في القرآن الكريم خبر لقمان عليه السلام، الذي كان عبداً صالحاً آتاه الله الحكمة وأجراها على لسانه، {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا} والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيماً ولياً ولم يكن نبياً، وقد ذكره ربنا في القرآن فأثنى عليه وحكى من كلامه الذي وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه وهو أشفق الناس عليه، وأول ما ينبه عليه أن التربية تكون بالقدوة الحسنة قبل الموعظة الحسنة، وبالحال قبل المقال، وبالسلوك الحسن قبل الكلام الحسن، وبإصلاح النفس قبل إصلاح الأبناء، كما قال أحد الحكماء لمربي أبنائه: (وليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيك إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنتَ، والقبيح عندهم ما استقبحتَ) وكما قيل (حال رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل لرجل)
وفي قصة لقمان ومن خلال تلك الوصايا يمكننا استنباط بعض مبادئ التربية الناجحة، ومن ذلك:
أولاً: انطلاق وصايا لقمان من الحكمة: فهي لم تكن اعتباطاً، بل كانت عن معرفة وخبرة. قال تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ} وترى في الآيات أن الله قد جعل الحكمة هي المقدمة التي ابتدأ بها قبل ذكر وصايا لقمان، وهي المقدمة المطلوبة من الآباء، قبل أن ينزلوا ميدان التربية، فعليهم أولاً أن يرحلوا إلى مصادر المعرفة المتاحة لتلقي أسس التربية الناجحة، وهي مصادر قد صارت في زماننا متعددة ومتنوعة نذكر منها (الدورات – والكتب – وسؤال أهل الاختصاص – والاستفادة من أصحاب التجارب… وغيرها) فليست التربية خبط عشواء، ولا هي أحاديث خرافة، ولا كلمات منمقات، بل هي علم وتجربة وخبرة ودربة ودراية.
ثانياً: تعهُّد الأبِ ولده بالنصح والتوجيه، وهو ما يزال تحت كنفه؛ وبالأخص في المراحل الأولى من العمر التي يتهيأ فيها الأبناء لاكتساب القيم، وتبدأ فيها وضع البصمات الأولى في تكوين الشخصية؛ فالتربية الناجحة ليست نظراتٍ خاطفةً، ولقاءاتٍ عابرةً ينتظر الآباء أن يجنوا من ورائها ثماراً ناضجة؛ بل هي مراحل طويلة، ومجالس متعددة، يلتقي فيها الآباء بالأبناء ليُراجعوا الماضي فيصلحوا ما فسد، ويقوِّموا ما اعوجَّ، وينظروا في الحاضر والمستقبل فيضعوا لَبِنَاتٍ جديدةً من المعارف النافعة، والأخلاق الفاضلة بحسب حاجات أبنائهم، وهذا ما ذكره الله تعالى عن لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} فجملة {يَعِظُهُ} جملة فعلية وهي دالة على الحدوث والتجدد؛ فقد كان لقمان يتعهد ابنه بتلك الوصايا بين حين وآخر بحسب الحاجة، وقد ذكر المفسرون في كتبهم بعض هذه المجالس.
ثالثاً: أن تكون وصايا نابعة من حب الآباء لأبنائهم وحرصهم على صلاحهم: ولعلك لمست هذا في نداء لقمان لابنه فهو لم يناده باسمه، بل تسمعه يناديه بكلمة (يا بني!) ويكررها في أغلب وصاياه، وهي كلمة تزول عندها المسافات، وتتلاقى القلوب، وتتفجر كلُّ معاني العطف والحنان، ويلمس الأبناء في جرسها دفء الأبوَّة، وتجعلهم أكثر استجابة لوصايا آبائهم وعملاً بها، وهل هناك أجمل من أن ينادي الأب ولده بأعظم رابطة تجمع بينهما؟ ويشعر الولد بأن حق هذه الرابطة الحميمة هو الذي دفع والده إلى هذه الوصايا التي فيها صلاحه في دينه ودنياه، في حاضره ومستقبله، في عاجل أمره وآجله. ودع عنك آباء وأمهات لا يخاطبون أولادهم إلا بنداءات جافة وألفاظ خشنة ونظرات غاضبة.
