1ـ الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين؛ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون تشكرون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أما بعد.
فإن المسلم يعبد رباً يعرفه؛ يعرف أسماءه وصفاته ووعده وعيده؛ فإذا قيل له: من تعبد؟ قال: أعبد الله الذي لا إله إلا هو. فإذا قيل له: صف لنا إلهك؟ فإنه يهتدي بنور القرآن فيقول {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} أو يقول {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} أو يقول: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} أو يقول {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم} فإذا آمن بقدرته وعظمته جل جلاله كان على يقين بأنه الحكم المشرِّع، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء، فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. ويؤمن كذلك بأنه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب؛ فينسخ من الأحكام ما شاء ويثبت منها ما شاء، وفق ما يحقق مصالح عباده في المعاش والمعاد.
2ـ والإيمان بصفات الله عز وجل يسهل على المسلم أن ينقاد لشرعه ويستسلم لحكمه؛ كما قال جل جلالـه {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال جل من قائل {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} وقال سبحانه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا}
3ـ فالله جل جلاله قدير قادر مقتدر؛ وقد قال عن نفسه {والله قدير والله غفور رحيم} وقال عز وجل {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} وقال تعالى {وكان الله على كل شيء مقتدراً}، وقال عز وجل {إنَّ المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر}.
فلقدرته جل جلالـه كانت المخلوقات كلها منقادة لإرادته، ونواصيها بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به. فمن قوته واقتداره أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأنه خلق الخلق ثم يميتهم ثم يحييهم ثم إليه يرجعون {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} {وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} ومن آثار قدرته أنك ترى الأرض هامدة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن آثار قدرته ما أوقعه بالأمم المكذبين والكفار الظالمين من أنواع العقوبات وحلول المثلات، وأنه لم يغن عنهم كيدهم ومكرهم ولا جنودهم ولا حصونهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وخصوصاً في هذه الأوقات، فإن هذه القوة الهائلة والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة هذه الأمم هي من إقدَار الله لهم وتعليمه لهم مالم يكونوا يعلمونه، فمن آيات الله أن قواهم وقُدَرَهم ومخترعاتهم لم تغن عنهم شيئاً في صد ما أصابهم من النكبات والعقوبات المهلكة، مع بذل جدهم واجتهادهم في توقي ذلك، ولكن أمر الله غالب، وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي والسفلي.
فبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبّرها، وبقدرته سوّاها وأحكمها، وبقدرته يحي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وبقدرته يقلِّب القلوب ويصرِّفها على ما يشاء الذي إذا أراد شيئاً قال له {كن فيكون} قال الله تعالى {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير}
4ـ وهو سبحانه المالك الملك المليك؛ قال ابن كثير رحمه الله: وهو الله الذي لا إله إلا هو الملك أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا مبالغة ولا مدافعة. وقال ابن القيم رحمه الله: إن حقيقة الملك إنما تتم بالعطاء والمنع، والإكرام والإهانة، والإثابة والعقوبة، والغضب والرضا، والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز، وإذلال من يليق الذل. وقد ورد في القرآن تسميته بهذه الأسماء الثلاثة؛ فمن ذلك قوله تعالى {فتعالى الله الملك الحق} وقوله تعالى {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك} وقوله تعالى {ملك الناس} وورد المالك مرتين، في قوله تعالى {مالك يوم الدين} وقوله تعالى {قل اللهم مالك الملك} وورد المليك مرة واحدة في قوله تعالى {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} ومن آثار الإيمان بهذه الأسماء:
- أن الملك الحقيقي لله وحده لا يشركه فيه أحد، وكل من ملك شيئاً فإنما هو بتمليك الله له، قال صلى الله عليه وسلم {لا مالك إلا الله} فهو سبحانه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء
- هو سبحانه كل يوم هو في شأن يتصرف في ملكوته كيف يشاء؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه {كل يوم هو في شأن} قال: “من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض آخرين” قال تعالى {يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم}
- من لوازم الملك بمعناه الشامل المطلق الذي هو لله وحده، أن يكون قادراً على كل شيء لا يمتنع عليه شيء ولا يعجزه شيء، ولذا فإن من صفات الله جل جلاله التي هي أخص باسم الملك: صفات العدل والقبض والبسط والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال والقهر والحكم ونحوها
- من عبد غير الله تعالى فإنما عبد من لا يملك، قال سبحانه {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون} وقال سبحانه {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم} وقال سبحانه {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} وقال {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}
- من الناس من يطغى ويظن أنه المالك الحقيقي وينسى أنه مستخلف فقط، فيتكبر ويتجبر كما هو صنيع فرعون حين قال {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} وصنيع النمرود حين قال {أنا أحيي وأميت}
- لا يجوز لإنسان أن يتسمى ملك الملوك؛ في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك” قال ابن حجر رحمه الله: ويلتحق به ما كان في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء.ا.هــ قال ابن القيم رحمه الله: وألحق بعض أهل العلم بهذا (قاضي القضاة) وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي بالحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون
- الله سبحانه مالك يوم الدين وملكه {وله الملك يوم ينفخ في الصور} {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} {الملك يومئذ الحق للرحمن} عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يطوي الله جل جلاله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟”
5ـ الله جل جلالـه ينسخ من الأحكام ما يشاء؛ لأن الشرائع جاءت لتحقيق مصالح العباد، كالطبيب الذي يراعي أحوال العليل؛ قال تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: جَائِزٌ نَسْخُ الْأَثْقَلِ إِلَى الْأَخَفِّ، كَنَسْخِ الثُّبُوتِ لِعَشَرَةٍ بِالثُّبُوتِ لِاثْنَيْنِ. وَيَجُوزُ نَسْخُ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ، كَنَسْخِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ بِرَمَضَانَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَةِ الصِّيَامِ. وَيُنْسَخُ الْمِثْلِ بِمِثْلِهِ ثِقَلًا وَخِفَّةً، كَالْقِبْلَةِ. وَيُنْسَخُ الشَّيْءُ لَا إِلَى بَدَلٍ كَصَدَقَةِ النَّجْوَى. وَيُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ. وَالسُّنَّةُ بِالْعِبَارَةِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ يُرَادُ بِهَا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ الْقَطْعِيُّ. وَيُنْسَخُ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَحُذَّاقُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: “لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ” وَهُوَ ظَاهِرُ مَسَائِلِ مَالِكٍ. وَأَبَى ذَلِكَ الشافعي وأبو الفرج المالكي، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلَّ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الْأَسْمَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَلْدَ سَاقِطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى عَنِ الثَّيِّبِ الَّذِي يُرْجَمُ، وَلَا مُسْقِطَ لِذَلِكَ إِلَّا السُّنَّةُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا بَيِّنٌ. وَالْحُذَّاقُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ تُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فَإِنَّ رُجُوعَهُنَّ إِنَّمَا كَانَ بِصُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ.