الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته، تنزه عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، البشير النذير، والسراج المنير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونهض بالحجة، ودعا إلى الحق، وحض على الصدق، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين وأصحابه الغر الميامين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد.
بيان قيمة الفرد في الإسلام
فنحن نجد أن الإسلام جعل الفرد هو مناط التكليف ومركزه، لم يخلق الله الإنسان ملكاً مجبولاً على الخير والاستقامة والطاعة، كما أنه لم يخلقه شيطاناً رجيماً متمحضاً للشر والفساد، وإنما جعله إنسانا قابلا للهدى والضلال والخير والشر ولإيمان والفجور: يقول الله تعالى: ((ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها))
ولذلك جعل الله عز وجل الجزاء الأخروي كله منوطاً بالعمل الذي تعمله أنت والشيء الذي تختاره، فالله عز وجل يقول مثلاً فيما يتعلق بالجزاء الأخروي: يقال لأهل الجنة كما قال الله عز وجل: ((أدخلوا الجنة بما كنت تعملون)) ويقول عز وجل: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)) ويقول عز وجل: ((إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)) إذاً كل إنسان مكلف مسئول يوم القيامة ومحاسب وموقوف. يقول الله عز وجل: ((وقفوهم إنهم مسئولون)) الأب لا ينفع ابنه، والابن لا ينفع أباه، والزوج لا ينفع زوجه. يقول الله عز وجل: ((يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون)) من هو المولى؟ القريب، ابن العم، السيد، الزعيم، الحبيب كل هؤلاء بعضهم مولى لبعض. يقول الله عز وجل: ((يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)) ويقول الله عز وجل: ((يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يوم إذ شأن يغنيه)) إذاً الإسلام جعل الجزاء الأخروي فردياً، أنت توقف يوم القيامة للحساب فُرادى. يقول الله عز وجل: ((ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم))
المال والعبيد والأولاد والسلطان والجاه والمنزلة والمكانة، كلها تركتموها وراء ظهوركم، وجئتمونا فرادا حفاة عراة ((كما بدأنا أو خلق نعيده))
فهذه بديهية أيها الأحبة يجب أن تحيا في نفوسنا، الجزاء يوم القيامة جزاء أخروي كل إنسان يوقف بمفرده. المسؤولية فردية.
كذلك الحال بالنسبة للواقع الدنيوي فإن القرآن الكريم صريح وظاهر في أن كل ما يلاقي الناس في هذه الدنيا من خير أو شر فهو يسبب أعمالهم. اسمع قول الله عز وجل مثلا: ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)) كل مصيبة، حتى المصيبة الدنيوية التي تنزل بك فهي بما كسبت يداك. ويقول الله عز وجل لأصحاب رسول صلى الله عليه وآله وسلم حين انهزموا في معركة أحد، وتعجبوا، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يهزمون بزعامة محمد ابن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأمام الطغمة الفاجرة الكافرة من عتاة قريش وفجارها. يهزمون ويقتل منهم من يقتل، وتسيل الدماء ويسقط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حفر أبي عامر الفاسق، ويشج رأسه وتكسر رباعيته وتدخل حلقة المغفر في وجنته الكريمة، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم. تعجبوا، كيف يحدث هذا؟ قالوا: ((أنى هذا)) كيف حدث هذا؟ استغربوا ما كانوا يتصورون أن المؤمن يُهزم أمام الكافر. فقال الله عز وجل: ((أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير)) قل هو من عند أنفسكم، إذا أنتم المسئولون. وأنتم السبب دون غيركم في هذه الهزيمة النكراء التي لم تحسبوا لها حسابا. وكذلك يقول الله عز وجل: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا)). فكل فساد يظهر في البر أو في البحر فهو بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا. حتى حين ينظر الإنسان السطحي المغفل فلا يدرك، فإن العقلاء يدركون أن كل فساد يقع في البر أو البحر أو الجو أيضا فإنه بما كسبت أيدي الناس، وأنه ليس كل العقوبة إنما بعض الذي عملوا، هو مجرد إيماء، تحذير، تنبيه، وخز لعلهم يرجعون.
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {يا معشر المهاجرين خمس خصال إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن.. الحديث ذكر خمس خصال من المصائب والنكبات وعقوبتها في الدنيا. لكن مثلا ذكر عقوبة الزنى، وهي ظهور الطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، الهربس الإيدز إلى غير ذلك من الأمراض الجنسية. ذكر الربا وأنه سبب لأن يبتلى الناس بانحباس المطر عنهم. ذكر ظلم السلاطين إلى غير ذلك من العقوبات التي رتبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعض المعاصي التي يفعلها الناس في هذه الدار.
قضية المسؤولية فيما يقع، مسؤولية من؟ أخطر مشكلة تواجه الأمة هي غفلة الفرد عن قيمته، وعن مسئوليته وظنه أنه شيء وكمٌّ مهمل لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار، وهذه من أخطر الأمراض التي إذا وجدت فتكت بالناس. تأتي إنسان فتقول له مثلا: لماذا تفعل كذا؟ أو يفعل غيرك كذا أو لماذا حدث كذا؟ فيقول أنا مسكين، ليس لي دور، ما بيدي شيء، ما بيدي حل ولا ربط ولا أمر ولا نهي، أنا وجودي كعدمه، أنا صفر على الشمال، ويظل الإنسان يوبخ نفسه بطريقة مهينة حتى لكأنك أمام لا شيء، أو أمام إنسان فقد شعوره بذاته وبإنسانيته، وببشريته، وبتكريم الله تعالى له، فضلا عن شعوره بالمسؤولية التي ألقاها الشرع على كاهله، وعلى كتفه.
ولذلك أيها الأخوة تقول الإحصائيات إن عدد المسلمين الآن ألف مليون، مليار إنسان، وعدد المسلمين يعتبر من أعظم الطوائف أو المجموعات التي تدين بدين سماوي في هذه الدنيا، بل لعلهم يحتلون المركز الأول أو ينافسون عليه.
لكن هذا العدد الكبير، ما مدى انتمائهم إلى هذه الدين وارتباطهم به وشعورهم بهذا الانتساب؟ أم أنها مجرد أرقام رصيد له؟ المشكلة أن الجواب الثاني هو الراجح وأن أكثر المسلمين هم بالصورة التي سوف أتحدث عنها وأشير إلى جوانب منها. في واقع الأمة الإسلامية ضاعت قيمة الفرد في نفسه، وبالتالي ضاعت قيمته في من يتعامل معه. فمثلا إذا كان الإنسان لا يحس بقيمته، فمن باب أولى أن الآخرين لا يحسون بقيمته أيضا. الإنسان إذا كان هو نفسه لا يحس بقيمته، زوجته مثلا لا تحس بقيمته، أولاده لا يحسون بقيمته. المسئول عنه في الدائرة الحكومية لا يحس بقيمته. المسئول عنه في البلد لا يحس بقيمته.
العدو من باب أولى لا يحس بقيمته ولا يحسب له أي حساب.
مثلا الآن تلاحظون أحبتي أن المسلمين إذا نزل بهم مصيبة يسرعون إلى نداء ومخاطبة الأموات، إما على سبيل الجد وإما على سبيل التعبير والكناية والمجاز. فكم من مسلم إذا احترق بيته بدلا من أن يقوم هو بالإطفاء أو ينادي المطافئ تجده يصرخ يا فلان يا عبد القادر يا علي حسين يا فلان يا علان. يريد من هؤلاء الأموات الرفات الذين في قبورهم أن يهبوا من نومهم ليسرعوا بأنابيب المطافئ حتى يطفئوا هذا الحريق الذي يشتعل في بيته. إذا نزلت به مصيبة من مرض أو فقر أو فقد ولد صار ينادي الأموات.
ومن جهة أخرى تجد بعض المسلمين يعبرون بتعبير له دلالته عن شعورهم بالأسف من الواقع بنداء الأموات، مثلا امرأة تقول الشعر وقد لاحظت ما تعانيه الأمة الإسلامية من فقر وتخلف ومرض وجهل وذل إلى غير ذلك. فبدلا من أن تنادي نفسها وتنادي أخواتها ومثيلاتها وتنادي المسلمين كما قالت المسلمة الأولى لما أهينت واضطهدت قالت وامعتصماه، تصرخ بالمعتصم الحاكم في بغداد فيقول المعتصم قد أجبتك، ويجهز جيشا مائة ألف ويذهب لعمورية حتى يفتحها.
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت….. جلودهم قبل نضج التين والعنب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ………عنك المنى حفّلا معسولة الحلب
بدلا من ذك أصبحت تنادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تخاطبه فتقول:
يا مرسلاً جاء للدنيا فأنقذها ….. من البلاء وعافاها من السقم
اذكر لربك أنا أمة جهلت……فقادها الجهل للبأساء والعدم
واحد آخر شاعر بائس خبيث مخبث وهو الشاعر المشهور قباني، له قصيدة في لحظة من لحظات يقظته وانتباهها من السكر الدائم المزمن، قصيدة طويلة جميلة يتكلم فيها عن واقع الأمة الإسلامية وما حل بها من النكبات والمصائب، ويقول ضمن هذه القصيدة:
وقبر خالد في حمص تلامسه……فيرجف القبر من زواره غضبا
يا رُب حي رخام القبر مسكنه ورُب ميت على أقدامه انتصبا
يا ابن الوليد ألا سيف تأجره..……فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا
رجعنا ننادي الأموات، عجزنا عن الأحياء فرجعنا ننادي الأموات، يريد من خالد أن يقوم ليأجره سيفه المسلول الذي انتصر في المعارك الإسلامية. لماذا؟
لأن أسيافنا قد أصبحت خشبا. وأذكر شاعرا آخر كان ينادي صلاح الدين ويقول:
قم يا صلاح الدين طهر أرضنا….من كل معترق ومن ماسوني.
المهم صلاح الدين، وخالد وغير خالد والأموات كلهم لا ينفعون الإنسان شيء، ولا يغنون عنه من الله شيء، ولا يجوز للإنسان أن يدعوهم أو يناديهم. ليس مقصود الآن هو الكلام عن هذه النقطة، لكن مقصودي أن أقول لماذا أصبحنا ننادي الأموات؟ لأن الأحياء فقدنا ثقتنا فيهم، فقدنا شعورنا بقيمة الأحياء في الوقت الذي نشعر فيه بقيمة الأموات، ونعرف ماذا صنع خالد ابن الوليد، ونعرف ماذا صنع صلاح الدين، ونور الدين وعماد الدين ولذلك نناديهم نريد أن يجددوا لنا الأعمال. طيب لماذا لا ننادي محمد وصالح وعلي وأحمد وإبراهيم من الأحياء الذين يعيشون على أقدامهم، لماذا لا نناديهم لأنهم أموات.
يا رُب حي رخام القبر مسكنه ورُب ميت على أقدامه انتصبا
فنحن نشعر بأن لا قيمة لهم لا تأثير، لا يحسون بالمسؤولية فننادي غيرهم. هذه صورة تدلك على عدم شعورنا بالمسؤولية اتجاه هذه الأعمال.
صورة أخرى من صور الغيبوبة التي نعيشها نحن الآن كأفراد، ونعيشها أيضا كأمة، وهي قضية عدم اعتبار المسلمين، وعدم النظر إلى إرادتهم.
كم من موقف أو عقد أو تصرف يفعله إنسان واحد بالنيابة عن الأمة كلها، أو بالنيابة عن قطاع كبير من الأمة جزء من الأمة. لم يأخذ فيه رأي مع أنه أمر مصيري يتحدد بناء عليه أشياء كثيرة. على سبيل المثال قضية الصلح مع اليهود، هذه القضية ليست قضية فرد بعينه، ليست قضية محمد أو صالح أو علي أو أحمد أو فلان، هذه قضية الأمة كلها.
