خطب الجمعة

الغش في الطلاق

خطبة يوم الجمعة 22/7/1437 الموافق 29/4/2016

الحمد لله مالك الملك ذي الجلال والإكرام، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الصبور الكريم الشكور، {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور} وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، البشير النذير والسراج المنير، اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صلَّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد. أما بعد.

فقد مضى معنا شيء من الكلام عن الغش في الحياة الاجتماعية وأن كثيراً من الناس لا يؤدي الأمانة التي أمر الله بها وطوقه إياها؛ فمن ذلك ما يكون من تعدٍّ على الحرمات وانتهاك للحدود تحت دعوى الحب والغرام، ومن ذلك ما يقع من خيانة بين الزوجين بعد أن أعفَّهما الله بالحلال يعمد أحدهما إلى الحرام خاصة مع كثرة وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ذلك أن تتشبع المرأة بما لم تعط، ومن ذلك كتم العيب المؤثر الذي يثبت لمن حصل في حقه الغرر أن يفسخ النكاح ويسترد ما أعطى، ومن ذلك كتمان النصيحة، ومن ذلك أن يتزوج الرجل بثانية فيضيع حق الأولى ويهملها ويذرها كالمعلقة فلا هي زوجة ولا هي مطلقة، ولا زال الكلام في هذا الباب أيها المسلمون

إن كثيراً من المسلمين يتزوج على غير السنة ويطلق على غير السنة، ولا يفقه أحكام الله عزَّ وجل في كلا الأمرين، ويحسب كثير منهم أن الحياة الزوجية تسيِّرها الأهواء وتحكمها الرغبات دون نظر إلى ما أحل الله وحرم، ولا يدري هؤلاء أن في القرآن الكريم سورة كاملة تسمى سورة النساء وأخرى تسمى سورة الطلاق، وثالثة تسمى سورة الأحزاب يقول عنها أهل التفسير إنها سورة النساء الصغرى. نقرأ في كل تلك السور أحكاماً وآداباً تتعلق بالحياة الزوجية وما يترتب عليها من حقوق وواجبات.

أيها المسلمون عباد الله: لا بد من التنبيه إلى أن من أعظم أنواع الغش والخيانة في الحياة الاجتماعية أن يسعى الإنسان إلى هدم بيت وتشتيت أسرة وتشريد عيال من أجل شرة من غضب أو نزوة من حب سيطرة أو فرض رأي، أو أن يعمد بعض الناس إلى تخبيب المرأة على زوجها وتبغيضه إليها بكثرة ما يذكر من مثالبه وعيوبه ونقائصه؛ كاشفاً ما أمر الله بستره غافلاً عن قول رسول الله صلى الله علـيه وسلم (لعن الله من خبب امرأة على زوجها) وقوله عليه الصلاة والسلام (ألا أخبركم بشراركم؟) قالوا: بلى يا رسول الله. قال (المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب) وقال (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه: لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله ولو في عقر داره)

أيها المسلمون عباد الله: إن للطلاق أحكاماً وآدابا يحسن الإحاطة بها، ومن ذلك:

أولها: أن الطلاق هو آخر علاج للمشكلات الزوجية؛ فقد شرع الله عز وجل قبل ذلك خطوات لعلاج الخلل الذي يطرأ على الحياة بين الزوجين فقال جل جلالـه {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيرا. وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيرا} وقال سبحانه وتعالى {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وقد روي عن رسول الله صلى الله علـيه وسلم «أَبْغَضُ الْحَلَالِ عِنْدَ اللَّهِ الطَّلَاقُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ فمن الخيانة والغش أن يعمد الرجل إلى فتاة مسلمة من بيت مسلم فيتزوج بها ثم يطلقها لأدنى سبب ومن أقرب طريق

ثانيها: أن بعض النساء قد تعكِّر على زوجها صفوه وتكدر عيشه بكثرة طلب الطلاق لأتفه الأسباب؛ فلا يسمع منها إذا أصبح وإذا أمسى إلا كلمة (طلِّقني) وكأنها ما تزوجت إلا لتطلَّق؛ ويزداد طلبها كلما رأت منه تمسُّكاً بها وحرصاً على صحبتها حتى إذا ما وقع الطلاق قرعت سن ندم، وعضت أصابعها حسرة، ولات ساعة مندم، وهي لا تدري أنها قد عصت ربها وأغضبت سيدها ومولاها جل جلالـه؛ فعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ

ثالثها: أن أغلب الناس يطلق لغير السنة؛ ألا فاعلموا أيها المسلمون أنه لا يجوز طلاق المرأة حال حيضها ولا حال نفاسها ولا في طهر جامعتها فيه؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُر، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ. فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ فَأَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا. وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا، أَوْ يُطَلِّقَهَا عِنْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ

رابعها: أن بعض الناس إذا غاضب امرأته وأراد أن يثبت رجولته فإنه يعمد إلى تطليقها ثلاثاً في مجلس واحد، وبعض النساء قد يبلغ بها طاعة الشيطان إذا طلقها زوجها مرة أن تطالبه بالمزيد حتى يوقعها ثلاثا، وقد كان عمر رضي الله عنه يوقع طلاق الثلاث ثلاثا؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ, وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ, طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرجل كان إذا سأله عن طلاقه امرأته ثلاثاً يقول له: وأما أنت طلقتها ثلاثا. فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. وبانت منك.

خامسها: بعض الناس يجعل الطلاق مضغة في فيه وملعبة في حياته يلوكه في الجليل والحقير من الأمور؛ فتجده يحلف بالطلاق على الطعام والشراب والمدخل والمخرج في الصبح والمساء بكرة وعشيا، ويحسب الأمر هزلا أو لعبا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ». رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

سادسها: بعض الناس موسوس في أمر الطلاق يكثر من السؤال عنه والاستفصال عن أحكامه، ويحسب أنه كلما مر الطلاق أو كلمة الطلاق بخاطره أو وسوست به نفسه أن زوجته قد بانت منه وحرمت عليه، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

سابعها: بعض الرجال يحرم ما أحل الله عز وجل فيعمد إلى تحريم امرأته مشابهاً أهل الجاهلية الذين كانوا يظاهرون من نسائهم تشبيها لهن بالأمهات، وقد قال سبحانه {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} وقال سبحانه {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

ثامنها: بعضهم يستفتي في أمر الطلاق أو يراجع قاضياً، ولا يخبر بحقيقة الأمر بل يعمد إلى الكتمان واستخدام الحيلة، يحسب أنه حين يكتم الطلاق ويجحده أنه بذلك يخادع الله والذين آمنوا

تاسعها: يطلق أحدهم ثم يعمد إلى إخراجها من بيتها الذي يضمها وأولادها وكأنه ما قرأ قوله تعالى {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وكذلك تعمد المرأة إلى الخروج بمجرد حصول الطلاق، وقد أوجب الله على الرجل استبقاء زوجته في بيت الزوجية بعد طلاقها وأوجب على المرأة البقاء؛ تبقى معه في البيت تخدمه وترعاه {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}

عاشرها: من الغش أن يقع طلاق بين زوجين بعد حياة حافلة كان من ثمارها بنون وبنات لا ذنب لهم فيما حصل من خلافات وتعثر للحياة الزوجية بين الأبوين؛ فيعمد الأب من أجل أن ينتقم ممن طلقها أن يدعي الإفلاس والإعسار لئلا ينفق على عياله، ومن أجل أن يلجئ الأم أن تعيش عالة على أهلها أو تمد يدها إلى الناس من أجل أن تطعم صغارها، وهذا من قلة الحياء من الله ومن الظلم الذي لا يترك الله منه شيئا، وقد تعمد الزوجة التي طلقت إلى جرجرة زوجها في المحاكم وقد تستعين بشهود زور من أجل أن تكلفه من النفقة ما لا يطيق وتدَّعي عليه أنه يملك كذا وكذا وهي تعلم أنها كاذبة، لكن من باب الإضرار والمشاقة، وقد قال الله عز وجل {ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير}

أيها المسلمون: إن الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة فقَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَمَكْرُوهًا وَوَاجِبًا وَمَنْدُوبًا وَجَائِزًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيمَا إذَا كَانَ بِدْعِيًّا وَلَهُ صُوَرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيمَا إذَا وَقَعَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِي صُوَرٍ مِنْهَا الشِّقَاقُ إذَا رَأَى ذَلِكَ الْحَكَمَانِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَفِيمَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: فَنَفَاهُ النَّوَوِيُّ وَصَوَّرَهُ غَيْرُهُ بِمَا إذَا كَانَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ مُؤْنَتَهَا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ غَرَضِ الِاسْتِمْتَاعِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُكْرَهُ، انْتَهَى

  1. الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية
  2. الطلاق هو آخر الحلول
  3. بعض النساء تكثر من طلب الطلاق
  4. بعض الرجال يجعل الطلاق مضغة في فيه
  5. كثير منهم يطلق لغير السنة
  6. يوقع طلاق الثلاث في مجلس واحد
  7. يعمد إلى إخراجها من بيتها
  8. يضارها بعدم الإنفاق على أولادها، أو تضاره هي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى