1- قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (لم يكن أحد من الصحابة له مقدرة إلا وَقَفَ) ذكره المناوي في كتاب تيسير الوقوف. وهذه الأوقاف مما اختُص به المسلمون؛ لقول الإمام الشافعي رحمه الله: (لم يحبس أهل الجاهلية – فيما علمته – داراً ولا أرضاً تبرراً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام)، وإلا فقد ورد أنهم كانوا يحبسون؛ ولكن بقصد الفخر والخيلاء؛ بل إن فكرة حبس المال والاستفادة من ريعه معروفة من قديم الزمان وحديثه، وإن لم يسم بالاسم المتعارف عليه عند المسلمين وهو الوقف.
2- الوقف لغة: يطلق على الحبس، كما أنه يطلق على المنع، فأما الوقف بمعنى الحبس فهو مصدر قولك: وقفتُ الدابةَ، ووقفتُ الأرضَ على المساكين، أي جعلتها محبوسة على ما وقفت عليه ليس لأحد تغييرها أو التصرف فيها. وأما الوقف بمعنى المنع فلأن الواقف يمنع التصرف بالموقوف
وأما في اصطلاح الفقهاء، فقد عُرِّف الوقف بتعاريف كثيرة تبعاً لاختلاف المذاهب والأقوال في مسائل الوقف، وأقرب تلك التعاريف لمعنى الوقف ما ذكره ابن قدامة في المقنع بأنه: (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) لكونه مقتبساً من قول أفصح البشر لساناً وأبلغهم بياناً صلى الله عليه وسلم، حينما سأله عمر بن الخطاب عن أرض أصابها بخيبر، فقال له: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)
3- الأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك إجماع الأمة.
أما الكتاب: فقول الله تعالى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} أما السنة: فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، وإنما هي صدقة في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متموِّل فيه)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وأما الإجماع: فقد اشتهر اتفاق الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على الوقف قولاً وفعلاً؛ ومن ذلك قول الصحابي جابر بن عبد الله السابق ذكره، وكذا قول الإمام الشافعي رحمه الله: (بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من الصحابة من الأنصار وقفوا) وذكر الخصاف أن فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وقفوه من عقاراتهم وأموالهم إجماع منهم على أن الوقوف جائزة ماضية.
4- أركان الوقف: أركانه أربعة، هي:
الواقف وهو الحابس للعين، الموقوف: وهي العين المحبوسة، الموقوف عليه وهي الجهة المنتفعة من العين المحبوسة، الصيغة: ويقصد بها لفظ الوقف وما في معناه. وهناك ألفاظ صريحة وألفاظ كناية. أما الألفاظ الصريحة فهي كقولك: وقفت، وحبست، وسبَّلت، وأما ألفاظ الكناية فهي كقولك: صدقة محرمة، أو صدقة محبسة، أو صدقة مؤبدة.
5- أنواع الوقف: ينقسم الوقف باعتبار الجهة الأولى التي وُقِفَ عليها إلى نوعين:
الوقف الأهلي. يُقصد به: وقف المرء على نفسه، ثم على أولاده، ثم على ذريته، ثم على جهة خيرية من بعدهم
الوقف الخيري. وهو الوقف على جهة بر ومعروف، كالمساجد والمدارس والمستشفيات، وسمي وقفاً خيرياً لاقتصار نفعه على المجالات والأهداف الخيرية العامة.
6- الحكمة من مشروعية الوقف: لهذا التشريع حِكَمٌ عظيمة أبرزها: إيجاد مصدر تمويلي دائم لتحقيق مصالح خاصة ومنافع عامة، وعلى أساس هذه الحكمة يمكن وصف الوقف بأنه وعاء يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد تتحقق به مصالح خاصة ومنافع عامة؛ ولا ريب أن هذه الخيرات تكون من أموال المسلمين وممتلكاتهم وأن حصولهم عليها يكون من جهةٍ حلال ومن طيب المال.
7- إن مرحلة الوعي والالتزام بالدين الإسلامي (الصحوة الإسلامية) يترتب عليها عودة كثير من المسلمين إلى طريق الرشد والاستقامة – منهج أهـل السنة والجماعة – هذه المرحلة تدفع كثيراً من المسلمين – المقتدرين – إلى الإنفاق والبذل في جهات البر والخير المختلفة، ومن ثم قيام مؤسسات خيرية منها مؤسسة الوقف، هذه المؤسسات تسعى إلى دعم مجالات التنمية المختلفة، فتبدأ حينئذ حركة البناء والنهضة تظهر وتنتشر في أرجاء المجتمع الإسلامي؛ وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بزوغ فجر الإسلام؛ حيث أوقف صلى الله عليه وسلم الحوائط السبعة في المدينة، وقال عمر بن الخطاب: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا – الصفايا مفردها الصفية، واستصفيت الشيء إذا استخلصته، والصفايا هي ما اختارها الرسول – وكانت بنو النضير حبساً لنوائبه، وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء: جزأين للمسلمين وجزءً كان ينفق منه على أهـله؛ فإن بقي فضلٌ ردَّه على فقراء المهاجرين)
وقال عبد الله بن كعب: حبس المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أولادهم وأولاد أولادهم وذكر الطرابلسي: حبست عائشة رضي الله عنها وأختها أسماء وأم سلمة وأم حبيبة وصفية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحبس سعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وعبد الله بن الزبير وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. وقال الشافعي: وأكثر دور مكة وقف.
8- لقد أثبتت التجربة التاريخية عبر القرون الإسلامية الماضية، الدور الكبير والعطاء المتميز لمؤسسة الوقف في تمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والصحية والمجتمعية، وفي رعاية المساجد والمكتبات،… إلخ، مما ساعد على نمو الحضارة الإسلامية وانتشارها؛ حيث انتشرت بسببها المدارس والمكتبات والأربطة وحِلَق العلم والتأليف، وتحسنت بدعمها الأحوال الصحية للمسلمين وازدهر علم الطب، وأنشئ ما عرف قديماً بالبيمارستانات أو المارستانات (المستشفيات)، إضافة إلى دور هذه المؤسسة في دعم الحركة التجارية والنهضة الزراعية والصناعية وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور.
9- والمتأمل في أساليب الانتفاع الاقتصادي لمؤسسة الوقف في العصور الإسلامية الأولى سيجد أنه شمل أنواعاً مختلفة من مصادر ثروة المجتمع تمثلت في أراض زراعية وحدائق وبساتين إلى مختلف العقارات والدكاكين وأدوات الإنتاج فضلاً عن السفن التجارية والنقود. أما عن الآثار التنموية لمؤسسة الوقف التي تظهر في حياة المجتمع فهناك آثار اقتصادية أبرزها: الأثر على التشغيل والتوظيف وتوزيع الثروة وتشجيع الاستثمارات المحلية، كما أن لها آثاراً اجتماعية، أهمها: تحقيق التكافل الاجتماعي والترابط الأسري، وبناء المساكن للضعفاء، ومساعدة المحتاجين، وتزويج الشباب، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة، وبناء القبور وتجهيز لوازم التغسيل والتكفين للموتى.
إضافة إلى ذلك فإن لهذه المؤسسة الإسلامية العريقة الأثر الواضح في عملية التنمية البشرية التي تعنى ببناء الإنسان بجميع جوانبه (الروحية والعقلية والجسمية)، وذلك من خلال تركز أموال الوقف في بناء المساجد والجوامع (دور العبادة وتركيزها على جانب الروحي)، والمدارس والجامعات والمكتبات وكفالة الدعاة (دور التعليم وتركيزها على جانب العقل)، والمستشفيات والمراكز الصحية (المارستانات أو البيمارستانات) وتركيزها على جانب الجسم.
10- والدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كل الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة. وإن من يقرأ تاريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات (مثل خيول الجهاد) التي لم تعد صالحة للاستعمال؛ فحينئذ تحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليه من هذه الأوقاف … إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا يعاقبن، فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف. كما يشمل الوقف الكثير من أوجه المنفعة للمجتمع؛ إذ يشمل وقف المساجد والحوانيت والأراضي والخانات، ودور العلم والمدارس والمستشفيات، والحبس على المقابر بتوفير الماء واللَّبِن وخلافها، والأوقاف للغرض الحسن، ووقف البيوت الخاصة للفقراء، والسقايات، والمطاعم الشعبية التي يصرف فيها الطعام للفقراء والمحتاجين، ووقف الآبار في الفلوات لسقاية المسافرين والزروع والماشية، ووقف عقارات وأراضٍ زراعية يصرف من ريعها على المجاهدين أو يصرف في حال عجز الدولة على إصلاح القناطر والجسور.
وكثير من الأوقاف كان يصرف ريعه على اللقطاء واليتامى والمقعدين والعجزة والعميان والمجذومين، بل إن الوقف شمل ما حبس ريعه لتزويج الشباب والشابات الذين تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج والمهر، وشمل ما يقدم من حليب وسكر، حتى لقد جعل صلاح الدين الأيوبي في أحد أبواب القلعة بدمشق «ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من السكر والحليب» حسب آليات ذلك الزمان.
ويمكن القول إن معظم دور العلم التي تأسست في القرن الرابع الهجري الذي يصفه آدم ميتز بـ (عصر النهضة في الإسلام) ثم المستشفيات والبيمارستانات والمدارس التي تأسست في العهد السلجوقي وحكم آل زنكي و الأيوبيين في المشرق قامت بشكل أساس على الأوقاف.
ثم إن مئات المؤسسات الاجتماعية والدينية كالجوامع والمدارس والخوانق والرُّبُط والزوايا والتكايا التي يعددها «محمد كرد علي» في مدن بلاد الشام التي يعود بعضها إلى ما قبل العهد العثماني وبعضها الآخر إلى المراحل العثمانية الأولى، إنما نشأت واستمرت بفعل الدعم الذي أمّنته لها مؤسسة الوقف.
ولذلك يعد الوقف خاصية ملازمة للمجتمع الإسلامي عبر تاريخه الطويل، وكان بمثابة الطاقة التي دفعت به نحو النماء والتطور من خلال توفير المعينات المؤدية إلى تكوين مجتمع حضاري، تؤكد على ذلك الشواهد النصية المتناثرة في كتب التاريخ والسجلات والوثائق الخاصة بالأوقاف والمخلفات الآثارية التي توضحها نماذج الأبنية التي شيدت لتكون محوراً لأعمال الوقف من مثل المساجد والمدارس ومكاتب الأيتام والأسبلة والآبار والعيون.
ومن الجدير بالذكر أنه كانت هناك أوقاف غاية في الطرافة والدلالة على سمو العاطفة الإنسانية في المجتمع الإسلامي، لا يعرف لها مثيل في المجتمعات الأخرى، فيما يذكر الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى؛ من ذلك هذه الأوقاف التي كانت بطرابلس لبنان لتوظيف شخصين يمران كل يوم على المرضى في المستشفيات للتسرية عن المرضى، وقد يتعمد هذان الشخصان الحديث بصوت خافت فيما بينهما عن تحسن صحة المريض لمساعدته على البرء إن كان مثل هذا الحديث مفيداً لحالته.
ولم يكن الوقف الأهلي الخاص بذرية الواقف بعيداً عن هذه الأهداف النبيلة؛ حيث كان المنتفعون به في أكثر الأحوال من المحتاجين، كما كان الواجب فيه النص في إنشاء الوقف على انتهائه إلى جهة خير لا تنقطع عند انقراض الذرية الموقوف عليهم.
إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من خلال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت لابن السبيل بناه يأوي إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم فخذها من أحاديث بحصر