فإن الله تعالى قد أخبرنا في كثير من آي كتابه عن أهوال يوم القيامة، وأنه يوم عظيم الخطر عبوس قمطرير، {يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون} {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار؛ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب} {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} {الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيرا} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} {يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
وقد دلَّنا جل جلالـه على سبل الخلاص من تلك الأهوال، وكيف يكون العبد مطمئناً إذا فزع الناس، آمناً إذا خاف الناس، لا يضل ولا يشقى، بل يكون في عيشة راضية. في جنة عالية. قطوفها دانية. ويقال له {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} ويقال له {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}
أيها المسلمون عباد الله: إن بين أيدينا عقبة كئوداً لا يجتازها إلا من قدَّم لنفسه وعمل لآخرته، يقول الله عز وجل: {فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. أولئك أصحاب الميمنة}
1/ فلا اقتحم العقبة: فهلا جاهد نفسه في أعمال البر، أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير، والعقبة جبل في جهنم كما قال ابن عمر، أو هي الصراط المضروب على جهنم كما قال مجاهد والضحاك والكلبي، أو هي النار نفسها
فك رقبة: تخليصها من الرق والعبودية، روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل أرب ـ عضو ـ منها أرباً من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج) وروى أحمد عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من بنى مسجداً ليُذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة) ذي مسغبة: مجاعة
يتيماً ذا مقربة: قرابة في النسب (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه
مسكيناً ذا متربة: فاقة شديدة لصق منها بالتراب
ثم كان من الذين آمنوا: أي ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمن بقلبه محتسب ثواب ذلك عند الله عز وجل كما قال سبحانه {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيُهم مشكوراً} وقال تعالى {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} فشرط قبول الطاعة الإيمان بالله، قال سبحانه في المنافقين {وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} ولما سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان، فقالت: إنه كان يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويفك العاني، ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فهل ينفعه ذلك شيئاً؟ قال: (لا، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. ولو أنه أسلم فإن الله عز وجل يجزيه بما عمل في الجاهلية) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه حين قال: يا رسول الله، إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية، فهل لنا منها شيء؟ قال:(أسلمت على ما أسلفت من خير).
بالمرحمة: بالرحمة فيما بينهم (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (من لا يرحم لا يُرحم) رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه
أصحاب الميمنة: اليمن أو ناحية اليمين
2/ في سبب نزول قوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم} قال مقاتل والكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقال ابن جريج: كان أبو سفيان بن حرب ينحر كل أسبوع جزورين، فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصا، فأنزل الله {أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم} وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل: بل في عمرو بن عائذ المخزومي وقيل: في أبي جهل وقيل: بل في بعض المنافقين.
3/ الأحاديث الثابتة في فضل تنفيس كربات المسلمين، والسعي في تفريج همومهم
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه، حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ} متفقٌ عليه. وفي روايةٍ للبخاري: فشكر الله له، فغفر له، فأدخله الجنة. وفي روايةٍ لهما: {بينما كلبٌ يُطيف بركيةٍ قد كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فاستقت له به، فسقته فغفر لها به} الموق: الخف. ويطيف: يدور حول ركيةٍ وهي البئر.
- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين رواه مسلم. وفي رواية: مر رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة. وفي رواية لهما: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجد غصن شوكٍ على الطريق، فأخره فشكر الله له، فغفر له.