خطب الجمعة

الفتاة الممسوخة

الجمعة 10/5/1426 الموافق 17/6/2005

1ـ ما تقرر في القرآن من أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وأن المصائب التي تنزل بالناس إنما هي جزاء على أعمالهم، يقول الله تعالى )وما أصابكم من مصيبة فبما    كسبت أيديكم ويعفو عن كثير( ويقول I )ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة( ويقول جل جلاله )أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم(

2ـ وقد رتَّب ربنا جل جلاله على الذنوب عقوبات شرعية وعقوبات قدرية، ومن العقوبات القدرية أن الله تعالى قد يمسخ من عصاه ويحوِّل صورته كما فعل ببني إسرائيل الذين اعتدوا في السبت وحاولوا مخادعة الرب I يقول جل من قائل )واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون @ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون @ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون @ فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين( وفي سورة البقرة )ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين( وفي سورة المائدة  )قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل( وقد تهدد ربنا  جل جلاله أهل الكتاب الذين أعرضوا عن دعوة محمد e فقال )يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا(

3ـ هل المسخ سيكون في هذه الأمة؟ اللهم نعم، وفي ذلك نصوص من السنة المطهرة تبيِّن أن الأسباب التي تحصل بها تلك العقوبة من الله تعالى تتلخص في أمرين:

  • أولهما: الإحداث في الدين والابتداع في المعتقد، وفي ذلك ما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما جاءه رجل، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال له: إنه بلغني أنه قد أحدث؛ فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام؛ فإني سمعت رسول الله e يقول {يكون في هذه الأمة أو في أمتي ـ الشك منه ـ خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر} خسف: يقال خُسِف المكان إذا ذهب في الأرض، مسخ: تغيير في الصورة، قذف: رمي بالحجارة كقوم لوط
  • ثانيهما: المعاصي والفسوق، وفي ذلك ما رواه الترمذي عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يكون في آخر الأمة خسف ومسخ وقذف} قالت: قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: {نعم إذا ظهر الخبث} الخبث: فسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً، وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء} فقيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: {إذا كان المغنم دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته، وعقَّ أمه، وبرَّ صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء أو خسفاً ومسخاً} المغنم: أي الغنيمة، دولاً ـ بكسر الدال وضمهاـ جمع دُولة وهو ما يتداول من المال فيكون لقوم دون قوم. أي إذا كان الأغنياء وأصحاب المناصب يستأثرون بحقوق الفقراء، والأمانة مغنماً: أي بأن يذهب الناس بودائع بعضهم وأماناتهم؛ فيتخذونها كالمغانم يغنمونها، والزكاة مغرماً: يشق عليهم أداؤها بحيث يعدُّون إخراجها غرامة، وأطاع الرجل زوجته: أي فيما تأمره وتهواه مخالفاً لأمر الله، وعقَّ أمه: أي خالفها فيما تأمره وتنهاه، وبرَّ صديقه: أي أحسن إليه وأدناه وحباه، وجفا أباه: أي أبعده وأقصاه، وارتفعت الأصوات في المساجد: بنحو الخصومات والمبايعات واللهو واللعب، وكان زعيم القوم: أي المتكفِّل بأمرهم، أرذلهم: الدون الخسيس الرديء، وأُكرم الرجل مخافة شره: أي خشية من تعدي شره إليهم، القيان: الإماء المغنيات جمع قينة، المعازف: الملاهي كالعود والطنبور الواحد، ولعن آخر هذه الأمة أولها: أي اشتغل الخلف بالطعن في السلف الصالحين والأئمة المهديين.

4ـ وإن من أعظم المعاصي التي أدمنها الناس وتتابعوا عليها كبيرهم وصغيرهم سماع المعازف والمغنيات حتى صارت عند أكثرهم من المباحات التي لا نقاش فيها، وما هي بالمباح، روى الإمام البخاري تعليقاً من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم ـ يعني الفقيرـ لحاجة؛ فيقولون: ارجع إلينا غداً فيبيِّتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة} وفي الغناء من المفاسد ما لا يحصيه إلا الله تعالى:

  • أن النبي e سماه بالصوت الأحمق الفاجر؛ أخرج الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه قال: خرج النبي e مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه فوضعه في ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى الناس؟ فقال: إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة} قال الترمذي: حديث حسن
  • ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع.
  • يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه؛ فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب لما بينهما من التضاد؛ فالقرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة الشهوات وأسباب الغي، والغناء يأمر بضد ذلك ويستحسنه
  • قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب. وبنحو هذا قال الأئمة الأربعة: فعن أبي حنيفة: سماعه فسق والتلذذ به كفر، وقال مالك: إنما يفعله الفساق عندنا، وقال الشافعي: لهو يشبه الباطل، وقال أحمد: لا يعجبني ونقل قول مالك رحمهم الله جميعا.
  • قال الشوكاني رحمه الله تعالى: وإذا تقرر جميع ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه، والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال؛ فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف. وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول وأسير بهموم غرامه مكبول.

5ـ والصورة التي نشرت وتداولها الناس لفتاة قيل إنها مسخت لحيوان زاحف بسبب إدمانها سماع الغناء وتعديها على أمها لا ندري صحة ما فيها وما ينبغي لمسلم أن يروجها ولا أن ينشرها، وإيماننا بأنه سيكون في هذه الأمة مسخ لا يتوقف على صحة هذه الصورة؛ لأننا نوقن أن كل ما قاله النبي e حق لا ريب فيه )وما ينطق عن الهوى @ إن هو إلا وحي يوحى( ونشر هذه الصورة يترتب عليه مفاسد منها: أنه قد يكون الأمر كله كذباً فيكون المروج أحد ا لكاذبين، وإذا ثبت كذبها فقد يؤدي ذلك ببعض ضعاف الإيمان إلى الشك في الدين نفسه، ثم إن هذه الصورة قد نشرت في غير المواقع الإسلامية المشهورة التي يثق الناس بأخبارها، والله تعالى يقول )يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا(

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى