خطب الجمعة

السحر

خطبة يوم الجمعة 2/3/1435 الموافق 3/1/2014

1- فلا زالت سورة البقرة تكشف مخازي بني إسرائيل في صدهم عن سبيل الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وسعيهم بالفساد في الأرض، ومعاناتهم من أمراض القلوب في الغش والحسد وتحريف الكلم عن مواضعه والقول على الله بغير علم، مع معاداة الملائكة عليهم السلام وافترائهم الكذب على الله، يفضح الله ما كان منهم من الإعراض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسـلم؛ فيقول سبحانه {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} اطَّرَحَ طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم، مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، أي: تركوها، كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه. ولهذا أرادوا كيْدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسَحَروه في مُشْط ومُشَاقة وجُفّ طَلْعَة ذَكر، تحت راعوثة بئر ذي أروان. وكان الذي تولى ذلك منهم رجل، يقال له: لبيد بن الأعصم، لعنه الله، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها

2- وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع اللهُ إلى سليمان ملكَه، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان، عليه السلام، حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنزل الله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} واتبعوا الشهوات، أي: التي كانت {تتلو الشياطين} وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.

3- لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله، سليمان بن داود، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا، والله ما كان إلا ساحرًا. وأنزل الله فيذلك من قولهم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}

4- وقوله تعالى: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن “ما” نافية، أعني التي في قوله: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال القرطبي: “ما” نافية ومعطوفة على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ثم قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ} أي: السحر {عَلَى الْمَلَكَيْنِ} وذلك أن اليهود -لعنهم الله-كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} بدلا من: {الشياطين} قال: وصح ذلك، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أو يكون لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: تعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.

5- السِّحر من البلاء العظيم الذي شاع خطره في زماننا، وكثر متعاطوه من الرجال والنساء؛ جهلاً منهم بأثره على العقيدة والدين، ورغبة في قضاء حوائجهم من أيسر طريق ـ زعموا ـ ولغياب الوازع الإيماني والرادع السلطاني عمَّت بلواه وعظمت المصيبة به، حتى رأينا رجالاً ونساءً يُظن بهم سدادُ الرأي واستقامةُ الدين يلجأون إلى السِّحرة والمشعوذين كلما سُدَّت في وجوههم الأبواب، وتتابعت في حقهم الصِّعاب، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، أو يمارسون عملاً مشروعاً، ولربما ظنوا ـ وبعضُ الظن إثم ـ أنه حرام حرمة يسيرة!! وما أصدق الكلمة التي قالها الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في بيان حال هؤلاء المفرِّطين الظالمين لأنفسهم والمعتدين على دين الله U بممارستهم هذا العمل القبيح، قال رحمه الله: الساحر لا بد وأن يكفر؛ إذ ليس للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السِّحر إلا ليشرك بالله، وترى خلقاً كثيراً من الضُّلال يدخلون في السِّحر ويظنونه حراماً فقط، وما يشعرون أنه الكفر. الكبائر/14

6ـ ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسـلم في النهي عن تعلم السحر واستعماله فقال عليه الصلاة والسلام “من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه” وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسـلم “ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له” قال ابن عاشور رحمه الله: فكان السحر قرين خباثة نفس، وفساد دين، وشر عمل، وإرعاب وتهويل على الناس؛ من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مروقاً عن طاعة الله تعالى؛ لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين.ا.هــــ

7- ودليل كفر الساحر قوله تعالى {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} وقوله تعالى {ولا يفلح الساحر حيث أتى} والقرآن لا ينفي الفلاح إلا عن الكافر؛ كما دلت على ذلك آية الأنعام وآيتا يونس

8- اختلف العلماء في الساحر هل يقتل بمجرد فعله للسحر واستعماله له أو لا؟ فقال مالك وأحمد: نعم. وروي ذلك عن عمر وعثمان وحفصة وابن عمر وجندب بن عبد الله وقيس بن  سعد وعمر بن عبد العزيز، واستدلوا على ذلك بحديث وآثار وهي:

.ـ عن جندب بن عبد الله البجلي مرفوعاً {حد الساحر ضربة بالسيف} رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف. وقد ضعفه بعض أهل العلم لأنه من رواية إسماعيل بن مسلم المكي وهو مضعَّف من قبل حفظه.

. وعن جُنْدَب بن عبد الله البجلي t قال: قال رسول الله r {إذا أخذتم -يعني الساحر-فاقتلوه} ثم قرأ )وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى( قال: {لا يؤمن به حيث وجد} قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد روى أصله الترمذي موقوفًا ومرفوعًا

ـ روى البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كنت كاتباً لجزء بن معاوية عم الأحنف فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة {أن اقتلوا كل ساحر وساحرة وفرِّقوا بين كل محرم من المجوس} قال: فقتلنا ثلاث سواحر.

. روى مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت.

ـ روى سفيان بن عيينة عن سالم بن الجعد عن ابن دينار أن قيس بن سعد بن عبادة كان أميراً على مصر؛ فكان سره يفشو فشق ذلك عليه وقال: ما هذا؟ فقيل له: إن ها هنا رجلاً ساحراً‼ فبعث إليه فسأله فقال: إنا لا نعلم ما في الكتاب حتى يفتح فإذا فتح علمنا ما فيه فأمر به قيس فقتل.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: والحاصل أنه يجب قتل السحرة سواء قلنا بكفرهم أم لم نقل؛ لأنهم يمرضون ويقتلون، ويفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك بالعكس فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء، ويتوصلون إلى أغراضهم؛ ولأنهم يسعون في الأرض فساداً، وفسادهم من أعظم الفساد؛ كان واجباً على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة، فقتلهم واجب على الإمام، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم؛ لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وفي أرض غيرهم، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم؛ وارتدع الناس عن تعاطي السحر.ا.هـــــ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى