الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير، له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور.
1/ الله جل جلاله سمى نفسه القدير، القادر، المقتدر؛ قال الخطابي رحمه الله تعالى: القادر: هو من القدرة على الشيء، يقال: قدر يقدر قدرة فهو قادر وقدير، وفي القرآن الكريم ختمت كثير من الآيات بهذا الاسم الحسن القدير ووصف الله سبحانه نفسه بأنه قادر على كل شيء أراده لا يعترضه عجز ولا فتور.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين: القدير الذي لكمال قدرته: يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً؛ والبر براً والفاجر فاجراً، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره؛ وجعل فرعون وقومه {أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}، ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يعلمه إياه، ولكمال قدرته خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته؛ بل هو في قبضته أين كان، فإن فر منه فإنما يطوي المراحل في يديه، كما قيل:
وكيف يفر المرء عنك بذنبه … إذا كان يطوي في يديك المراحلا
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: القدير: كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد
2/ ورد اسمه سبحانه (القادر) في القرآن الكريم (اثنتي عشرة مرة) (سبع) منها بصيغة المفرد كما في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (وخمس) منها بصيغة الجمع كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} وأما اسمه سبحانه (القدير) فقد ورد في القرآن الكريم (خمسًا وأربعين مرة) منها قوله تبارك وتعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}
وأما اسمه سبحانه (المقتدر) فقد ورد في القرآن (أربع مرات) واحدة منها بصيغة الجمع كما في قوله عز وجل: {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}، وثلاث بصيغة المفرد كما في قوله تبارك وتعالى: {كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}
ويقول الراغب الأصفهاني: “القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما، وإذا وصف بها الله تعالى فهي نفي العجز عنه، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة… بل حقه أن يقال: قادر على كذا.. لأنه لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه، والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه.
3/ وآثار قدرة الله عز وجل لا تعد ولا تحصى؛ فأينما وقع النظر على شيء من خلق الله عز وجل في الآفاق، وفي الأنفس وفي الخوارق والمعجزات رأى قدرة الله عز وجل الباهرة أمامه ومن ذا الذي يحصي ما خلقه الله تعالى.
أولاً: قدرة الله عز وجل على تعذيب خلقه لو شاء {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}
ثانياً: قدرته على تأييد رسله بالمعجزات {قل إن الله قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
ثالثاً: قدرته على بعث الناس يوم القيامة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}
رابعاً: قدرته على نصر عباد المؤمنين {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
خامساً: قدرته على تحويل الخلق طوراً بعد طور {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}
4/ من آثار الإيمان بأسمائه الحسنى (القدير، القادر، المقتدر)
أولاً: صدق التوكل على الله عز وجل والتعلق به وحده والثقة في كفايته في قضاء الحوائج وتفريج الكربات؛ لأنه وحده القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. أما المخلوق الضعيف مهما أوتي من القوة والقدرة والملك فكل ذلك محدود وهو موصوف بالعجز والقصور، والموت والفناء قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}
ثانيًا: الثقة في رحمة الله تعالى وحكمته ولطفه، وذلك إذا رأينا المصائب الفردية أو الكوارث الجماعية وتسلط الأعداء على المسلمين فإيماننا بقدرة الله عز وجل وقهره لكل شيء، وأنه سبحانه قادر على أن يرفع المصائب ويكبت ويقصم الكفرة ثم لا نراه سبحانه يفعل ذلك في وقت من الأوقات فإن هذا يجعلنا نوقن بأن لله تعالى الحكمة في ابتلاء المؤمنين والإملاء للكافرين، وأن في أعطاف ذلك اللطف والرحمة والمصلحة، كما أن في إيماننا بقدرة الله عز وجل المطلقة التي لا يعجزها شيء باب إلى العزة وقوة القلب أمام كيد الكافرين ومكرهم. وذلك لأنهم في قبضة الله تعالى وتحت قدرته وقهره فحينئذ يذهب الخوف من القلوب ويستهان بالكفار وقوتهم مع الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية التي جعلها الله سببًا في تأييده للمؤمنين، وسببًا في محق الكافرين وهذا الشعور كفيل بدفع اليأس والإحباط عن النفوس، كما هو سبب في عدم الاكتراث والهلع من قوة الكافرين.
ثالثًا: الابتعاد عن الظلم بشتى صوره وبخاصة ظلم العباد في دمائهم وأموالهم لهم وأعراضهم؛ لأن الإيمان بقدرة الله تعالى وانتقامه للمظلومين من الظالمين يجعل العبد يرتدع عن الظلم والعدوان، وما أحسن القول المأثور: (إذا دعتك قدرتك إلى ظلم العبد فتذكر قدرة الله عليك).
رابعًا: الإيمان بأن ما أودع الله عز وجل من القدرة والقوة في الإنسان إنما هي من الله عز وجل وإنعامه وفضله، وهذا الشعور يدفع المسلم إلى أن يسخر ما أودع الله فيه من هذه القدرة في طاعة الله عز وجل وفي طريق الخير والإصلاح، ويحذر من توجيه ذلك في معصية الله تعالى وطريق الشر والإفساد.
خامسًا: على المؤمن بقدرة الله عز وجل ألا يغتر بقدرته وقوته، وأن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى فيما ينوبه، وأن يتبرأ من الحول والقوة إلا بالله تعالى، ولذا أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن نقول في أذكارنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ومما ورد فيها: (اللَّهم إني استخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب). وأن نقول حين نصبح وحين نمسي: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا).
5/ اقتران أسمائه سبحانه (القدير) (القادر)، (المقتدر) ببعض أسمائه الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (القدير) باسمه سبحانه (العليم):
سبق بيان وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (العليم) فليرجع إليه.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (المقتدر) باسميه سبحانه (المليك)، (العزيز):
وقد سبق بيان معنى هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (المليك)، واسمه سبحانه (العزيز) فليرجع إليه.
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (القدير) باسمه سبحانه (العفو):
وورد هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} أي: يعفو عن زلات عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره ثم يعاملهم بعفوه التام الصادر عن قدرته.
وفي هذه الآية إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته، وأن الخلق والأمر صادر عنها، وهي مقتضية له. ولهذا يعلل الأحكام بالأسماء الحسنى، كما في هذه الآية. لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك بأن أحالنا على معرفة أسمائه وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص.
والعفو الممدوح هو الذي يصدر عن قادر على الانتقام ثم هو يعفو، وكماله لا يكون إلا من الله تعالى الذي عفوه ومغفرته ناشئان عن قدرته وحكمته لا عن عجز وضعف، ولذا قرن الله عز وجل بين عفوه وقدرته، فهو سبحانه كامل في عفوه وكامل في قدرته وكامل في عفوه مع مقدرته.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (القدير) باسميه سبحانه (الغفور الرحيم) قال الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ووجه الاقتران هنا شبيه بما قبله وذلك أن رحمة الله عز وجل ومغفرته إنما هي عن مقدرة لا عن ضعف، كما أن في اقتران هذه الأسماء الحسنى في ختام هذه الآية مناسبة لمقام الآية؛ وذلك كما يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: “والله قدير على كل شيء، ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال، والله غفور رحيم لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يكبر عليه عيب أن يستره… وفي هذه الآية إشارة إلى إسلام بعض المشركين الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين وقد وقع ذلك ولله الحمد والمنة”.