رابعاً: مراعاة الأولويات، وَفْق ميزان الشرع، فتقدم ما هو أَوْلى بالتقديم، وتؤخر ما حقه التأخير؛ فحق الله في التوحيد الخالص، وإفراده بالعبادة أَوْلى بالتقديم من حق الوالدين في الطاعة ولذلك بدأ بحق الله تعالى فقال: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، ثم ثنَّى بحق الوالدين فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} ثم أكد هذا المعنى فقال: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} وشُكْر الله لأنه المنعم الأول بتهيئة أسباب الرعاية، أَوْلى بالتقديم من شكر الوالدين الذين هما سبب الرعاية {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وإصلاح النفس أَوْلى بالتقديم من إصلاح المجتمع ولذلك أوصى ولده بإقامة الصلاة التي هي وسيلة لإصلاح النفس قبل أن يوصيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي وسيلة إصلاح المجتمع: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ودع عنك آباء وأمهات يهتمون غاية الاهتمام بتحصيل أولادهم العلمي وتقدمهم الدراسي ومهاراتهم اللغوية، لكن لا عناية لهم بصلاة ولا ذكر ولا دعاء ولا قرآن.
خامساً: الحرص على تعليل الأوامر والنواهي؛ فما عاد الأولاد يقبلون أوامر ونواهي محضة، بل لا بد من التعليل؛ فعندما أوصى لقمان ولده بالإحسان لوالديه علل الوصية فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَحَمْلُها لولدها تسعة أشهر عانت فيهما ألام الحمل والطلق، وإرضاعُها له عامين، كل ذلك يستوجب منه مكافأة الإحسان بالإحسان: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
سادساً: تقبيح المنكر وتعظيم خطره: وعندما نهاه عن الشرك بيَّن له خطره فقال: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وذكر له قباحة وشناعة رفع الصوت من غير حاجة فقال: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ}
سابعاً: تحسين المعروف وذكر فضله: وعندما أمر ولده بالصبر على مشاق الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد والمفسدين، ذكر له محاسن هذا السلوك وأنه من خلق ذوي العزم فقال: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
ثامناً: ربط هذه التوجيهات بالآخرة: فعندما أوصى ولده بشكر الله المنعم الأول، وشكر والديه (سبب النعمة) قرن كل ذلك بالآخرة: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}
تاسعاً: ربط التوجيهات برقابة الله وحسابه: فعندما طلب منه صحبة والديه بالمعروف – وإن كانا حريصين على شركهما بل ويجتهدان في رده عن دينه – قرن ذلك برقابة الله سبحانه وحسابه: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير}
عاشراً: ربط التوجهات بمحبة الله ورضاه: فعندما نهى ولده عن مظاهر الكبر قرن تَرْك ذلك بمحبة الله ورضاه {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
حادي عشر: وصايا تسعى إلى بناء الشخصية المتوازنة بين الإفراط والتفريط، فلا تجنح إلى طرف على حساب الطرف الآخر، فلا طاعة للوالدين في دعوتهما للشرك، وفي الوقت ذاته لا قطع لهذه العلاقة حفظاً للمعروف الذي كان منهما في صغره: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، وإذا مشى فمشيته قصد (بين البطء والإسراع) (بين التبختر والتماوت) {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} وإذا تكلم فهو يغض من صوته ولا يرفعه إلا بقدر ما يحتاج إليه السامعين {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} و(من) للتبعيض؛ فأحياناً قد يحتاج الإنسان لرفع صوته لبعد السامع أو لثقل سمعه، وإذا فعل الخير فهو يقرن ذلك بالدعوة إليه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ}.
ثاني عشر: توجيهات تقوم على اقتراح البدائل وعلى كشف الداء ووصف الدواء؛ فهو يكشف المظاهر السيئة التي هي عنوان ودليل الرذائل، ويصف البديل عنها من المظاهر الحسنة المؤدية إلى اكتساب محاسن الأخلاق، وانظر معي قول لقمان وهو يشخِّص الداء من مظاهره الدالة عليه فيقول: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وهذه كلها مظاهر تدل على أن صاحبها مصاب بداء الكبر، ثم انظر إليه وهو يضع الحلول والوسائل والدواء للشفاء من هذا المرض والظفر بنقيضه فيقول:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} فكما أن التبختر في المشيَ، وتصعيرَ الخد، ورفعَ الصوت طلباً للظهور ولفتاً للأنظار كلها دالة على الكبر ووسيلة إليه، فإن القصد في المشي وغضَّ الصوت وسيلة لاكتساب التواضع ودالة عليه.
ثالث عشر: استخدام كل الوسائل التوضيحية المتاحة التي تتقرب بها المعاني، وتتضح بها التوجيهات؛ وخاصة للناشئة الذين ما زالوا يحتاجون إلى الصور المشاهدَة المحسوسَة والمألوفة لتلقِّي المعرفة وإدراك المعاني أكثر من حاجتهم إلى المعرفة النظرية، ولقد استخدم لقمان عدة وسائل في تعليم هذه الوصايا، من ضرب الأمثال واستخدام الكنايات والتشبيهات، فكان مما قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، ومنها: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قال ابن كثير: (وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر)، ومنها: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ}
وهذه الوسائل التي استخدمها لقمان في وعظه لابنه (حبة خردل – صخرة – تصعر – صوت الحمير) كلها وسائل محسوسة ومشاهدَة ومألوفَة في ذلك الزمان، ولا شك أن المدنية الحديثة، والثورة التقنية، والحضارة المعاصرة جاءتنا بكثير من الوسائل التي يمكن استخدامها في تقريب المفاهيم وتوضيح المعاني إلى عقول الناشئة.
رابع عشر: وصايا شاملة لكل ما يحتاج إليه الأبناء، في حياتهم الفردية، والأسرية، والاجتماعية، بما يجعل كلاً منهم صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره، فاعلاً للخير وحاضّاً عليه، متمسكاً بالقيم وطريقاً إليها، عارفاً بحق الله وحق نفسه وحقوق الناس عامة، وحق المحسنين إليه خاصة؛ فهي تسعى إلى إصلاح حاله مع الله بالتوحيد الصافي وإقامة الشعائر، وإصلاح حاله مع نفسه بالتزام مكارم الأخلاق واجتناب مساوئها، وإصلاح حاله داخل نطاق الأسرة بالإحسان إلى والديه، وإصلاح حاله داخل نطاق المجتمع بأن يكون فاعلاً فيه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامس عشر: توجيهات لا تحذِّر من المساوئ إلا بقدر ما تعرِّف بالمحاسن، ولا تنهى عن المنكر إلا بقدر ما تأمر بالمعروف، ولا ترهِّب من الرذيلة إلا بقدر ما ترغِّب في الفضيلة، فهي ليست تربية سلبية تحذِّر من الشر ثم تترك الدلالة على الخير؛ فالتربية هي التنمية ومن يكتفي بالتحذير من المساوئ والنهي عن المنكر والترهيب من الرذيلة والتخويف من الشر، ثم لا نرى منه تعريفاً بالمحاسن ولا أمراً بالمعروف ولا ترغيباً في الفضيلة ولا دلالة على الخير، هو في الحقيقة يقتصر على الهدم دون البناء؛ والتربية الناجحة تقوم على الهدم والبناء، على التخلية والتحلية، على التطهير والتنمية؛ فهي إزالة وهدم للأخلاق السيئة وتنمية وبناء للأخلاق الحسنة، وهنا نرى لقمان يجمع بين الأمرين (فهو يحذِّر من الشرك ومظاهر الكبر وفي هذا هدم للمساوئ، وهو في الوقت ذاته يدعو إلى طاعة الوالدين وإقامة الصلاة وإصلاح المجتمع؛ وفي هذا تنمية للأخلاق الفاضلة)