1ـ فإن العالم الإسلامي يموج هذه الأيام كموج البحر، حيث انتفضت الشعوب وثارت في كثير من البلاد رافضةً ظلم الحكام وبغيهم، غاضبةً مما أطبق عليهم من إفقار وإذلال وتضييع للحقوق؛ فلا كرامة إنسانية حُفِظَت، ولا حرياتٍ أساسيةً تحققت، بعدما رأى الناس من حكامهم استئساداً عليهم وتسوراً وتجسساً وبغياً وظلماً وعدواناً، وفي الوقت نفسه خنوع أمام الأعداء واستسلام وخضوع وإذعان؛ حتى صدق فيهم قول القائل: أسدٌ علي وفي الحروب نعامة خرقاء تنفر من صفير الصافر؛ وما عاد الواحد منهم يكتفي بأن يحكم الناس ثلاثين سنة مجللة بالعار والسواد، بل يؤمِّل أن يورث ذريته البلاد بمن عليها وما عليها؛ فاحتمل الغضب تلك الشعوب فخرجت إلى الشوارع هادرة ترفع أصواتها بالشكوى مما نالها من ظلم وتغييب، طالبة من أولئك العتاة المتكبرين أن يعجِّلوا بالرحيل لتستريح منهم البلاد والعباد والشجر والدواب؛ بعدما ملئوا الأرض جوراً وظلما؛ وبدلاً من أن يمتثلوا لإرادة الشعوب ويخضعوا لأمرها إذا بهم يسلطون أكابر مجرميها من الأوغاد وباعة الضمائر فيطلقون الرصاص ويفسدون في الأرض، يسفكون الدماء ويزهقون الأرواح ويخيفون الناس، ليثبت هؤلاء الحكام أنهم ليسوا إلا لصوصاً متغلبة؛ حتى صار لسان حال الشعوب في مخاطبة أولئك الظلمة أن يقولوا للواحد منهم:
ألا أيها الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياة
سخرت بأنات شعب ضعيف وكفك مخضوبة من دماه
وسرت تشوه سحر الوجود وتبذر شوك الأسى في رباه
رويدك لا يخدعنك الربيع وصحو الفضاء وضوء الصباح
ففي الأفق الرحب هول الظلام وقصف الرعود وعصف الرياح
حذار فتحت الرماد اللهيب ومن يبذر الشوك يجن الجراح
تأمَّل هنالك أنى حصدت رؤوس الورى وزهور الأمل
ورويت بالدم قلب التراب وأشربته الدمع حتى ثمل
سيجرفك السيلُ سيل الدماء ويأكلك العاصف المشتعل
2ـ في هذه الأثناء خرج على الناس فريقان كلاهما عن الصواب حائد، وعن الجادة مائل، ولهواه متبع، أحدهما يزعم أن النصيحة لوليِّ الأمر لا تكون إلا بالسرِّ بينك وبينه مستدلاً بحديث {من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية؛ ولكن يأخذ بيده فيخلو به؛ فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه} فترك كل ما تواتر من الأحاديث وفعل الصحابة والسلف في إنكار المنكر علانية إن احتاج الأمر إلى ذلك. ومن هذا الصنف من زعم أن الخروج على رئيس تونس لا يجوز، وأنه يجب على أهل تونس السمع والطاعة!!!!
والصنف الثاني: قوم هوج يريدون الخروج على الحاكم لأدنى ظلم يبدو منه، ولو كان للدين معظماً ولأحكامه خاضعا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
3ـ إن هذه القضايا الكبار من مسائل الإمامة وانعقاد البيعة والسمع والطاعة والخروج على الولاة وما يجب على العلماء وأهل الحل والعقد والناس من أطر الأمراء على الحق أطراً ونحوها لا يظنن ظانٌّ أن الشريعة التي أكملها الله )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا( لم تأت ببيان شاف في هذه المدلهمات من القضايا، بل أبانها الكتاب وأوضحتها السنة وصنف فيها أهل العلم مصنفات مشهورة، فما من كتاب من كتب السنة إلا وفيه كتاب أو أبواب عن هذه المسائل، ففي البخاري كتاب “الأحكام”، وفي مسلم “الإمارة”، وفي أبي داود “الخراج والفيء والإمارة”، وفي النسائي “البيعة”، وهكذا بقية كتب السنن، وفي كتب العقائد كالسنة للخلال أو لابن أبي عاصم أو الشريعة للآجري أو شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي وغيرها كثير، وأيضاً في كتب الفقه من المذاهب الأربعة وغيرها بسط واسع لهذه المسائل.
4ـ فالحاكم له أحوال ثلاثة لا يخرج عنها: إما أن يكون عادلاً أو جائراً أو كافراً. فالأول: الحاكم المؤمن العادل. وهذا اتفقت الأمة جمعاء على وجوب طاعته في غير معصية الله وعلى حرمة الخروج على ولايته، وجاءت النصوص المتكاثرة في الثناء عليه: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل} فذكره أولهم. وفي صحيح مسلم مرفوعاً: {مَنْ أَطَاعَ الأمير فَقَدْ أَطَاعَنِى وَمَنْ عَصَى الأمير فَقَدْ عَصَانِى} وأخرج أبو داود عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ مِنْ إِجْلاَل الله.. إِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ}، وقد روي موقوفاً وإسناده أثبت.
وفي آية النساء )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( فإن أمر بطاعة الله وجبت طاعته لله ثم لأمر ولي الأمر بها، وإن أمر بما تختلف في مثله آراء الناس مما فيه تنظيم لحياتهم كأنظمة العمل والمرور والبناء ونحوها وجبت طاعته أيضاً لأن أمور الناس لا تنتظم إلا بهذا، بل عاصيه عاص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان عدلا آمرا بالقسط، وهذا الجنس من الولاة عزيز عزيز.
والثاني: الكافر كفراً طارئاً أو أصلياً. والكفر الأصلي واضح كأن يتغلب كافر على بلد مسلم كما يجري في فلسطين وكما جرى في العراق ونحو هذا، وأما الكفر الطارئ بأن يكون في الأصل مسلماَ ثم يطرأ عليه الكفر بشرك أكبر أو باستباحة محرَّم معلوم من الدين بالضرورة وغيرها، وهذه مرجعها لأهل العلم المتحققين في هذه المسائل من أهل السنة ممن لم يتلوثوا بلوثة الإرجاء فيداهنوا الحكام، أو يتلطخوا ببدعة الخوارج فيكفِّروا بالشبهة، فمن ثبت كفره وجب الخروج عليه حين القدرة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى )وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا( وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: {بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في السر والعلن وعلى النفقة في العسر واليسر والأثرة وأن لا ننازع السلطان أهله، إلا أن نرى كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان} رواه الشيخان. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال. وقال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم 12/229 نقلاً عن القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ـ يعني ابتداء ـ وعلى انه لو طرأ عليه الكفر انعزل.. فإن تحققوا العجز لم يجب القيام. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/123: إنه ـ أي الحاكم ـ ينعزل بالكفر إجماعاً فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض. وقال في الفتح أيضاً 13/7: وإذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها.
وهذه الحالة تنطبق على الحكومات التي أقرت الشرك الأكبر وحمته مما هو من نواقض التوحيد كدعاء غير الله أو الذبح للأضرحة وما في حكمها، وكذا من عطلت شريعة الله وتحاكمت في أصل دستورها للقوانين الوضعية فأحلت ما حرم الله أو حرمت ما أحل الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، على تفاصيل في هذا وذاك ليس هذا موضعها، وأكثر الحكومات المعاصرة في عالمنا العربي والإسلامي وقعت في هذا المنكر العظيم والبلاء العريض.
ومن المقرر عقلًا وشرعاً أن القدرة المانعة من حصول الهرج العام واستحرار القتل بالناس وانتهاك الأعراض وضياع الأموال بصورة ظاهرة شرط لجواز الخروج، وإلا حرم درءاً للمفسدة الكبرى.
والثالث: الحاكم الجائر فهو ليس بعدل ولا كافر. وهذا تجب مناصحته والأخذ على يديه ويحرم الخروج عليه، فالواجب هنا يقع في صراطٍ بين الخروج والخنوع، فإذا كان الخروج في هذه الحال لا يجوز فالخنوع كذلك، وإذا كان الخنوع لا يجوز فالخروج أيضا كذلك لا يجوز.
وهذه المناصحة درجاتها راجعة إلى السياسة الشرعية فكل ما أمكن إزالة المنكر بالأدنى وجب المصير إليه دون الأعلى، فإن زال المنكر بمناصحة السر اكتفى به، فإن لم يتحقق المقصود جهر برفق، فإن لم ينفع جهر واشتد بحسب القدرة وبحسب مقدار المنكر، شريطة ألا يؤدي ذلك إلى منكر أشد أو يثير فتنة الخروج على الحاكم الجائر. فتقييد الإنكار بالإشهار أو الإسرار أمر تحكمه مقاصد الشريعة، و يجب ضبطه بضوابطها، و ينظر إليه من خلال المصالح المترتبة على القيام به، والمفاسد المترتبة على تركه، و هذا يختلف بحسب الأمور المنكرة، و حال المنكِر، و المنكَر عليه، وأسلوب الإنكار، لذلك رأينا أئمة السلف ينكرون المنكر على الحاكم علانية تارةً، وخفيةً تاراتٍ أُخَر، فيما بينهم و بين الحاكم، دون أن يتحجَّر أحدهم واسعاً، أو يحمل الناس على رأيه مكرَهين.
وقد جاء في سورة النساء آية سماها أهل العلم آية الأمراء، وهي قوله تعالى )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ( فالآية أوجبت على الحكام أمرين عظيمين: 1- أداء الأمانات. 2- والحكم بالعدل وهذان جماع السياسة الربانية.
فمن لم يؤد الأمانة أو لم يحكم بالعدل بأن مثلا:
- ولى شخصاً لقرابة أو معرفة وغيرُه أكفأ وأصلح منه، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه {من ولى من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين}
- أو لم يقسم بيت المال بالعدل بل استأثر به هو أو قرابته أو حاشيته بما ليس لهم من بيت المال، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح {مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَْ} فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: {وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ}.
3- أو ظلم أو بغى، أو أمر بمنكر أو نهى عن واجب أو نشر الفساد أو حماه فقد قالً صلى الله عليه وسلم {مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} - أو لم يقم بأمر الصحة أو التعليم أو المواصلات أو الاتصالات ونحو ذلك؛ كما يجب.
والمقصود أنه انتقص شيئاً من ركني الولاية العادلة؛ ولنفترض أنه: استشرى في عهده الفساد السياسي أو الإداري أو المالي أو الاجتماعي أو غيرها. فعندئذٍ ما الواجب على الشعوب.. على الناس للخروج من هذا المأزق؟ هل يستسلمون للواقع المرير، ويكتفون بالحوقلة، وينتظرون الفرج من الله دون مدافعة وعمل، هذا خلاف العقل والشرعِ معاً.
فما العمل إذا جار الحاكم على الناس لكن لم يروا الكفر البواح منه؟
في حديث أم سلمة رضي الله عنها في صحيح مسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سيكون بعدي أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة} وحديث أم سلمة يجمع ركني التعامل مع أئمة الجور، فلا يجوز منابذتهم بالسلاح، ولا يجوز السكوت على منكراتهم.
وفي صحيح مسلم أيضاً في حديث الأمراء: {ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} والجهاد باليد على الأمراء مشروع للقادر ما لم يكن بالسيف نص عليه الإمام أحمد.
وعند الثلاثة قال صلى الله عليه وسلم {إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده}
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {.. ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصرا} وفي رواية فيها زيادة {أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم}
وقد ثبت عند البخاري في تاريخه الكبير وغيره “أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فقال ذلك مرتين، أو ثلاثا: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فقال بشير بن سعد رضي الله عنه: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القِدْح ـ أي عود السهم ـ فقال عمر: أنتم إذاً أنتم”
5ـ ونحن في العالم الثالث نعيش في هذه الأيام فرصة عظيمة للتصحيح والتغيير للأفضل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالحكام رأوا بأعينهم ما لم يروه من أزمان، رأوا طريقة تعامل التكتلات العالمية في الغرب أو الشرق مع الأنظمة الحاكمة، وكثرة التقلبات وعدم ثبات الكلمة، وبراءتهم من عملائهم وخدمهم كما فعلوا مع (ابن علي)، وموقفهم مما يجري في مصر، فصديق الأمس عندهم أصبح عدو َاليوم، بعد هذا يجب أن يصبح من البدهيات: أن تدرك الأنظمة الحاكمة أنها لم يبق لها بعد الله إلا شعوبها ومحبتها لهم.
فالواجب هنا أن تمتد جسور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الحكام والشعوب )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ( فكل بحسبه:
من كان يستطيع إيصال النصيحة مباشرة إلى المسئول فهذا واجبه، فإن كان الرفق أحرى بقبول النصيحة فليترفق، وإن كانت الشدة أبلغ في تأثير النصيحة فلا عليه فإن {أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ}
ومن لم يستطع فليوصل نصحه بالبرقية أو الفاكس أو بلقاء مدير المكتب وغير ذلك من الوسائل، مع تتابع النصح على الحاكم أو من ينيبه بخصوص هذا الفاسد.
فإن لم يجدِ ذلك فيجري التشهير به وفضحه في كل ميدان كما قال تعالى )لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ( وسرقة أموال المشاريع العامة من الظلم البين، وإذا كان الزاني والزانية يأمر الله بالتشهير بهما )وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ( فكيف بالفساد المالي وسرقة الملايين التي رصدت لحاجة الناس الضرورية ومرافقهم الهامة من المستشفيات والمواصلات والاتصالات وغيرها؛ فهذه من باب أولى.
وعند أبي داود والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {قال رجل: يا رسول الله إن لي جاراً يؤذيني , فقال: انطلق فاخرج متاعك إلى الطريق, فانطلق فاخرج متاعه فاجتمع الناس عليه, فقالوا: ما شأنك؟ قال: لي جار يؤذيني, فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: انطلق فاخرج متاعك إلى الطريق, فجعلوا يقولون: اللهم العنه, اللهم اخزيه, فبلغه, فأتاه, فقال: ارجع إلى منزلك, فوالله لا أوذيك}
ولا يلزم أن يقوم أهل العلم والدعوة بذلك لكن لا يمنعون منه ويثنون عليه إن كان وفق ميزان القسط، في مسائل الخلال عن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال: حضرت العيد مع أحمد بن حنبل، فإذا بقاص يقول: على ابن أبي دواد اللعنة، وحشا الله قبره نارا. فقال أبو عبد الله: ما أنفعهم!! للعامة
وهذا قيل في وزير الدولة في محفل عام لما تجرأ ودعا الناس إلى بدعة خلق القرآن.
6ـ وأما من زعم أن نصيحة الوالي لا تكون إلا بالسر للحديث السابق {من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه} والحديث أسانيده قوية وإن كان أعرض عنه أصحاب الكتب الستة، فلو صح هذا الخبر لكان من العام الذي أريد به الخصوص، فيكون في المعصية الخاصة دون ما يجهر به، أو في الوالي العدل الذي لا يقصد الجور لكن يجتهد وقد يكون الحق معه أو مع من نصحه، أما من ظهر جوره لظلمه أو لضعفه ولم تُجدِ معه نصيحة السر فلا بد من الجهر وإن احتاج الأمر إلى شدة فلا بأس من دون خروج ولا تحريض على خروج.
وهذا هو الجمع بين هذا الحديث وما في معناه والأحاديث التي أمرت بالأخذ على يديه وأطره على الحق وجهاده باليد وهي أحاديث صحاح مشاهير، وعمل الصحابة والسلف يدل عليه، كما في أثر عمر السابق، وفي صحيح مسلم عن حصين بن عبد الرحمن السلمي قال: كنت إلى جنب عمارة بن رويبة السلمي رضي الله عنه والأمير بشر بن مروان يخطب، فلما دعا رفع يديه، فقال عمارة: قبح الله هاتين اليدين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا ورفع السبابة وحدها.
وعند مسلم أيضاً عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أنه قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:{من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}
ويدل عليه أن القاعدة عند أهل العلم أن من جهر بمعصيته يجهر بالإنكار عليه ففي فتح الباري (17 / 238) قال الحافظ: وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به.
وفي الفتاوى الكبرى (3 / 434) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من فعل شيئا من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} فإن كان الرجل متستراً بذلك وليس معلناً له أنكر عليه سراً وستراً عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من ستر عبداً ستره الله في الدنيا والآخرة} إلا أن متعدي ضرره والمتعدي لا بد من كف عدوانه وإذا نهاه المرء سراً فلم ينهه؛ فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين، وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره.
والحاكم أو المسئول كغيره تبدأه بالرفق والحكمة بل هو أولى من غيره بذلك وتتحين أسباب الإجابة، فإن لم يستجب كان لابد من الأخذ على يديه شيئا فشيئا بحسب القدرة حتى لا يعمنا الله بعذاب من عنده، والحاكم والمحكوم كاليدين تنظف كل واحدة منهما الأخرى، وقد يكون الوسخ يسيراً فينظف من دون عرك، وقد يحتاج إلى عرك شديد، وقد قال الله لموسى عليه السلام في أول أمره مع فرعون )اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ^ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى( فلما ظهر استكباره وعناده قال موسى لفرعون )وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا(
7ـ إن ما يقوم به شباب مصر في هذا الحين من مطالبة بزوال هذا المنكر العظيم المتمثل بهذا النظام الحاكم وجلاوزته، هو حق مشروع وقيام بهذا الواجب المتحتم على كل قادر، ولكننا لا ندري هل يقدرون على هذا أم لا؟ فمصر ليست كتونس لا في الاعتبار المحلي ولا الإقليمي ولا الدولي، ثبت الله أقدام المرابطين هناك، وأنزل السكينة على قلوبهم، وهداهم سبيل الرشاد، وسدد أقوالهم وأفعالهم، وقد جرب الناس مؤمنهم وكافرهم أن النصر إنما هو صبر ساعة. وإن الجرائم التي ارتكبها هذا النظام العميل قد فاقت على الحصر، ومنها:
- إغلاق معبر رفح
- هدم الأنفاق
- بيع الغاز
- حكم المحكمة بالبطلان
- بناء الجدار الفولازي
- القبض على القوافل وسجن من فيها
- إعلان الحرب على غزة من مصر على لسان وزيرة الخارجية اليهودية
- تغييب الشريعة
- مراقبة الدعاة وإحصاء أنفاسهم
- مراقبة المساجد
- موالاة النصارى حتى بلغ به الحال أن يسلم المسلمات الموحدات إلى كبير النصارى ليمارسوا معهن أشد العذاب