1/ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
2/ فإن سورة الكهف عصمة من الفتن وأمان من الزيغ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حفظ عشر آيات من آخر سورة الكهف وقاه الله فتنة الدجال) ومناسبة ذلك أن في هذه السورة خبراً من الله تعالى بأنه قد أنجى أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، فيتفاءل أن ينجيه الله كما أنجى أولئك، وفيها كذلك من العجائب والغرائب ما لو قرأه المؤمن فإنه لا يستغرب ما يأتي به الدجال من عظائم الأمور؛ فإن ربنا جل جلاله قد أجرى لأولئك الفتية من كراماته الباهرة وآياته القاهرة ما يعجب منه المرء حيث ضرب على آذانهم النوم تلك السنوات المتطاولة، {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً} ومنع حر الشمس من أن يصل إليهم، {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} وسخر لهم من مخلوقاته ما يحرسهم ويكلؤهم {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} وكانوا نائمين وأعينهم مفتوحة {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود}
3/ فتنة الدجال هي أعظم فتنة في تاريخ البشر حيث أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال) وبلغ من عظم فتنته أن الله تعالى ما بعث نبياً إلا وأنذر أمته الدجال؛ (إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه، إنه أعور وإن الله ليس بأعور) وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب كافر ) وفي سنن الترمذي وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: (إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ولكني سأقول فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور) وفي سنن ابن ماجة وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” يا أيها الناس، إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض، منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم فتنة من الدجال، وإن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا حذر أمته من الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة “
4/ السر في تسميته بالمسيح الدجال: يقول ابن الأثير: “سمي الدجال مسيحاً، لأن عينه الواحدة ممسوحة، والمسيح: الذي أحد شقي وجهه ممسوح، لا عين له ولا حاجب، فهو فعيل بمعنى مفعول، بخلاف المسيح عيسى ابن مريم، فإنه فعيل بمعنى فاعل، سمي به، لأنه كان يمسح المريض فيبراً بإذن الله، والدجال: الكذاب” وسمي دجالاً – كما يقول ابن حجر – ” لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال: دجل البعير بالقطران إذا غطاه، والإناء بالذهب إذا طلاه..، وقال ابن دريد: سمي الدجال، لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل: لضربه نواحي الأرض،.. وقيل: بل قيل ذلك، لأنه يغطي الأرض”
5/ حال المسلمين في العصر الذي يخرج فيه الدجال: قبيل خروج الدجال يكون للمسلمين شأن كبير، وقوة عظيمة، ويبدو أن خروجه إنما هو للقضاء على تلك القوة، ففي ذلك الوقت يصالح المسلمون الروم، ويغزون جميعاً عدواً مشتركاً فينصرون عليه، ثم تثور الحرب بين المسلمين والصليبين، ففي سنن أبي داود عن ذي مخبر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون، حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة، وزاد بعضهم: “فيثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتتلون فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة”
ويلاحظ أنه يكون في صفوف المسلمين أعداد كبيرة من النصارى الذين أسلموا وحسن إسلامهم، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق فيخرج لهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشأم خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فَأَمَّهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته “
5/ القحط والمجاعة قبل خروج الدجال: يبتلى الناس قبيل خروج الدجال بلاءً شديداً، فتمنع السماء القطر، وتحبس الأرض النبات، ففي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله، فلا تنبت خضراء، فلا يبقى ذات ظلف، إلا هلكت إلا ما شاء الله. قيل: فما يُعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل، والتكبير، والتحميد، ويجزئ ذلك عليهم مجزأة الطعام”
6/ صفات الدجال وعلاماته: يدعي الدجال الربوبية، ويأتي من الأعمال الخارقة ما يروّج به باطله، حتى إن الرجل يأتيه ظاناً أن أمره لن يخفى عليه، وأن باطله لن يروج عليه، فعندما يرى ما عنده من مخاريق يتبعه، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات” وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاً يبرز شخصيته ويحدد معالم جسمه، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الدجال في الرؤيا، وجاء في وصفه له: ” رجل جسيم، أحمر، جعد الرأس، أعور العين، كأن عينه عنبة طافية، … أقرب الناس به شبهاً ابن قطن من خزاعة”
7/ إمكانات الدجال التي تسبب الفتنة: يدعي الدجال الألوهية، ويعطى من الإمكانات أموراً مذهلة تفتن الناس فتنة عظيمة، ومن ذلك:
- سرعة انتقاله في الأرض: ففي حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن إسراع الدجال في الأرض، فقال: “كالغيث استدبرته الريح..” وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيجول في أقطار الأرض ولا يترك بلداً إلا دخله إلا مكة والمدينة، ففي حديث أنس في الصحيحين “ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة” وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم: “وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه، وظهر عليه، إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة”
- جنته وناره: ومما يفتن الدجال به الخلق أن معه ما يشبه الجنة والنار، أو معه ما يشبه نهراً من ماء، ونهراً من نار، وواقع الأمر ليس كما يبدو للناس، فإن الذي يرونه ناراً إنما هو ماء بارد، وحقيقة الذي يرونه ماء بارداً نار. ففي صحيح مسلم عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “معه (أي الدجال) جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار ” وفي صحيحي البخاري ومسلم عن حذيفة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: “إن معه ماءً وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار” زاد في رواية مسلم: “فلا تَهْلِكوا”
- استعانته بالشياطين: لا شك أن للدجال استعانة بالشياطين، ومن المعلوم أن الشياطين لا تخدم إلا من يكون في غاية الإفك والضلال، والعبودية لغير الله، ففي سنن ابن ماجة وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني اتبعه، فإنه ربك”
- استجابة الجماد والحيوان لأمره: ومن فتنته التي يمتحن الله بها عباده أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب، ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فَتَرُوحُ عليهم سارحتُهُم، أطول ما كانت ذرىً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم، فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل”
- قتله ذلك الشاب ثم إحياؤه إياه: ومن فتنته أنه يقتل ذلك المؤمن فيما يظهر للناس ثم يدعي أنه أحياه، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً عن الدجال، فكان فيما يحدثنا أنه قال: “يأتي الدجال – وهو مُحَرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة – فينزل بعض السِّباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خَيْرُ الناس، أو من خَيْر الناس، فيقول: أشهد أنك الدّجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدّجال، أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله، ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدّجال أن يقتله، فلا يسلّط عليه”
8/ مكان خروجه: يخرج الدجال من المشرق، من بلاد فارسية يقال لها: خراسان، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي وابن ماجة والحاكم وأحمد والضياء في المختارة، عن أبي بكر الصديق قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّ الدّجال يخرج من أرض بالشرق، يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرَّقة” ولكن ظهور أمره للمسلمين يكون عندما يصل إلى مكان بين العراق والشام، ففي حديث في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان يرفعه: “إنه خارج خَلّةً بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا” والخلة ما بين البلدين، كما يقول النووي.