وأذكر في هذه المناسبة مثلا موجود عن بعض الشعوب يقول: (أن المشاكل التي نعانيها صنعها من قبلنا، وسيحلها من بعدنا، أما نحن فأبرياء). إذا نحن ليس لنا من الأمر شيء، صنع لمشاكل التي نجدها ونعانيها ونصطلي بنارها صنعتها أجيال سابقة، ولن نحلها تحن إنما سيحلها الجيل اللاحق. أما نحن فخرجنا لنصبح بين القوسين ليس لنا من أمر شيء، لم نصنع هذه المشكلات، يعني لم نعترف بخطئنا في المشاركة، وبالتالي لم نعترف بدورنا الملقى على عواتقنا بوجوب حل هذه المشكلات أو المساهمة في حلها.
من التحديات قضية المنكرات. المجتمع بلا شك مليء بالمنكرات ظاهرة ومستترة على كافة المستويات: منكرات إعلامية. منكرات اقتصادية. منكرات اجتماعية، إلى غير ذلك من أنواع المنكرات. ولم نأتي نتساءل من المسئول عن إزالة هذه المنكرات؟ لا يوجد أحد إلا من رحم الله يستطيع أن يقول أنا مسئول إلا النادر.
أريتم لو أننا قاطعنا المنكرات، ما الذي يحدث؟ سوف تكسد أسواقها. مثلاً شريط سيئ أو أغنية، مجلة، كتاب، أي بضاعة محرمة لو قاطعناها من يشتريها؟ لا أقول سوف تكسد أو تنقطع عن هذه البلاد بل ستتوقف عن الصدور، فإن كثيراً من المجلات والكتب وغيرها تجد في أسواق هذه البلاد من الرواج والانتشار ما لا تجده في أي بلد آخر. فلو كل واحد منا قاطع هذه الأشياء، مجرد حل سلبي ومشاركة سلبية أنك تقاطع هذه المنكرات لانتهت هذه المنكرات وزالت. بنوك الربا، لو أن كل واحد منا لا يتعاطى الربا، ولا يودع أمواله، ولا يأخذ الفوائد لانتهت.
أمر ثاني حينما ترى منكرا فما دورك؟ تقول ليس لي دور، وأقول والله لا يوجد أحد يا أخواني ليس له دور
إننا نلقي بالمسؤولية على جهات شتى: أولاً القضاء والقدر:
فإذا نظرنا إلى المصائب التي تنزل بالأمة، النكبات واحتلال البلاد، التدمير، المشاكل والتخلف، قلنا هذا بقضاء الله وقدره، وربما يذهب بعضنا إلى أن يستدل بالأحاديث الواردة في آخر الزمان وما ينزل بالمسلمين من الفتن وغربة الإسلام وما أشبه ذلك. طيب القضاء والقدر لم يمنع الكفار من أن يتقدموا بعدما بذلوا الأسباب واستفرغوا الإمكانيات ومشوا في طريق، فما منعهم القضاء والقدر من أن يتقدموا، ويمشوا خطوات، أبدا.
والإنسان هو الذي يصنع واقعه بنفسه، والقضاء والقدر غيب مكتوم لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهو سر لا يعلمه الإنسان، المتخلف المتأخر المقصر ما علم أن هذا قدره حتى نفذهن إنما فعل هذا بنفسه ثم بعدما وقع ما وقع أحتج بالقدر.
مثل ذلك تماماً قضية الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب وعلى المعاصي، فإنك إذا تأتي إنسان عاصي فاسق هو بنفسه يخطو خطوات إلى الرذيلة ويمد يده إلى الحرام، ويفتح فمه للقمة الحرام، ويلبس الحرام، ويركب الحرام، ومع ذلك إذا قلت له يا أخي لماذا؟ قال يا أخي قضاء وقدر. يا سبحان الله، قضاء وقدر! هذا شأن المشركين: ((سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آبائنا ولا حرمنا من شيء)). هكذا. ((وقالوا لو شاء الله ما عبدناهم)). ((وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين أمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)).
أربعة مواضع في القرآن الكريم ذكر الله فيها أن الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب والمعاصي إنما هو شأن الكفار والمشركين. أما المؤمن فيعلم أن القضاء والقدر واقع، وأن كل شيئا بقضاء وقدر لكن يجعل المسؤولية مسئولية نفسه كما قال أبونا عليه الصلاة والسلام لما وقع في المعصية وأكل من الشجرة ما قال قضاء وقدر، بل قال هو وزوجه: ((ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)). ويقول بعض أهل العلم أن من وقع في المعصية فأحتج بالقدر ففيه شبه من إبليس لأن إبليس لما رفض أحتج بالقضاء والقدر. ومن وقع في المعصية فأستغفر وقال ((ربنا ظلمنا أنفسنا)) ففيه شبه من أبيه أدم ومن شابه أباه فما ظلم.
إذا ليس صحيحا أن يخطئ الإنسان فيحتج بالقضاء والقدر، أو يقعد عن العمل فيحتج بالقضاء والقدر، بل الواقع أن القدر غيب من غيب الله تعالى لا يعلمه إلا الله، والإنسان مطالبا بأن يعمل ما ينفعه في عاجل أمره وآجله، في دنياه وأخرته على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.
أما الأمر الثاني الذي نعلق عليه أخطائنا فهو الشيطان:
والشيطان مسلط على بني آدم لا شك، وقد نهانا الله عن أن نتخذه وليا وأمرنا أن نعاديه فقال: ((إن الشيطان لكم عدوا فاتخذوه عدوا)). لكن أيضاً الشيطان لم يكن ليبلغ فينا ما بلغ لو لا أنه وجد عندنا قابلية.
يعني جرثومة الفسق والانحلال والطاعة للشيطان كانت موجودة في نفوسنا، فلما نفث الشيطان وأرسل أشعته المفسدة المضلة وجدت عندنا قابلية وامتصاص في قلوبنا، فأفرزت وأثمرت انحرافا وانحلالا قال عز وجل:
((إنه ليس له سلطان على الذين أمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)). إذا الشيطان لم يكن ليحقق فينا ما يريد لولا أنه وجد عندنا استجابة، ولذلك هو نفسه يوم القيامة يقوم خطيبا بأتباعه: ((وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)). لاحظ الأمور يوم القيامة برحت وانكشفت وبانت، ولم يعد هناك مجال للتلاعب والتحايل واللف والدوران، أصبحت القضية مكشوفة, ((وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم))
أمر ثالث نعلق عليه أخطائنا الظروف والأوضاع لتاريخية الموروثة أو ما نسميه بالزمان: كثيراً ما نتكلم عن الزمن والحال وتغير الزمن وننسى: أن الشمس التي تطلع علينا هي الشمس التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر. وأن القمر الذي يطل علينا هو الذي كان يطل عليهم. وأن الأرض التي نسكنها هي التي سكنوها، والسماء التي تظلنا هي التي أظلتهم. فالأمور لم يتغير بها شيء والكون هو الكون والحياة هي الحياة والأجرام السماوية هيَ هي، والزمان هو هوَ والليل والنهار هما هماَ والأمر كما كان الأمام الشافعي رضي الله عنه يقول:
نعيب زماننا والعيب فينا……..وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجوا الزمان بغير جرم……..ولو نطق الزمان بنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب…… ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
نعيب زمان والعيب فينا، وما الزمان؟
الزمان ليس له حقيقة إلا من خلال وجود إنسان يمر به الوقت فيستخدمه في طاعة أو في معصية في خير أو في شر، في صلاح أو في فساد، ولذلك تلاحظون أن الرسول نهى عن ذلك كما في الحديث القدسي في الصحيحين عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال يقول الله عز وجل: {يؤذيني أبن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار}، وفي رواية {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر}. وليس المقصود أن الدهر أسم من أسماء الله تعالى، كلا وإنما بين صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقوله في ما يرويه عن ربه أن الله تعالى قال: {بيدي الأمر أقلب الليل والنهار}.
الأمر السابع الذي نعلق عليه أخطاءنا هو أننا نلقي باللوم على العلماء: فإذا رأينا ما رأينا قلنا أهل العلم، أو فلان أبن فلان، وقد يستشهد بعضنا بالحديث الذي رواه أبو نعيم عن ابن عباس: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس). تجد أننا نحمل المسؤولية العلماء، وكل ما حصل شيء قلنا فلان الله يهديه، وفلان ما قام بدوره، وفلان ما أدى واجبه، وأحيانا نعمم فنقول أن العلماء لم يقوموا بدورهم ولم يؤدوا واجبهم. ولست أنكر أن العلماء لهم دور أكثر من غيرهم، وهم رواد الأمة وقوادها وزعمائها الذين يجب أن تكون الأمة كلها ورائهم، لكن يجب أن نتفطن هنا أن إلى القضية الخطيرة والخطيرة جدا: قضية دورنا نحن كأفراد، العالم لا يقوم بدوره إلا إذا كان ورائه أفراد كثيرون مثلنا، كما كان يقول الفارس العربي، يقول: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم…..…نطقت ولكن الرماح أجرتي
يقول لو أن خلفي رجال شجعان، أقويا، صناديد لرأيتم كيف تكون بسالتي وشجاعتي ونكايتي في العدو، لكن خلفي أناسا أعرف أنهم أول من ينهزم في المعركة، وأول من يهرب ولذلك تأخرت الرماح فتأخرت أنا. والمشكلة أن العالم أحيانا يكون كالقائد بلا جنود، كما ورد: ( ياله مسعر حرب لو كان معه رجال).
أنت لو رميت هذا الحب مثلا في أرض مبلطة، هل تنتظر أن يثمر؟ لا. الحب قابل لأن ينبت شجرا ولكن بشروط أن يوضع في تربة، ويسقى الماء، ويُتعهد ويُحمى من المؤثرات حتى يثمر، فالعالم بحد ذاته يمكن أن يحدث حركة، نشاط، علم، أمر، نهي، تغيير ولكن بشرط توفر وسائل أخرى وإمكانيات أخرى، بشرط أن يكون ورائه أناس يعرفون قدره، يحفظونه.
أما أن ننتظر من العالم أن يؤدي دوره ونحن ممن يساهم في إسقاطه صباحا مساء، فهذا غير صحيح. كثير منا وخاصة أهل السنة -مع الأسف- أصبحنا من حيث نعي أو لا نعي نقلل من أهمية علمائنا، فإذا جلسنا قلنا مثلا: والله فلانا من العلماء له أرض كذا وله مؤسسة في كذا، وعنده كذا وراتبه سبعين ألف ريال. وإذا كان ذلك كذلك! هل ما هو حلال على غيره أصيح حراما عليه هو؟ من حق العالم أن يستغني، وأن يطلب الدنيا والرزق مما أباح الله له، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وكذا سائر الأنبياء والمرسلين.
وكفا بالعالم فخرا أن يستغني عن الحرام، ويذهب إلى الحلال المباح الذي أحله الله له، ومطلوب منا جميعا ن نساهم في تحريك اقتصاد الأمة الإسلامية بأن يكون لكل فرد من دور.
طيب، أحيانا ما وجدنا للعالم شيء، ووجدنا هذا العالم زاهدا في الدنيا ما عند شيء أبدا، وأعرف بعض أهل العلم يعيشون في بيوت من الطين لا يستطيع الواحد منا أن يجلس فيها ساعة أو ساعتين، ركلوا الدنيا بأقدامهم وجعلوها وراء ظهورهم.