الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، أما بعد.
فهذه الأيام من أيام الله عز وجل نذكر فيها نبي الله موسى عليه السلام الذي قام في الدعوة إلى الله عز وجل خير قيام، وواجه جبابرة زمانه ممن طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وقد احتفل القرآن أيما احتفال بهذا النبي الكريم عليه السلام فذكره باسمه مائة وستاً وثلاثين مرة، موزعة على أربع وثلاثين سورة؛ حتى قال بعض السلف (كاد القرآن أن يكون كله لموسى) في سورة الأعراف وحدها إحدى وعشرين مرة، وفي سورة القصص ثماني عشرة مرة، وفي سورة طه سبع عشرة مرة، وفي البقرة ثلاث عشرة مرة، وفي يونس ثماني مرات، وفي الشعراء ثماني مرات، وأما اللئيم فرعون فقد ذكر في القرآن أربعاً وسبعين مرة، وفي قصته من الدروس والعبر والمعاني الإيمانية والقيم الأخلاقية التي ننتفع بها في هذه الأيام المباركة أيام شهر الله المحرم التي نجَّي الله فيها موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه:
أولاً: كراهية الإسلام للظلم والظالمين، والفرح بفشلهم وذهاب ريحهم ودوال دولتهم وزوال شوكتهم؛ قال الله تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} {إن ربك لبالمرصاد} فما أعظم تأييد الله عز وجل لأوليائه وأهل طاعته، وما أعظم انتقامه من أعدائه المكذبين على قوتهم وشدة بطشهم. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ. وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وفي هذا عظة وعبرة لكل ظالم متكبر لا يؤمن بيوم الحساب {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليَّ المصير}
ثانياً: الفرح بنجاة المؤمنين وما يصيبهم من الخير والرخاء والنصر، قال تعالى {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} وقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسـلم لما بُشِّر بمقتل عدو الله أبي جهل بن هشام، وفرح حين بُشِّر بمقتل عدو الله كعب بن الأشرف؛ قال تعالى {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وقد شتم رجل ابن عباس رضي الله عنهما فقال له ابن عباس: (إنك لتشتمني، وفيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل؛ فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه، فأفرح به ولعلِّي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين، فأفرح وما لي به من سائمة) رواه الطبراني في الكبير
ثالثاً: أن بعض الناس قد تغلب عليه شقوته فينسى نفسه، قد يؤتيه الله عز وجل ملكاً أو مالاً أو جمالاً أو جاهاً أو علماً أو حسباً أو قوة؛ فيظن بنفسه الظنون ويتفاخر بما لا يد له فيه، بل هو محض عطاء من الرب الكريم العظيم جل جلالـه؛ كحال فرعون اللئيم الذي نادى في قومه {قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟} وسخر من نبي الله موسى الكليم الذي هو خير من ملء الأرض من أمثال فرعون فقال {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} نسي – لعنه الله – أن الملك كله لله، وأن الله جل جلالـه مالك الملك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} روي أن أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمه الله تعالى قرأ هذه الآية {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} فقال: لعنه الله، ما كان أرقعه!! أي ما أشد خفة عقله، ادعى الربوبية بملك مصر؟! والله لأولينها أخس خدمي. فولى حكم مصر خادماً له اسمه الخصيب، كان يصب له الماء عند الوضوء.
رابعاً: الدعاوى الباطلة التي يستند إليها المبطلون {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} مع أن القرآن يصم فرعون بأنه {كان من المفسدين} وقد سجل القرآن مظاهر فساد حكم فرعون فمن ذلك:
- علوه في الأرض؛ حين رأى نفسه حاكماً فنسي أنه مخلوقٌ عبدٌ عاجز؛ فتكبر وتجبر وعلا وطغا، وانتفش وتبختر، قال سبحانه {إن فرعون علا في الأرض}
- تقسيمه أهل مصر إلى شيع وجماعات وأحزاب مختلفة متعارضة، حرصاً منه على التفريق بينهم، فمنهم المؤيدون له، ومنهم المعارضون {وجعل أهلها شيعا}
- استضعافه طائفة منهم وإهانته وإذلاله لهم {يستضعف طائفة منهم}
- قيامه بقتل طائفة من شعبه تذبيحا {يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم}
هكذا الجبابرة والفراعنة والطواغيت يرمون غيرهم بالفساد وهم أفسد خلق الله، {ويسعون في الأرض والله لا يحب المفسدين} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} وهؤلاء المفسدون غافلون عما أصاب أسلافهم ممن طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}