خطب الجمعة

القناعة

خطبة يوم الجمعة 9/11/1429 الموافق 7/11/2008

  1. فإن المؤمن يعيش في هذه الدنيا راضياً بقضاء الله وقدره، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويعلم أن الله تعالى قسم الأرزاق كما قسم الآجال، وأن رزقه لن يأكله غيره؛ بل آتيه لا محالة، وأن الله تعالى له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، هو على يقين من قول ربه جل جلاله ]وما من دابة إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين( على يقين من قول ربه ]وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم( هو على يقين من الله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب، وأن الرزق مرتبط بالتقوى ]ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب( هذه المعاني تستقر في قلبه فيهنأ عيشه وتطيب حياته وتقر عينه، ويصبح ويمسى وهو راض عن ربه، لم؟ لأن القناعة دثاره وشعاره ولحمته وسداه ودينه وديدنه، فهو بها مغتبط مسرور
  2. يزداد التسخط في الناس وعدم الرضا بما رُزقوا إذا قلّت فيهم القناعة، وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنهم؛ حيث يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تُبصر من هم تحتهم، فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد؛ فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبداً، ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبداً؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كملت له أشياء قصرت عنه أشياء، وإن علا بأمور سفلت به أمور، ويأبى الله I الكمال المطلق لأحد من خلقه كائناً من كان؛ لذا كانت القناعة والرضا من النعم العظيمة والمنح الجليلة التي يُغبط عليها صاحبها؛ عن حكيم بن حزام t قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني؛ ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع. اليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر t يدعو حكيماً إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر t دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. رواه الشيخان
  3. القناعة هي الرضا بما قسم الله جل جلاله من العيش، وما سهل من المعاش، وترك الحرص مع سكون الجأش
  4. أمر الله بالقناعة ومدح أهلها في بعض آي القرآن، ومن ذلك:
  • )للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف(
  • )وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف(
  1. من الأحاديث الواردة في القناعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
  • {طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع} رواه الترمذي عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه
  • {قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه} رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
  • {يا أبا هريرة: كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وأقلَّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب} رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
  • عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو بسبي؛ فقسمه فأعطى أقواماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال {إني أعطي قوماً أخاف ظلعهم وجزعهم، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب} فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم. البخاري
  • عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك، ثم نفض بيده، فقال: عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه} رواه الترمذي
  • عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً؛ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك. رواه الترمذي
  • عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله} رواه الشيخان
  • عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس} رواه الشيخان
  • عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {ما طلعت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان، إنهما يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: أيها الناس، هلموا إلى ربكم؛ فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وما غربت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق خلفاً، وعجل لممسك تلفا} رواه ابن السني
  1. المثل التطبيقي من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القناعة:
  • عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو {اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير} رواه الحاكم
  • عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقينا. رواه الشيخان
  1. من أقوال العلماء في القناعة:
  • عن أبي عمرو الشيباني قال: سأل موسى عليه السلام ربه جل جلاله: أي رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكراً، قال: يا رب، فأي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم بما آتيته. قال: يا رب، فأي عبادك أعدل؟ قال: من دان لنفسه. رواه ابن السني
  • كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه؛ فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى مولاي؛ فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني قنعت.
  1. القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب، وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن يُنافَق المسئول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله I لحصول مرغوب، وليس القانع ذاك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رتب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى
  2.  وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين، ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه، حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض من أجلها، ويرتكب المحرمات من رباً ورشوة وكسب خبيث حفاظاً عليها أو تنمية لها
  3. كم من صاحب مال وفير وخير عظيم رزق القناعة! فلا غَشَّ في تجارته، ولا منع أُجراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضاً وندباً، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتنابٍ للمحرمات؛ إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون، وكم من مستور يجد كفافاً ملأ الطمع قلبه حتى لم يُرضه ما قسم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهماً ولا فلساً
  4. للقناعة عظيمة لا يحصيها إلا الله جل جلاله ومن ذلك:
  • القانع يحبه الله ويحبه الناس، وتعزف نفسه عن حطام الدنيا رغبة فيما عند الله، وهو سعيد النفس بما قسم له من الدنيا
  • وهي سبب الألفة والمحبة بين الناس
  • تعلق القلب بالله جل جلاله حين يعلم العبد أنه تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين يقول ابن مسعود t {إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق}
  • وهي سبب للحياة الطيبة؛ قال تعالى ]من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون( فَسَّر الحياةَ الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن رضي الله عنهم فقالوا: الحياة الطيبة هي القناعة، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه
  • تحقيق شكر المنعم I ذلك أن من قنع برزقه شكر الله تعالى عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط والعياذ بالله ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {كن ورعاً تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس}
  • الفلاح والبُشْرى لمن قنع؛ فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً، وقنع} وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه}
  • الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات كالحسد والغيبة والنميمة والكذب وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالباً ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه {اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع
  • العز في القناعة، والذل في الطمع ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزاً بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعاً {شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس} وكان محمد بن واسع رحمه الله تعالى يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى