إن التفاؤل متغلغل في نسيج الفكر الإسلامي. لفتت نظري هذه الظاهرة وأنا أتتبع جملة من الأحاديث وشروحها؛ فلقد فهم الشراح الكبار من المتقدمين هذه النزعة الإسلامية، وصاروا يبنون عليها كثيراً من تأويلهم للأقوال والأفعال النبوية. وفي هذا العصر تتعاظم حاجة المسلم للناس من حوله. وتربوياً لا بد من زرع الثقة في العمل ليتقدم خطوة بعد أخرى، كما خُطِّط له.
وهذا مما يساعد كثيراً في إنجاح الخطط، لا سيما بعيدة المدى، وهي التي إن لم تدعم بالثقة وتوطُّد الوشائج بينها وبين الأمل والعمل؛ فإنها كثيراً ما تتعثر، أو تتبعثر.
ومن غرائب اللجوء للتفاؤل في التعليل ما نُقل عن القاضي عياض – رحمه الله – أنه قال في سرِّ نفث القارئ على المريض: إنه قد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض، كانفصال ذلك (الريق) عن الراقي.
ومع غرابة هذا التعليل وربما بُعده أيضاً لكنه يشد من أزري فيما قلته عن إحساس الشُّراح بعمق هذا الأصل التربوي الإسلامي، وشغفهم بتقريره، ولو بَعُد مأخذه.
هذا الأصل تلزمنا العناية به الآن مثل أي وقت مضى من عصور الأمة الحرجة، لما لا يخفى من الطبيعة المشتركة بينها وبين مرحلتنا هذه.
وذكرني هذا بما علل السهيلي به لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر خربت خيبر» من أنه تفاؤل مستوحى من المقام، كما يشير إليه حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى خَيْبَرَ لَيْلاً وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ الْيَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ – يعني الجيش – فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خَرِبَتْ خَيْبَرُ؛ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) رواه البخاري. فانظر لدقة الفهم، وعمق التأويل في قول السهيلي رحمه الله: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى آلات الهدم مع أن لفظ المِسحاة من سَحَوْت إذا قَشَرْت أَخذ منه أن مدينتهم ستَخرب.
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم المزج بين التفاؤل والتخطيط والعمل. ففي خبر مَقْدَمِه عليه الصلاة والسلام للمدينة مهاجراً أنه (نَزَلَ فِي عُلْوِّ الْمَدِينَةِ، فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) كما في البخاري عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهذا تفاؤل له ولدينه بالعلو.
وفي أوقات الأزمات والشدائد تعظم الحاجة لاستحضار الفأل الحسن، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام إذا استسقى بالناس قلب رداءه بعد الخطبة (ثم حوَّل إلى الناس ظهره): ومن الحكمة في ذلك التفاؤلُ بتحوُّله عن الحالة التي كان عليها وهي المواجهة للناس إلى الحالة الأخرى؛ وهي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحالُ الذي هم فيه وهو الجدب بحال آخر وهو الخصب.
لقد جاء الإسلام حاثّاً على الرجاء والأمل، وداعياً إلى التفاؤل الإيجابي الدافع للانطلاقة والعمل من أجل التصحيح والتطوير، بل إن اليأس والقنوط والإحباط والتشاؤم جوانب ليست بداخلة في نسيج التفكير الإسلامي البتة، مهما أحاطت بالمؤمن الشدائد، وادلهمت الخطوب، وغيم الجو وتلبد. ونصوص الشريعة شديدة الصراحة والوضوح في هذا الجانب. قال تعالى على لسان نبيه يعقوب عليه السلام مخاطباً أبناءه ((وَلاَ تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ)) وقال سبحانه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام ((قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ))، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن رجلاً قال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ قال: الشرك بالله، والإياس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله»، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله»
ولذا نجد التفاؤل، والثقة بموعود الله تعالى وحسن الظن به سبحانه أصل راسخ، وسِمَة ثابتة، ومَعْلَم بارز، قوي الحضور في حياة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وشواهد ذلك في السيرة العطرة أكثر من أن تُحصَر، ومن ذلك: حديث خباب بن الأرتّ رضي الله عنه حين جاء بعض الصحابة الكرام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام، وهو متوسِّدٌ بردة له في ظل الكعبة، يستنصرونه، ويشكون إليه الحال، وقد كانوا في فترة يُضرَبون فيها، ويُجوَّعون، ويُعطَّشون، حتى ما يقدر أحدهم أن يستوي جالساً من شدة الضر، فأنكر صلى الله عليه وسلم عليهم استعجالهم الفرج، ووجَّههم إلى الصبر الآمل الفاعل، الذي يستمر صاحبه في المدافعة، ويبادر بجد ونشاط وحزم إلى تجاوز الأزمة، ومواصلة الدعوة والتربية والعمل، والاجتهاد في الأخذ بأسباب النصر والتمكين، مهما اشتدت الوطأة، وعظمت المشقة، وتفاقمت المحنة، وطال زمن الإصلاح والتغيير، قائلاً: «كان الرجل فيمن قبلكم، يُحفَر له في الأرض، فيُجعَل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضَع على رأسه، فيُشَق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. واللهِ ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
وفي طريق الهجرة، وهو صلى الله عليه وسلم طريدٌ مُهْدَر الدم، نجده في غاية الثقة والاطمئنان، فيقول لأبي بكر رضي الله عنه حين قال له وهما مختبئان في الغار: «يا رسول الله! لو أن أحدهم رفع قدمه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، ونجده يخاطب سراقة بن مالك أحد متعقبيه، الطامعين في قتله أو أسره قائلاً له: «كيف بك إذا لبست سوارَيْ كسرى؟».
وفي الخندق، وهو صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم محاصرون في المدينة من الأحزاب، من كل صوب، وأحدهم لا يأمن على نفسه حين يذهب إلى الغائط، ويمكث صلى الله عليه وسلم من الفاقة ثلاثاً بدون طعام مع ضخامة الجهد المبذول في حفر الخندق، ومشقة العمل، وقيامه بترتيب شؤون الناس وإعدادهم للنزال، وحمله همَّ الولوج في معركة فاصلة، تداعى لها الأعداء من كل حدب، وحال المؤمنين كما وصف ربنا تعالى ((إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا))، نجده صلى الله عليه وسلم يبعث الطمأنينة في نفوس أصحابه الكرام، ويعمق ثقتهم بالله تعالى ويستنبت التفاؤل والأمل في دواخلهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أُعطيت مفاتيح الشام … أُعطيت مفاتيح فارس … أُعطيت مفاتيح اليمن» وما ذاك منه صلى الله عليه وسلم إلا إدراك لخطورة الإحباط، والشعور بالخيبة، واعتقاد العجز؛ إذ تُقتَل الإرادة، ويُقضَى على المبادرة، ويُزرَع القلق والجزع، ويحدث الاضطراب والتوتر، ويُحال بين المرء وبين الجد والمثابرة، إضافة إلى ما يتضمنه ذلك من ظن ما لا يليق بالله سبحانه وغير ما يليق بحكمته، ورحمته، ووعده الذي سبق لرسله من أن جنده هم الغالبون، وأن أعداءه هم المخذولون.
وفي المقابل يأتي ذلك إدراكاً منه صلى الله عليه وسلم لعلو كعب الرجاء، وارتفاع منزلة التفاؤل، وضرورة العيش بنفسية آملة، طامحة بالنجاح، ناشدة تحقيق الأهداف، حسنة الظن بالله تعالى واثقة من تنزُّل نصره، وحدوث فَرَجه، وأن الأمر لا يعدو مرحلة استكمال الأمة لما هي مطالبة به من القيام بما عليها من تحقيق متطلبات النصر والابتعاد عن موانع التمكين.
إن الفأل هو الكلمة الصّالحة أو الكلمة الطّيّبة أو الكلمة الحسنة مصداق ذلك ما جاء في الحديث الشّريف من أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل ما الفأل؟ فقال: {الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم} وجاء في حديث أنس رضي اللّه عنه: {أنّ الفأل: الكلمة الحسنة والكلمة الطّيّبة}. ومن ثمّ يكون المراد بالتّفاؤل: انشراح قلب الإنسان وإحسانه الظّنّ، وتوقّع الخير بما يسمعه من الكلم الصّالح أو الحسن أو الطّيّب. ويقابله التطير الذي هو التشاؤم صفة لأهل الكفر؛ قال الله حكاية عن قوم صالح ((قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله)) وقال عن قوم فرعون ((فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله)) وقال عن قوم يس ((إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم))
قال ابن القيّم رحمه اللّه تعالى: التّطيّر إنّما يضرّ من أشفق منه وخاف، وأمّا من لم يبال به ولم يعبأ به شيئا لم يضرّه ألبتّة، ولا سيّما إن قال عند رؤية ما يتطيّر به أو سماعه: اللّهمّ لا طير إلّا طيرك، ولا خير إلّا خيرك، ولا إله غيرك، اللّهمّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت، ولا يذهب بالسّيّئات إلّا أنت، ولا حول ولا قوّة إلّا بك. وذلك لأنّ الطّيرة باب من أبواب الشّرك وإلقاء الشّيطان وتخويفه ووسوسته وهذا يعظم شأنه على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها فتكون إليه أسرع من السّيل إلى منحدره، وتفتّحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه فيفتح له الشّيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللّفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكّد عليه عيشه فإذا سمع كلمة سفرجل، أو أهدي إليه تطيّر به، وقال: سفر وجلاء، وإذا رأى ياسمينا أو أهدي إليه أو سمع اسمه تطيّر به وقال: يأس ومين، وإذا خرج من داره فاستقبله أعور أو أشلّ أو أعمى أو صاحب آفة تطيّر به وتشاءم بيومه، وعلى هذا فإنّ المتطيّر متعب القلب، منكّد الصّدر، كاسف البال سيّء الخلق يتخوّف من كلّ ما يراه ويسمعه فيصير أشدّ النّاس وجلا وأنكدهم عيشا، وأضيقهم صدرا، وأحزنهم قلبا، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظّ ومنعها من رزق وقطع عليها من فائدة. وأمّا من لم يلتفت إليها ولم يلق إليها باله، ولم يشغل نفسه بها ولا فكره، فإنّ ذلك يذهب عنه ويضمحلّ. وقد شفى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أمّته في الطّيرة حيث سئل عنها فقال: «ذلك شيء يجده أحدكم فلا يصدّنّه». قال لبيد الشّاعر:
لعمرك ما تدري الضّوارب بالحصى … ولا زاجرات الطّير ما اللّه صانع
قال الماورديّ رحمه اللّه تعالى: «واعلم أنّه قلّما يخلو من الطّيرة أحد، لا سيّما من عارضته المقادير في إرادته، وصدّه القضاء عن طلبته، فهو يرجو واليأس عليه أغلب، ويأمل والخوف إليه أقرب، فإذا عاقه القضاء، وخانه الرّجاء جعل الطّيرة عذر خيبته، وغفل عن قضاء اللّه- عزّ وجلّ- ومشيئته، فإذا تطيّر أحجم عن الإقدام ويئس من الظّفر، وظنّ أنّ القياس فيه مطّرد، وأنّ العبرة فيه مستمرّة، ثمّ يصير له عادة، فلا ينجح له سعي، ولا يتمّ له قصد.
2ـ وقد وردت في هذه خصلة التفاؤل أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها:
- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، سمع كلمة فأعجبته فقال {أخذنا فألك من فيك}.
- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطّيرة.
- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول {لا طيرة وخيرها الفأل} قيل: يا رسول اللّه. وما الفأل؟ قال: {الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم}
- عن أنس رضي اللّه عنه أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: {لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، والكلمة الطّيّبة}.
- عن بريدة رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، كان لا يتطيّر من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه: فإذا أعجبه اسمه فرح به، ورؤي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه، رؤي كراهية ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإن أعجبه اسمها فرح بها، ورؤي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها، رؤي كراهة ذلك في وجهه.
- عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، سمع نقيضا من فوقه. فرفع رأسه فقال: هذا باب من السّماء فتح اليوم. لم يفتح قطّ إلّا اليوم. فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض. لم ينزل قطّ إلّا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته.
- عن ابن مالك رضي اللّه عنه قال: ليلة أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم، فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك اللّيلة فلم يرهم حتّى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلّموه حتّى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولّاه منهم جبريل فشقّ جبريل ما بين نحره إلى لبّته حتّى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتّى أنقى جوفه ثمّ أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوّا إيمانا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده- يعني عروق حلقه- ثمّ أطبقه ثمّ عرج به إلى السّماء الدّنيا فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السّماء، من هذا؟ فقال جبريل، قالوا ومن معك؟ قال: معي محمّد، قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السّماء لا يعلم أهل السّماء بما يريد اللّه به في الأرض حتّى يعلمهم فوجد في السّماء الدّنيا آدم فقال له جبريل: هذا أبوك فسلّم عليه فسلّم عليه وردّ عليه آدم وقال: مرحبا وأهلا يا بنيّ نعم الابن أنت. فإذا هو في السّماء الدّنيا بنهرين يطّردان، فقال: ما هذان النّهران يا جبريل؟ قال: هذان النّيل والفرات عنصرهما ثمّ مضى به في السّماء فإذا بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده فإذا هو مسك أذفر قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الّذي خبّأ لك ربّك ثمّ عرج إلى السّماء الثّانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى، من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا. ثمّ عرج به إلى السّماء الثّالثة وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثّانية، ثمّ عرج به إلى الرّابعة فقالوا له مثل ذلك، ثمّ عرج به إلى السّماء الخامسة فقالوا مثل ذلك، ثمّ عرج به إلى السّادسة فقالوا له مثل ذلك، ثمّ عرج به إلى السّماء السّابعة فقالوا له مثل ذلك كلّ سماء فيها أنبياء قد سمّاهم فوعيت منهم إدريس في الثّانية وهارون في الرّابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم فى السّادسة وموسى في السّابعة بفضل كلامه للّه، فقال موسى: ربّ لم أظنّ أن ترفع عليّ أحدا ثمّ علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلّا اللّه، حتّى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبّار ربّ العزّة فتدلىّ حتّى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى اللّه فيما أوحى خمسين صلاة على أمّتك كلّ يوم وليلة ثمّ هبط حتّى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال يا محمّد: ماذا عهد إليك ربّك قال عهد إليّ خمسين صلاة كلّ يوم وليلة، قال: إنّ أمّتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفّف عنك ربّك وعنهم فالتفت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جبريل كأنّه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم، إن شئت فعلا به إلى الجبّار، فقال وهو مكانه يا ربّ خفّف عنّا فإنّ أمّتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثمّ رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردّده موسى إلى ربّه حتّى صارت إلى خمس صلوات ثمّ احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمّد، واللّه لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه، فأمّتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفّف عنك ربّك، كلّ ذلك يلتفت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال: يا ربّ إنّ أمّتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفّف عنّا، فقال الجبّار: يا محمّد، قال لبّيك وسعديك، قال: إنّه لا يبدّل القول لديّ كما فرضت عليك في أمّ الكتاب قال فكلّ حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أمّ الكتاب وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفّف عنّا، أعطانا بكلّ حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد واللّه راودت بنى إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربّك فليخفّف عنك أيضا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا موسى، قد واللّه استحييت من ربّى ممّا اختلفت إليه، قال: فاهبط باسم اللّه، قال: واستيقظ وهو في مسجد الحرام»)
4ـ من فوائد (التفاؤل)
- حسن الظّنّ باللّه تعالى.
- يجلب السّعادة إلى النّفس والقلب.
- ترويح للمؤمن وسرور له.
- في الفأل تقوية للعزائم ومعونة على الظّفر وباعث على الجدّ.
في التّفاؤل اقتداء بالسّنّة المطهّرة وأخذ بالأسوة الحسنة حيث كان المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم يتفاءل في حروبه وغزواته