خطب الجمعة

بنو إسرائيل في سورة البقرة

خطبة يوم الجمعة 2/6/1434 الموافق 12/4/2013

 

ففي سورة القرآن الكريم حديث طويل عن بني إسرائيل، وأطول ما يكون في سورة البقرة التي هي أطول سورة في القرآن، وقد بيَّن ربنا جل جلاله في هذه السورة جملة من خصال هذه الأمة العاصية، وطائفة من صفاتها السيئة، فقرر أنهم جاحدون لنعمة الله، ناقضون لعهد الله، يلبسون الحق بالباطل، كاتمون للحق، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، قد عبدوا العجل وهم ظالمون، وأساؤوا مع الله الأدب حين قالوا لنبيهم {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وأساؤوا مع نبيهم الأدب حين قالوا {أأتتخذنا هزوا} محرفون للكلم عن مواضعه، قد رأوا المعجزات تترى على يد موسى الكليم، فما زادهم ذلك إلا تمرداً وغرورا حتى قالوا {لن نصبر على طعام واحد} فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ثم هم قتلة الأنبياء العصاة الكافرون بآيات الله، المعتدون المتجاوزون حدود الله، المعرضون عن هدى الله الذي آتاهم، الذين يتحايلون على الحرام بأدنى الحيل، وأنهم قساة القلوب قلوبهم كالحجارة بل أشد قسوة، {يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا} أصحاب دعاوى كاذبة وأماني عاطلة حين قالوا {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} وحين زعموا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وحين قالوا {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} وحين قالوا {ليست النصارى على شيء} يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كلما جاءهم {رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون}، {لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون} عنصريون حتى في قضايا الوحي {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم} هم أحرص الناس على حياة {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} يعادون الملائكة المقربين والروح الأمين، كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، نابذون للكتاب، مسيئون للأنبياء، ممارسون للسحر، مطيعون للشيطان، لا يحبون الخير للناس، حاسدون لهم، سفهاء يلقون الشبهات حين يقولون {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} يعلمون أنه الحق من ربهم، لكنهم معاندون {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، لكنهم يكتمون الحق وهم يعلمون

يتوجه النداء الرباني إلى هذه الأمة المتمردة {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} ثلاثة أوامر من الله لهم:

أولها: {اذكروا نعمتي} فَجَّر لهم الماء من الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون. جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب، وجعل منهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، فلم يقابلوا ذلك بالشكر بل بالكفر، إن الله تعالى جدير بأن يذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، نعمه على العباد لا تعد ولا تحصى، أسبغها عليهم ظاهرة وباطنة، لكن قليلاً من عباده الشكور، وأكثرهم جحود كفور

ثانيها: الوفاء بعهده جل جلاله بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ليوفي لهم بعهده فلا يعذب بالنار من مات لا يشرك به شيئا، الوفاء بعهده يتضمن إنفاذ ما أخذه عليهم من المواثيق {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} وهذه الآية دالة  على قاعدة شرعية عظيمة وهي أن الجزاء من جنس العمل، وقد وردت الأدلة الشرعية الكثيرة التي ترشد إلى هذه القاعدة وتؤكد عليها في مثل قوله تعالى )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ! وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً( وقوله تعالى )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) وقوله تعالى (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وقوله (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ( وقال تعالى )فاذكروني أذكركم( وقال )إن تنصروا الله ينصركم( وقال )وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم( وقال سبحانه )من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ^ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون( وقال سبحانه )من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب( وقال سبحانه )من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورا ^ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا(  والآيات التي تدل على هذه القاعدة ـ أن الجزاء من جنس العمل ـ كثيرة. سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى ما سبق قوله صلى الله عليه وسلم {احفظ الله يحفظك…} الحديث. وقوله : {اعمل ما شئت فإنك مجزي به} وقوله r {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه} وقوله صلى الله عليه وسلم {من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} وقوله صلى الله عليه وسلم {من تتبع عورة امرئ مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره} وقصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدعوا الله بصالح أعمالهم فاستجاب لهم، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حافظ عليها كان له عندَ الله عهدٌ أنْ يُدخِلَه الجنَّة} وفي حديثٍ آخرَ {من حافظ عليهنَّ كُنَّ له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة}  وقوله صلى الله عليه وسلم {الصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك} ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا {أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ، سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عري، كساه الله من خضر الجنة} خرجه الترمذي، وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال {يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأنصب ما كانوا قط، فمن كسا لله جل جلاله كساه الله، ومن أطعم لله جل جلاله أطعمه الله، ومن سقى لله جل جلاله سقاه الله، ومن عفى لله جل جلاله أعفاه الله} وخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا {أن رجلاً من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار، فيناديه رجل من أهل النار، يا فلان، هل تعرفني؟ فيقول: لا والله ما أعرفك، من أنت؟ فيقول: أنا الذي مررت بي في دار الدنيا، فاستسقيتني شربة من ماء، فسقيتك، قال: قد عرفت، قال: فاشفع لي بها عند ربك، قال: فيسأل الله U، ويقول: شفعني فيه، فيأمر به، فيخرجه من النار}

ثالثها: خشية الله عز وجل والرهبة منه جل جلاله، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم “اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى} وقد قال {ثلاث درجات، وثلاث كفارات، وثلاث منجيات، وثلاث مهلكات؛ فأما الدرجات فإطعام الطعام، وصلة الأرحام، والصلاة بالليل والناس نيام، وأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات، وحث الخطى إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما المنجيات فخشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، وأما المهلكات، فشح مطاع وهوى متبع ودنيا مؤثرة}

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى