرٍ الصِّدِّيقَ وَزَوجَهُ الصِّدِّيقَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا بِأَن تَنَاوَلَت أَلسِنَةُ المُنَافِقِينَ النَّجِسَةُ عِرضَهَا الشَّرِيفَ، فَقَذَفُوهَا وَزَنُّوهَا بِرِيبَةٍ، وَاتَّهَمُوهَا بما تَرتَجِفُ الأَفئِدَةُ مِن أَن تَتَّهِمَ بِهِ امرَأَةً مِن سَائِرِ النِّسَاءِ، فَكَيفَ بِزَوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُحصَنَةِ المُؤمِنَةِ العَفِيفَةِ؟! وَكَانَ أَن حَدَثَت قِصَّةُ الإِفكِ الَّتي تَوَلَّى كِبرَهَا رَأسُ المُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنِ أَبي سَلُولٍ، وَوَلَغَ فِيهَا مَن وَلَغَ مِنَ المُنَافِقِينَ أَو ممَّن ضَعُفُوا مِن غَيرِهِم، إِلاَّ أَنَّ اللهَ تَعَالى لم يَترُكْ حَبِيبَةَ رَسُولِهِ دُونَ أَن يُبَرِّئَهَا، فَأَنزَلَ سُبحَانَهُ بَرَاءَتَهَا في آيَاتٍ كَرِيمَاتٍ في سُورَةِ النُّورِ، آيَاتٍ تُزَكِّيهَا وَتُطَهِّرُهَا، وَتَرفَعُ الدَّنَسَ عَنهَا وَعَن بَيتِ النُّبُوَّةِ، لِيُؤَكِّدَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ صلى الله عليه وسلم مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ: (أَبشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللهُ فَقَد بَرَّأَكِ)، وَلِيَبقَى قَولُهُ سُبحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفكِ عُصبَةٌ مِنكُم لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم لِكُلِّ امرِئٍ مِنهُم مَا اكتَسَبَ مِنَ الإِثمِ وَالَّذِي تَوَلىَّ كِبرَهُ مِنهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، لِيَبقَى هَذَا القَولُ الكَرِيمُ نِبرَاسًا لِكُلِّ مُؤمِنٍ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، لِيَعلَمَ أَنَّهُ مَهمَا تَكَلَّمَ المُنَافِقُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا في عِرضِ هَذِهِ الطَّاهِرَةِ المُطَهَّرَةِ المَصُونَةِ فَإِنَّ في ثَنَايَا ذَلِكَ مِنَ الخَيرِ لِلمُؤمِنِينَ مَا لا يَعلَمُونَهُ، وَمَا لا يَتَوَقَّعُهُ أُولَئِكَ الأَفَّاكُونَ الظَّلَمَةُ الحَاقِدُونَ، وَالَّذِينَ ابتَدَأَهُم ابنُ أُبَيٍّ وَشِرذِمَتُهُ الظَّالِمَةُ الحَاقِدَةُ، وَمَا زَالَ الأَشرَارُ الأَنجَاسُ مِنَ الرَّافِضَةِ يُحيُونَ مَظلَمَتَهُ وَيُرَدِّدُونَهَا في كُتُبِهِم وَمَوَاقِعِهِم، وَيَفضَحُ اللهُ بها كُبَرَاءَهُم وَرُؤُوسَهُم، فَيَأبى مَا في نُفُوسِهِم مِن سُوءِ نِيَّةٍ وَفَسَادِ طَوِيَّةٍ إِلاَّ أَن يَطفَحَ عَلَى أَلسِنَتِهِم في مَحَافِلِهِم، لِيُعلِنُوا -شَاؤُوا أَم أَبَوا- كُفرَهُمُ البَاطِنَ بِبُغضِ أَهلِ بَيتِ رَسُولِ اللهِ، وَإِنِ ادَّعُوا ظَاهِرًا مَحَبَّتَهُم وتَقدِيسَهُم؛ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُبَرِّئَانِ أُمَّ المُؤمِنِينَ مِنَ الفَاحِشَةِ، وَتُعلَنُ طَهَارَتُهَا في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأبى هَؤُلاءِ إِلاَّ رَدَّ كَلامِ اللهِ وَكَلامَ رَسُولِهِ، {ِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَى مَن حَيِيَ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم} 7ـ أما ورعها رضي الله عنها وزهدها وخوفها من خالقها فقد كانت في ذلك بالمكان الأرفع والمنزلة الأسمى؛ رمزاً في الكرم، وغاية في السخاء، ولا غرابة فهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أكرم الناس نفساً وأسخاهم يداً وأعظمهم جوداً وأوفاهم عهداً، كيف لا وهي بنت أبي بكر الذي أنفق ماله كله في سبيل الله؟ قال عطاء: إن معاوية بعث لها بقلادة بمائة ألف فقسمتها بين أمهات المؤمنين، وقال عروة ابن أختها: إن عائشة تصدقت بسبعين ألفًا، وإنها لترقع جانب درعها رضي الله عنها. تجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود وبعث إليها ابن الزبير رضي الله عنه بمال بلغ مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري وكانت صائمة، فقالت: يا أم المؤمنين أَما استطعت أن تشتري لنا لحمًا بدرهم؟! قالت: لا تعنفيني، لو ذكرتيني لفعلت. وكانت بعده عليه الصلاة والسلام في قمة التواضع فلا ترى نفسها شيئًا وهيَ مَن هيَ، وكانت تخاف ثناء الناس عليها فلا تودّ سماعه مخافة الفتنة، جاء ابن عباس رضي الله عنهما يستأذن على عائشة وهي في الموت، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقيل لها: هذا ابن عباس يستأذن، قالت: دعني من ابن عباس لا حاجة لي به ولا بتزكيته، فقال عبد الله: يا أمّه، إن ابن عباس من صالحي بنيك يودِّعك ويسلم عليك، قالت: فأْذن له إن شئت، قال: فجاء ابن عباس، فلما قعد قال: أبشري، فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصب وتلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تفارق روحُك جسدك، وكُنتِ أحبَّ نساءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن يحب إلا طيبًا، سقطت قلادتك ليلة الأبواء، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، فكان ذلك من سببك، وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة، ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس مسجدٌ يذكرُ فيه اسم الله إلا براءتك تتلى فيه آناء الليل والنهار، قالت: دعني يا ابن عباس، فوالله وددت أني كنت نسيًا منسيًا. 7ـ مما يفري الكبد من أخبار هذا الأسبوع أن العصابة الحاكمة الجاثمة على صدور الناس في الجنوب تدعو إلى الاستفتاء لتقرير المصير، وتعلن أنها قد أعدت العدة للانفصال، ودربت قواتها لحماية الاستفتاء، وهم في تصريحاتهم وندواتهم يمنون الناس برغد العيش وطيب الحياة بعد الانفصال، ويحاولون أن يظهروا غيرهم وكأنهم لاهثون خلفهم طامعون في الاتحاد معهم، وأنهم هم المترفعون الزاهدون في تلك الوحدة، فإذا ما خرج وزير الإعلام ليعلن أن الانفصال لو حصل فعلى الجنوبيين أن يستعدوا للرحيل عن الشمال، هنا تثور ثائرتهم وتتحرك عقارب الضغينة في قلوبهم ليتهموا الرجل بأنه عنصري غير مسئول، ويطالب البعض بمحاكمته وآخرون باستقالته!! سبحان الله ((تلك إذن قسمة ضيزى)) إن الناس يعلمون أنه لن يكون استفتاء حقيقي، وإنما العصابة الحاكمة في الجنوب ستفرض على الناس ما تريد؛ إرضاء للسادة الكبار الذين يمسكون بالخيوط في واشنطن وغيرها من عواصم الضباب، وهم يعلمون أنهم لا قبل لهم بإقامة دولة وإدارة حكم، لكنهم مكابرون مغالطون ينفذون مخططات ويحققون لأعداء الإسلام والسودان ما يتمنون، ولا أجد لهؤلاء المستنكرين لحديث وزير الإعلام إلا ما قاله الأول: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام |