خطب الجمعة

عذاب القبر حق

خطبة يوم الجمعة 7/2/1437 الموافق 20/11/2015

1- الحمد لله الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد.

2- فإن الإيمان بالغيب صفة المؤمنين وعنوان المتقين {الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون} وعالم الغيب يشمل أموراً كثيرة هي من قطعيات الدين التي لا يحصل الإيمان إلا بالتصديق بوجودها والإيمان بها تفصيلا، فالله جل جـلاله غيب، {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وعالم الملائكة وعالم الجن غيب، والجنة والنار غيب، والصراط والميزان غيب، والحشر والنشر غيب، وكذلك عذاب القبر ونعيمه غيب، وكل ذلك ثابت بأدلة القرآن والسنة، فمن كذَّب بواحد منها فقد كذَّب بجميعها؛ فلا يجزئ العبد أن يؤمن بوجود الله عز وجل ثم لا يؤمن بعالم الملائكة أو بعالم الجن أو لا يؤمن بالجنة والنار، وقد حجب الله تلك العوالم عنا من أجل أن يتميز أهل التقوى الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، من أهل الضلال والخبال الذين لا يؤمنون إلا بما تدركه حواسهم وهم الذين قال الله فيهم {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}

3- قد علم المسلمون خاصتهم وعامتهم أن القبر أول منازل الآخرة، وأن الإنسان في قبره منعَّم أو معذَّب، في سعادة أو في شقاء، روى هانئ مولى عثمان بن عفان، قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى، حتى يبلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبرُ أفظعُ منه) أخرجه الترمذي، ولما كان ما بعد القبر أيسر منه لمن نجا؛ فإن العبد المؤمن إذا رأى في قبره ما أعد الله له من نعيم يقول: (رب عجِّل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي) والعبد الكافر الفاجر إذا رأى ما أعدَّ الله له من العذاب الشديد فإنه يقول على الرغم مما هو فيه من عذاب: (رب لا تقم الساعة)، لأن الآتي أشدُّ وأفظع، وقد علم الناس أن هذه القبور مظلمة موحشة؛ ففي الصحيحين ماتت امرأة كانت تَقُمُّ المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ففقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنها ماتت من الليل، ودفنوها، وكرهوا إيقاظه، فطلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها، فجاء إلى قبرها فصلى عليها، ثم قال: (إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم) وأن للقبر ضمة لا ينجو منها أحد؛ ففي سنن النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه) وأن في القبر سؤالاً وامتحانا؛ ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، إذا انصرفوا: أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله..، وأما الكافر أو المنافق، وفي رواية: وأما الكافر والمنافق – فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت، ولا تليت..)

وقد وردت إشارات في القرآن تدل على عذاب القبر، وقد ترجم البخاري في كتاب الجنائز لعذاب القبر، فقال: باب ما جاء في عذاب القبر، وساق في الترجمة قوله تعالى: {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} وقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وهذه الآية تدل على أن هناك عذابين سيصيبان المنافقين قبل عذاب يوم القيامة، العذاب الأول ما يصيبهم الله به في الدنيا إما بعقاب من عنده وإما بأيدي المؤمنين، والعذاب الثاني عذاب القبر، قال الحسن البصري: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} عذاب الدنيا، وعذاب القبر”، وقال الطبري: والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل والإذلال أو غير ذلك.ا.هـــــــ وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}

4- أحاديث عذاب القبر ونعيمه متواترة؛ يقول شارح الطحاوية: وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عودة الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا. وقال في موضع آخر: واعلم أن عذاب القبر وعذاب البرزخ حق، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما ورد من إجلاسه، واختلاف أضلاعه ونحو ذلك، فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير.ا.هــــــ وقد جمع الإمام البيهقي طائفة كثيرة من الأحاديث فيه في كتابه: إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين، وذكر الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر: عذاب القبر ونعيمه من حديث اثنين وثلاثين صحابيا، وذكر نصوص أهل العلم المثبتة لتواتر ذلك. ومن تلك الأحاديث:

  • ما روته لنا السيدة عائشة رضي الله عنها: أن اليهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: نعم، عذاب القبر حق. قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى إلا تعوذ من عذاب القبر. رواه البخاري.
  • وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلت عليَّ عجوزان من عُجُز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذَّبون في قبورهم، قالت: فكذبتهما، ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا عليَّ، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: “صدقتا، إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم” قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر”
  • في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة. رواه البخاري والنسائي، وزاد النسائي: حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكنت ضجتهم، قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله لك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر قوله؟ قال: (قد أوحى إليَّ أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال)
  • وقد أعطي الله نبيه صلى الله عليه وسـلم قدرة على سماع ذلك العذاب؛ ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به، فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: (من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟) فقال رجل: أنا، قال: (فمتى مات هؤلاء؟) قال: ماتوا في الإشراك، فقال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن النسائي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس، فسمع صوتاً، فقال: (يهود تعذب في قبورها) ويدل على سماع الرسول صلى الله عليه وسلم للمعذبين في قبورهم الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)
  • استعاذته صلى الله عليه وسـلم من عذاب القبر في كل صلاة
  • دعاؤه للجنازة (وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)
  • قوله صلى الله عليه وسـلم (استعيذوا بالله من عذاب القبر)

5- وأما المكذب بعذاب القبر ونعيمه ومنكره فإنه ضال منحرف، وهو على خطر عظيم لأنه ينكر ويكذب ما دلت عليه الأدلة من كتاب الله تعالى وما دلت عليه الأحاديث المتواترة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ عبد الرحمن بن جبرين في بحثه المنشور في مجلة البحوث الإسلامية التي تصدرها الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء  17/126 في صدد الحديث عن نواقض الشهادتين: إنكار شيء من الأمور الغيبية التي أمر الله بالإيمان بها وأخبر بثبوتها وأحقيتها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كالملائكة والكتب والرسائل والبعث بعد الموت وحشر الأجساد والجنة والنار، وكذا عذاب القبر ونعيمه ونحو ذلك، فإن من جحد منها شيئا فقد كذب الله وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أكبر الطعن في الرسالة وما اشتملت عليه، فهو يخالف ما تستلزمه الشهادتان.ا.هـــــــ

وهؤلاء كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وقد ظن هؤلاء أن أبصارهم يمكن أن ترى كل شيء، وأن أسماعهم يمكن أن تسمع كل شيء، ونحن اليوم نعلم من أسرار الكون ما كانت أسماعنا وأبصارنا عاجزة عن سماعه ورؤيته، ومن آمن بالله صدَّق خبره.

والله سبحانه وتعالى قادر على أن يعذب الميت ويحاسبه في أي صورة كان؛ فإن التعذيب ليس على الجسد المعهود فقط فإذا ذهب انتهى عذابه، وإنما الروح هو الذي يعذب أو ينعم في القبر قبل يوم القيامة، ولا مانع في قدرة الله أن يصل العذاب إلى الجسد بأي طريقة وعلى أي نحو كان؛ لأن عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به

6- ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟ وجوابها من وجهين: مجمل ومفصل:أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يُعذب الله روحاً عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدناً كانت فيه أبدا؛ فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثرُ غضبِ الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر ، ومصدق ومكذب.

وأما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الذي ضُرب سوطا امتلأ القبر عليه به ناراً، لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره. وفي حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق .. وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار.. وتعذيب الزناة والزواني .. وتعذيب آكل الربا كما شاهدهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البرزخ. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة .. والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم .. والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم .. والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب .. وفي حديث أبي سعيد عقوبة أرباب تلك الجرائم، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم أكلة الربا ..ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى .. ومنهم المعلقات بثديهن وهن الزواني. ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون .. ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يقعون في أعراض الناس .. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل ناراً في قبره، هذا وله فيها حق ، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه. فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله، فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والموضع في الفتنة والداعي إلى البدعة والقائل على الله ورسوله ما لا علم له به والمجازف في كلامه. وآكل الربا وآكل أموال اليتامى وآكل السحت من الرشوة ونحوها. وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد وشارب المسكر . والزاني واللوطي والسارق والخائن والغادر والمخادع والماكر. وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه. ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم. والحاكم بغير ما أنزل الله والمفتي بغير ما شرعه الله والمعين على الإثم والعدوان…فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها. ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل. انتهى من كتاب الروح باختصار .

7- وثمة أسباب منجية من عذاب القبر وهي:

تحقيق التوحيد لما في البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلم إذا سئل في القبر شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} طاعة الله تعالى وفعل الصالحات لما روى ابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الميت إذا وضع من قبره أنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف إلى الناس ما قبلي مدخل)

الرباط في سبيل الله لحديث سلمان الفارسي رضي الله عنه وفيه) وأمن الفتّان). رواه مسلم
قراءة سورة تبارك لما في الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له) قال صلى الله عليه وسلم (سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر) رواه الحاكم وصححه، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة إنه صحيح الإسناد.

8- فإن سؤال الميت حقيقة لا شك فيها سواء قبر أم لم يقبر، وليس في ذلك ما يستحيل عقلا، فقد روى البخاري في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العبد إذا وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً، وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين. فهذا الحديث يدل على أن سؤال الميت يكون في قبره بعد دفنه… وكون ذلك في القبر وبعد الدفن جرى مجرى الغالب كما هو المعهود عند أكثر الناس أن الميت يقبر بعد وفاته غالباً، فإذا لم يقبر لأي سبب فإنه سوف يسأل لا محالة، والله تعالى الذي أنشأه أول مرة قادر على أن يرد إليه روحه ويسأله… والشريعة الإسلامية ليس فيها ما يستحيل عقلاً، ولكن فيها ما يحير العقول، ولذلك فنصوص الوحي هي التي تهدي العقل وترشده في الأمور الغيبية التي تحيره، وفي الحديث -كذلك- دليل على أن السؤال يكون للمؤمن وغيره من المنافقين والكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم،

ويجب الإيمان بأن من أراد الله له العذاب في الفترة البرزخية فلا بد أن يعذب سواء قبر أو لم يقبر . قال محمد السفياني رحمه الله في كتابه “لوامع الأنهار البهية :” من لم يدفن من مصلوب ونحوه يناله نصيبه من فتنة السؤال وضعطة القبر . قال الإمام المحقق في كتاب الروح: مما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم  يقبر. فلو أكلته السباع أو حرق حتى صار رمادا أو نسف في الهواء أو غرق في البحر وصل إلى روحه من العذاب وبدنه من العذاب ما يصل من المقبور “

9- فعذاب القبر ونعيمه يلحقان الروح والبدن معاً، وقد نُقل على ذلك اتفاق أهل السنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (4/282) بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للروح مفردة عن البدن. وقال( 4/262 ): وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ما بين الموت إلى يوم القيامة: هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع.

لكن في أهل الكلام من يقول هذا إنما يكون على البدن فقط، كأنه ليس عنده نفس تفارق البدن، كقول من يقول ذلك من المعتزلة والأشاعرة. ومنهم من يقول: بل هو على النفس فقط، بناء على أنه ليس في البرزخ عذاب على البدن ولا نعيم، كما يقول ذلك ابن ميسرة وابن حزم.اهـ.

قال ابن رجب: قد ذكر بعضهم السر في تخصيص البول والنميمة والغيبة بعذاب القبر، وهو أن القبر أول منازل الآخرة وفيه أنموذج ما يقع في يوم القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يعاقب عليها يوم القيامة نوعان: حق لله، وحق لعباده، وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء، وأما البرزخ: فيقضى فيه في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء النميمة والوقيعة في الأعراض، وهما أيسر أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما.ا.هـــــــــــــــــ

10- من شبهات المنكرين لعذاب القبر قوله تعالى {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وقوله تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} واستدلوا بحال المصلوب أو الغريق أو الحريق

والجواب على ذلك أن حياة الأموات في قبورهم لا يقتضي مساواة حياتهم في البرزخ بحياتهم في الدنيا بل هي حياة خاصة قدرها الله سبحانه وتعالى لهم، وقد ظن هؤلاء أن الموت عدم محض لا يشعر معه صاحبه بشيء وهذا ما ترده النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وقد رأينا اليوم من آثار التعذيب أنواعاً مختلفة لا تترك آثاراً على الجسد كالتعذيب الكهربائي والتعذيب النفسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى