خطب الجمعة

الخواتيم

خطبة يوم الجمعة 28/9/1438 الموافق 23/6/2017

الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً رسول الله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه {الذين عزَّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} أما بعد.

فهذا هو اليوم الثامن والعشرون من رمضان، ونحن في خواتيم الشهر المبارك وقد انقضت أيامه وتصرمت لياليه بما كان فيها من الذكر والقرآن والتضرع والدعاء، أسأل الله تعالى أن يتقبل منا أجمعين، وأن يعيده علينا ونحن في أمن وإيمان وسلامة وإسلام.

أيها المسلمون عباد الله: عندما يصل رمضان إلى نهايته يكون قد أوصل العظة إلى القلوب، فهذا الشهر الذي هو قطعة من أعمارنا، سينتهي العمر كله كما انتهى، وعندها سيفرح أقوام ويندم آخرون، أما الفرحون فهم الذين تناديهم الملائكة عند الموت {ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون* نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون} وأما الخاسر الشقي فذاك الذي ينادي {رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} {رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون( )ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين* ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون* قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} {ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم فيه ما يتذكر من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير}.

إن واجباً على كل منا أن يعمل لتلك الساعة، ويسأل نفسه ترى أي الرجلين أكون؟ هل أكون فرحاً متهللاً مسرورا مستبشرا نضر الوجه كحال من قال {وعجلت إليك رب لترضى}؟ هل أكون من أهل الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة؟ من أهل الوجوه الناضرة التي إلى ربها ناظرة، أم أكون من أهل الوجوه التي عليها غبرة ترهقها قترة، ممن قال الله فيهم {ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة} تلك الساعة التي ينزل به فيها ملك الموت

حسن الخاتمة هو: أن يوفق العبد قبل موته للتقاصي عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، ومما يدل على هذا ا لمعنى ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا أرد الله بعبده خيراً استعمله” قالوا: كيف يستعمله؟ قال: “يوفقه لعمل صالح قبل موته” رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك.

ولحسن الخاتمة علامات: منها ما يعرفه العبد المحتضر عند احتضاره، ومنها ما يظهر للناس.

أما العلامة التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته فهي ما يبشر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلا منه تعالى ، كما قال جل وعلا، {إن الذين قالوا ربنا  الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}. وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وفي قبورهم، وعند بعثهم من قبورهم.

ومما يدل على هذا أيضاً ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من  أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه” فقلت: يا نبي الله ‍ كراهية الموت، فكلنا نكره الموت؟ فقال: “ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه”

وفي معنى هذا الحديث قال الإمام أبو عبيد القاسم بان سلام: “ليس وجهه  عندي كراهة الموت وشدته، لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة، وقال: “ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها}

وقال الخطابي: “معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهية بضد ذلك”

وقال الإمام النووي رحمه الله: “معنى الحديث أن  المحبة والكراهية التي تعتبر شرعاً هي التي تقع عند النزاع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صار إليه”.

أما عن علامات حسن الخاتمة: فهي كثيرة، وقد تتبعها العلماء رحمهم الله باستقراء النصوص الواردة في ذلك ونحن نورد هنا بعضا منها، فمن ذلك:

النطق بالشهادة عند الموت، ودليله ما رواه الحاكم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة”.

ومنها: الموت برشح الجبين، أي: أن يكون على جبينه عرق عند الموت، لما رواه بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “موت المؤمن بعرق الجبين” رواه احمد والترمذي.

ومنها: الموت ليلة الجمعة أو نهاره لقوله صلى الله عليه وسلم “ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر”

ومنها: الاستشهاد في سبيل الله، أو موته بمرض الطاعون أو بداء البطن كالاستسقاء ونحوه، أو موته غرقاً، ودليل ما تقدم ما رواه مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً قليل. قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد”.

ومنها: الموت بسبب الهدم لما رواه البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: “الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله”.

ومن علامات حسن الخاتمة، وهو خاص بالنساء: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها أو هي حامل به، ومن أدلة ذلك ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن الشهداء، فذكر منهم: “والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة” يعني بحبل المشيمة الذي يقطع عنه.

ومنها: الموت بالحرق وذات الجنب، ومن ادلته أنه صلى الله عليه وسلم عدد أصنافاً من الشهداء فذكر منهم الحريق وصاحب ذات الجنب: وهي روم حار بعرض في الغشاء المستبطن للأعلاع. ومنها: الموت بداء السل ، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهادة.

ومنها: الموت رباطاً في سبيل الله ، لما رواه مسلم عنه صلىالله عليه وسلم أنه قال: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي خير من صيام شهر قيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتان”. ومن أسعد الناس بهذا الحديث رجال الأمن وحرس الحدود براً وبحراً وجواً على اختلاف مواقعهم إذا احتسبوا الأجر في ذلك.

ومن علامات حسن الخاتمة الموت على عمل صالح لقوله صلى الله عليه وسلم: “من قال لا إله إلا الله ابتغاء وه الله ختم له بها دخل ا لجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة” رواه الإمام أحمد وغيره.

أسباب حسن الخاتمة:

من أعظمها: أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه، ورأس ذلك وأساسه تحقيق التوحيد والحذر من ارتكاب المحرمات، والمبادرة إلى التوبة مما تلطخ به المرء منها، وأعظم ذلك الشرك كبيره وصغيره.

ومنها: أن يلح المرء في دعاء الله تعالى ان يتوفاه على الإيمان والتقوى.

ومنها: أن يعمل الإنسان جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه، وأن تكون نيته وقصده متوجهة لتحقيق ذلك، فقد جرت سنة الكريم سبحانه أن يوفق طالب الحق إليه، وأن يثبته عليه، وأن يختم له به.

ثانياً: سوء الخاتمة:

أما الخاتمة السيئة فهي: أن تكون وفاة الإنسان وهو معرض عن ربه جل وعلا، مقيم على مساخطه سبحانه، مضيع لما أوجب الله عليه، ولا ريب أن تلك نهاية بئيسة، طالما خافها المتقون، وتضرعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنبهم إياها.

وقد يظهر على بعض المتحضرين علامات أو أحوال تدل على سوء الخاتمة، مثل النكوب عن نطق الشهادة – شهادة أن لا إله إلا الله – ورفض ذلك، ومثل التحدث في سياق الموت بالسيئات والمحرمات وإظهار التعلق بها، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تدل على الإعراض عن دين الله تعالى والتبرم لنزول قضائه.

ولعل من المناسب أن نذكر بعض الأمثلة على ذلك:

ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله (في كتابه الجواب الكافي) أن أحد الناس قيل له وهو في سياق الموت: قل لا إله إلا الله، فقال: وما تغني عني وما عرف أني صليت لله صلاة؟ ولم يقلها.

ونقل الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه (جامع العلوم والحكم) عن أحد العلماء، وهو عبد العزيز بن أبي رواد أنه قال: حضرت رجلاً عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول. ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنها هي التي أوقعته.

ونحو هذا ما ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله ان رجلاً كان يجالس شراب الخمر، فلما حضرته الوفاة جاءه إنسان يلقنه الشهادة فقال له: اشرب واسقني. ثم مات.

وذكر الحافظ الذهبي رحمه الله أيضاً (في كتابه الكبائر) أن رجلاً ممن كانوا يلعبون الشطرنج احتضر، فقيل له: قل لا إله إلا الله ، فقال: شاهك. ثم مات، غلبت على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب ، فقال عوض كلمة التوحيد: شاهك.

ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله عن رجل عرف بحبه للأغاني وترديدها، فلما حضرته الوفاة قيل له: قل لا إله إلا الله ، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاتنا تنتنا.. حتى قضى، ولم ينطق بالتوحيد.

وقال ابن القيم أيضاً: أخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشتر جيد، هذه كذا. حتى قضى ولم ينطق التوحيد. نسأل الله العافية والسلامة من كل ذلك.

وها هنا تعليق للعلاقة ابن القيم رحمه الله نورد ما تيسر منه، حيث عقب على بعض القصص المذكورة آنفاً فقال: “وسبحان الله، كم شاهد الناس من هذا عبراً؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده  من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، وعطل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟ وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد علهي بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته، فإن ذلك آخر العلم، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو ي تلك الحال، فمن ترى يسلم على ذلك؟ فهناك: )يثبت الله الذين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء(

فكيف يوفق بحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره، واتبع هواه، وكان أمره فرطاً. فبعيد من قلبه بعيد عن الله تعالى غافل عنه، متعبد لهواه، أسير لشهواته، لسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته – يعيد أن يوفق للخاتمة بالحسنى”.

وسوء الخاتمة على رتبتين – يعوذ بالله من ذلك:

أما الأولى وهي العظيمة الشنيعة ، فهي أن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله: إما الشك وإما الجحود، فتقبض الروح على تلك الحال وتكون حجاباً بينه وبين الله، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد.

والثانية وهي دونها: أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا أو شهوة من شهواتها المحرمة، فيتمثل له ذلك في قلبه، والمرء يموت على ما عاش عليه ن فإن كان ممن يتعاطون الربا فقد يختم له بذلك، إن كان ممن يتعاطون المحرمات الأخرى من مثل المخدرات والأغاني والتدخين ومشاهدة الصور المحرمة وظلم الناس ونحو ذلك فقد يختم له بذلك إذا كان معه أصل التوحيد فهو محضور بالعذاب والعقاب.

اسباب سوء الخاتمة:

  • وبهذا يعلم أن سوء الخاتمة يرجع لأسباب سابقة يجب الحذر منها:

ومن أعظمها: فساد الاعتقاد، فإن من فسدت عقيدته ظهر عليه أثر ذلك أحوج ما يكون إلى العون والتثبيت من الله تعالى.

ومنها: الإقبال على الدنيا والتعلق بها.

ومنها: العدول عن الاستقامة والإعراض عن الخير والهدى.

ومنها: الإصرار على المعاصي وإلفها، فإن الإنسان إذا ألف شيئاً مدة حياته وأحبه وتعلق به يعود ذكره إليه عند الموت، ويردده حال الاحتضار في كثير من الأحيان.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت، مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء  الخاتمة، قال تعالى: )وكان الشيطان للإنسان خذولاً(

وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها – لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يسمع به، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً، وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على ا لكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة”.

أخي الكريم:

لأجل ذلك كان جديراً بالعاقل أن يحذر من تعلق قلبه بشيء من المحرمات، وجديراً به أن يلزم قلبه ولسانه وجوارحه ذكر الله تعالى ، وأن يحافظ على طاعة الله حيثما كان، من أجل تلك اللحظة التي إن فاتت وخذل فيها شقاوة الأبد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى