هذه من المسائل التي حصل فيها كلام لأهل العلم المحدَثين، وقد انقسم حولها العلماء المعاصرون واختلفت آراؤهم فيها، فمنهم من جزم بعدم جواز دخولها؛ لأن الدخول فيها يستلزم جملة من المفاسد؛ ومنهم من قال إنه يتعيَّن على المسلمين دخولُها وعليهم ألا يضيِّعوا ذلك؛ ومنهم من يقول إن ذلك جائز بشروط.
والتحقيق أن دخول البرلمانات لا يستلزم الإقرار بالتشريع لغير الله جل جلاله، بل غايته أن يكون وسيلةً لإحقاق حق وإبطال باطل، أو لتحقيق مصلحة أو تكثيرها، أو درء مفسدة أو تقليلها، وقد حصل بها خير أو بعض خير في كثير من بلاد الله تعالى؛ خاصةً تلك البلاد التي يتعيَّن فيها دخول البرلمان سبيلاً وحيداً لنيل الحقوق، وقد أفتي جمعٌ من أهل العلم المعاصرين بجواز دخول البرلمان، منهم العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمهم الله جميعاً وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق حفظه الله، وكلهم ـ كما لا يخفى ـ من رواد المدرسة السَّلفية في العصر الحديث، أما شيوخ الحركة الإسلامية في مختلف البلاد فلا خلاف بينهم في جواز دخولها بالقصد الذي أشير إليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجب أن يعلم أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا الدنيا إلا بها.. إلى أن قال: فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله”. وقال رحمه الله: “ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين، ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به، ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك فأخذه معرضاً عن الدين لاعتقاده أنه مناف لذلك وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل لا في محل العلو والعز، وهاتان السبيلان الفاسدتان سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين.
إلى أن قال رحمه الله: “فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك حسب الوسع فمن وُليِّ ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكنه من المحرمات لا يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار، ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه فإن قوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر” انتهى كلامه. انظر مجموع الفتاوى ج 28 ص 390-396.
ويمكن للمجيز أن يستدل بما حكاه القرآن عن يوسف الصديق عليه السلام حين طلب من مَلِكِ مصر أن يجعله على خزائن الأرض لما واتته الفرصة؛ ظناً منه عليه السلام أنه سيصير بمكان يستطيع فيه إقامة العدل وكف الظلم، ولم يخيِّب الله ظنه؛ فكان كما قال عن نفسه }اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم{[1] وغيرُ خافٍ على طالب العلم أن ملك مصر إذ ذاك ما كان مسلماً بل هو كافر على رأس نظام كافر، واستمر الكفر في ذريته حتى أرسل الله نبيه موسى عليه السلام، ولهذا قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون في محاجته للزمرة الحاكمة المؤتمرة على موسى عليه السلام )ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فمازلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب( فبيَّن أن آباءهم مذ أرسل يوسف وهم على كفرهم، وتأمل كيف أثبت الله تعالى لهذا الرجل من آل فرعون الإيمان فقال )وقال رجل مؤمن من آل فرعون( مع أنه ساق خبر اجتماعه بهم فيما يمكن أن نشبهه اليوم بالبرلمان وساق من كلمته فيهم فصولاً مطولة في سورة غافر، والثناء عليه باسم الإيمان فيها متكرر، وإقرار صنيعه فيها ظاهر، مع أنهم ما استجابوا له ولا استطاع أن يدفع رأي فرعون.
وكذلك النجاشي أصحمه ـ رحمه الله وأكرمه ـ كان حاكماً ولم يكن يسعه العمل بكامل الشريعة لكنه يخفف المناكر ويدرأ بعض المفاسد ومع ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم أخاً للصحابة وصلى عليه بهم يوم مات.
ولا يُفهَم من هذا جواز دخول البرلمانات بغير قيد أو شرط؛ بل مناط الحكم أن يقال: هل يستطيع المشارك في البرلمان أن يسوق للمسلمين نفعاً أو يدفع عنهم ضراً؟ هل يغلب على ظنه أنه سيُحقُّ حقاً أو يُبطل باطلاً؟
وفي كلام العلماء المعاصرين ممن سبق ذكرهم ما يفيد هذا الذي قلناه: يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى }يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز{[2] قال رحمه الله في الفوائد المتحصِّلة من هذه الآية العظيمة ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، وقد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار؛ كما دفع الله عن شعيب رجمة قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعيَّن ذلك لأن الإصلاح مطلوب حسب القدرة والإمكان.ا.هــ[3]
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس فأجاب رحمه الله قائلاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى}[4] فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب (البرلمان) إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله والله الموفق. ونسأله I أن يوفق المسلمين لما فيه صلاحهم، أما انتخاب غير المسلمين فلا يجوز، لأن ذلك يعني منه الثقة والولاء، وقد قال الله تعالى }يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين{[5] والذي يجب عليكم أن تختاروا وتنتخبوا أكثر المرشحين المسلمين جدارةً وكفاءة، ومن يُتوسَّم فيه أن يحقق للمسلمين مصالح أكثر، ويدفع عنهم ما استطاع دفعه من المضار، والمسلم وإن كان فيه ما فيه من قصور فهو خير من غير المسلم وإن بدا ناصحاً قال تعالى }ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم{[6] كما أن انتخاب غير المسلم وتقديمه على المسلم هو من جعل السبيل للكافرين على المؤمنين وهو منهيٌّ عنه، لقوله سبحانه وتعالى }ولن يجعل الله للكافرين على للمؤمنين سبيلاً{ [7]،[8]
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: أما القول: إن البرلمان لا يجوز ولا مشاركة الفاسقين, ولا الجلوس معهم, هل نقول: نجلس لنوافقهم؟ نجلس معهم لنبيِّن لهم الصواب. بعض الإخوان من أهل العلم قالوا: لا تجوز المشاركة, لأن هذا الرجل المستقيم يجلس إلى الرجل المنحرف, هل هذا الرجل المستقيم جلس لينحرف أم ليقيم المعوج؟! نعم ليقيم المعوج, ويعدل منه, إذا لم ينجح هذه المرة نجح في المرة الثانية[9] ويقول الشيخ حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله تعالى: والذي أراه أن الدخول في البرلمانات لا يجوز، ولكن بعض العلماء قال: إذا كان من الممكن أن يكون الأغلبية في البرلمان للإسلاميين فيترتب عليه أن يكون وجودهم مؤثراً ويبطل المشاريع العلمانية جاز ذلك[10]. وقد كتب الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق ـ حفظه الله ـ رسالة مفيدة سماها: مشروعية دخول البرلمانات وطلب الولايات العامة؛ ويحسن بطالب العلم الاطلاع عليها والاستفادة منها.
والخلاصة أن هذه المسألة من موارد الاجتهاد وما ينبغي أن يشنَّع على المخالف فيها فضلاً عن الحكم عليه بالكفر؛ إذ هي قائمة على تقدير الظرف المعيَّن في البلد المعيَّن والاعتماد على ميزان المصالح والمفاسد بواسطة أهل العلم الثقات الصادقين.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان”. عند قوله تعالى )قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز( قال رحمه الله في الفوائد المتحصلة من هذه الآية العظيمة ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، وقد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجمة قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب حسب القدرة والإمكان).
جاء في كتاب “معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية” للشيخ مناع القطان رحمه الله حيث ذكر فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رداً على سؤال: عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس فأجاب رحمه الله قائلاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب (البرلمان) إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله والله الموفق. ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين لما فيه صلاحهم، أما انتخاب غير المسلمين فلا يجوز، لأن ذلك يعني منه الثقة والولاء، وقد قال الله تعالى )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين( والذي يجب عليكم أن تختاروا وتنتخبوا أكثر المرشحين المسلمين جدارة وكفاءة، ومن يتوسم فيه أن يحقق للمسلمين مصالح أكثر، ويدفع عنهم ما استطاع دفعه من المضار، والمسلم وإن كان فيه ما فيه من قصور فهو خير من غير المسلم وإن بدا ناصحاً قال تعالى )ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم( كما أن انتخاب غير المسلم وتقديمه على المسلم هو من جعل السبيل للكافرين على المؤمنين وهو منهي عنه، لقوله سبحانه وتعالى )ولن يجعل الله للكافرين على للمؤمنين سبيلاً(
لكن هذه المسألة من موارد الاجتهاد، فقد تتحقق المصلحة الشرعية في بلد من دخول البرلمانات، ولا تتحقق في بلد آخر فعلى المسلمين في كل بلد الموازنة بين المصالح والمفاسد، وترجيح ما يرونه مناسباً.
ولا يجوز أن يتخذ الخلاف في حكم الانتخابات، ودخول البرلمانات خلافاً في الأصول، فإنها من المسائل الاجتهادية التي ليس في منعها نص قطعي حتى نجعلها من مسائل الأصول مع تفريقنا بين هذه المسألة، وبين حكم النظام الديمقراطي والتعددية الحزبية، فإن هذا النظام لا شك فيه ولا ريب أنه نظام غير إسلامي ومباين لدين الله، ولكن دخول البرلمانات في مثل هذا الوضع يتوقف على جلب المصلحة، ودفع المفسدة كما سبق بيانه.
يجب على المسلمين في البلاد التي لا تحكم الشريعة الإسلامية، أن يبذلوا جهدهم وما يستطيعونه في الحكم بالشريعة الإسلامية، وأن يقوموا بالتكاتف يدا واحدة في مساعدة الحزب الذي يعرف منه أنه سيحكم بالشريعة الإسلامية، وأما مساعدة من ينادي بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية فهذا لا يجوز، بل يؤدي بصاحبه إلى الكفر؛ لقوله تعالى )وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ( )أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ( ولذلك لما بين الله كفر من لم يحكم بالشريعة الإسلامية، حذر من مساعدتهم أو اتخاذهم أولياء، وأمر المؤمنين بالتقوى إن كانوا مؤمنين حقا، فقال تعالى )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(
حكم المشاركة في الانتخابات له حالتان
الحالة الأولى: حين يكون نظام الحكم إسلامياً، قد خضع وانقاد لحكم الله تعالى في قوانينه ولوائحه وأحكامه وأدبياته، وكان المنتخَبون يحملون المواصفات الشرعية لأهل الحل والعقد كالعلم والعدالة والاستقامة والرأي والحكمة وكانوا أهل شوكة في الناس يحلون الأمور ويَعْقدونها، فلا مانع عندئذ من المشاركة في انتخابات هذا وصفها، ولا يوجد فارق مؤثر بينها وبين الاختيار الذي كان يتم في زمن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.
بل المشاركة فيها من إيصال الأمانة التي أمر الله بحفظها وتأديتها إلى أهلها. قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا( ومن الأمانة، اختيار أهل العلم والإيمان وتوسيد الأمر إليهم، ففي مسند أحمد وصحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.
الحالة الثانية: أن يكون نظام الحكم غير إسلامي كالنظام الديموقراطي أو الشيوعي أو غيرهما من الأنظمة الوضعية المنافية للإسلام، ففي هذه الحالة الأصل هو المنع من المشاركة لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة، ومنها: الركون إلى الظالمين وحضور مجالسهم واختلاط الحق بالباطل وعدم ظهور راية أهل الإيمان وتمايزهم عن أهل الكفر والطغيان، والله تعالى قد نهى عن ذلك كله فقال: )وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ( وقال تعالى: )وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً( وقال تعالى: )لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(
ولكن إن رأى العلماء الراسخون أن المشاركة في هذه المجالس النيابية، تقتضيه مصلحة شرعية معتبرة كرفض الباطل أو التخفيف منه أو إظهار الحق أو بعضه دون الموافقة على إقرار باطل أو رد شيء من الحق
فلا مانع منه حينئذ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى(ج20/ص48): ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى .
ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر؛ بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارا، كما قال تعالى: )وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ( وقال تعالى عنه: )يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ + مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ( ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: )فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(
فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة . وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم. وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء،هذا وقد قال النبي r: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك} وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات ، لكون الأهواء قارنت الآراء. ولهذا جاء في الحديث: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات.
فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها – كما بينته فيما تقدم: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية.
[1] سورة يوسف 55
[2] سورة هود 91
[3] تيسير الكريم الرحمن 1/388
[4] رواه الشيخان
[5] سورة المائدة 57
[6] سورة البقرة 221
[7] سورة النساء 141
[8] نقل هذه الفتوى الشيخ مناع خليل القطان رحمه الله تعالى في كتابه (معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية)
[9] لقاءات الباب المفتوح 209
[10] المعجم الجامع لتراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين 1/62