خطب الجمعة

تحريم الحيل

خطبة يوم الجمعة 14/11/1434 الموافق 20/9/2013

1ـ علاقة المسلم بربه قائمة على الإخلاص والتقوى، وأنه يعبد رباً عليماً حكيماً خبيرا، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلا في كتاب مبين، يعبد رباً يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؛ فلا يخادع ولا يخاتل، ولا ينافق ولا يناور، بل السر والعلانية سواء، والمدخل والمخرج واحد، والمظهر والمخبر متفقان، أما المنافق فإنه يظهر خلاف ما يبطن ويسر غير ما يعلن ويعمل غير الذي يقول {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}

2- وقد ذم ربنا جل جلالـه في كتابه الكريم قوماً تحايلوا عليه وأرادوا أن يخدعوه فكان جزاؤهم أن مسخهم الله قردة خاسئين، وجعلهم سلفاً ومثلاً للآخرين؛ يقول تعالى في قصة أصحاب السبت {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} فمن هم الذين اعتدوا في السبت؟ وما خبرهم؟ ولماذا أعاد القرآن القصة في غير موضع؟ إن الله تعالى فصل الله خبرهم في سورة الأعراف فقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، وخلاصة هذه القصة ما ذكره المفسرون سلفاً وخلفاً أن الله أمر اليهود أن يكون عيدهم الجمعة من كل أسبوع على ما هو ثابت في شريعتنا فأبوا إلا السبت فأجيبوا إلى ما طلبوا وأمروا أن يتفرغوا فيه للعبادة وحرَّم الله عليهم صيد السمك فيه، ثم ابتلاهم الله سبحانه فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً، ظاهرة على وجه الماء فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت الذي بعده وهكذا كما قال الله تعالى {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} وقد مكثوا مدة لا يصيدونها في ذلك اليوم كما أمرهم الله، ثم اشتهتها أنفسهم فاحتالوا للاصطياد في السبت بصورة الاصطياد في غيره بشتى الحيل التي ظاهرها الامتثال وباطنها التمرد والعصيان، حتى إذا فشا فيهم ذلك المنكر علانية نصحهم أحبارهم ورهبانهم وأبلغوا في النصح فلم يقبلوا منهم فانقسم هؤلاء الناصحون إلى فرقتين: فرقة كفت عن النهي لعلمها بحال القوم ويأسها من هدايتهم، وفرقة استمرت على نهيهم وتذكيرهم حماسة في دين الله وحرصاً على هداية المعتدين حتى قالت لهم الطائفة التي نهت وكفت عن النهي {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} وهو سؤال استفسار فأجابت الطائفة التي استمرت على التذكير بما حكاه الله عنها {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ومع ذلك لم يجدهم التذكير نفعاً واستمروا على الاعتداء {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} وهم الطائفتان التي نصحت وكفت والتي نصحت ولم تكف عن النصح: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وذلك العذاب البئيس هو مسخهم قردة‼ فانظر رحمك الله إلى حيل اليهود وخداعهم فهذا دال على أن الأعمال بمقاصدها وحقائقها دون صورها وظواهرها، ودال على أن كل حيلة يترتب عليها العبث بفرع من فروع الشريعة فضلا عن أصل من أصولها محرمة أشد التحريم، وأن صاحبها معرض لأن يعاقب بمثل هذه العقوبة الشنيعة ولهذا قال تعالى في قصتهم مهدداً كل من يأتي بعدهم ويتبع آثارهم {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي جعلنا هذه المسخة الشنيعة التي مسخناهم إياها عقوبة لما تقدمها من ذنوبهم التي واقعوها، ولما يأتي بعدها من أمثال ذنوبهم أن يعمل بها عامل فَيُمْسَخ كما مسخوا، وموعظة للمتقين إلى يوم القيامة. ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب ما فعلته اليهود من استحلال محارم الله بالحيل. لما سئل عن شحوم الميتة وذكروا فوائدها قال “لا، هو حرام، قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه”

3- فما هي الحيل وما أنواعها وما أحكامها؟ قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: “والحيلة ما يتوصل بها إلى حالة ما في خفية وكذا الحويلة وأكثر استعماها فيما في تعاطيه خبث وقد تستعمل فيما فيه حكمة.. تطلق الحيلة في عرف الفقهاء والمحدثين غالباً على الحيل المذمومة شرعاً وهى الطرق والوسائل الخفية التي تستحل بها المحارم وتسقط بها الواجبات ظاهراً، وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو أو لآدمي فهي من هذا القبيل، كحيل اليهود التي من أجلها لعنهم الله تعالى

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: “وإذا قسمت الحيلة باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها، فالأكل وما شابهه والسفر الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المقصود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم إلى مباح ومحظور، فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب وترك المحرم وتخليص الحق ونصر المظلوم وقهر الظالم وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات وَلمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ” غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم، وكما يذم الناس أرباب الحيل فإنهم يذمون أيضا العاجز الذي لا حيلة له لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه، فالأول ماكر مخادع، والثاني عاجز مفرط، والممدوح غيرهما وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيها وظاهرها فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها، وهذه كانت حال سادات الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا أَبرَّ الناس قلوباً، وأعلم الناس بطرق الشر ووجوه الخداع، وأتقى لله من أن يرتكبوا منها شيئاً، أو يدخلوه في الدين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ” لست بخب ولا يخدعني الخبُّ “، وكان حذيفة أعلم الناس بالشر والفتن، وكان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكان هو يسأله عن الشر، والقلب السليم ليس هو الجاهل بالشر الذي لا يعرفه بل الذي يعرفه ولا يريده بل يريد الخير والبر.ا.هـــــــ

4- وهذه الحيل لا ينتظمها حكم واحد بل منها الجائز والممنوع؛ ضابط الحيلة الجائزة، والحيلة الممنوعة أن يقال: الحيل الجائزة: كل طريق مشروع يترتب على سلوكه تحقيق مقاصد الشارع من فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه وإقامة الحق وقمع الباطل فهذا جائز مشروع. والحيل غير الجائزة: كل طريق يترتب عليه إبطال مقاصد الشارع أو العبث بها من إسقاط للواجبات وارتكاب للمحرمات وقلب الحق باطلا والباطل حقا فهذا محظور يذم فاعله ومعلمه. وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسـلم وأصحابه بعض تلك الحيل؛ المعاريض التي يقصد بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة فإن فيها مندوحة عن الكذب وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه، فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: أحياء اليمن كثير فلعلهم منهم وانصرفوا، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: احملني فقال: ما عندي إلا ولد الناقة فقال: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل يلد الإبلَ إلا النوقُ؟ وكقول الخليل: “هذه أختي”، وقول الصديق: “هادٍ يهديني السبيل”، وقد رأت امرأة عبد الله بن رواحة عبد الله على جارية له، فذهبت وجاءت بسكين فصادفته وقد قضى حاجته، فقالت: لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوجأتك فأنكر، فقالت: فاقرأ إن كنت صادقاً فقال:

شهدت بأن وعد الله حق … وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف … وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة كرام … ملائكة الإله مسومينا

فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم ينكر عليه

5- أما الحيل المحظورة فهي ما كان المقصود منها محرماً محظوراً وهذا القسم يتنوع إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن تكون الحيلة محرمة في نفسها كالاحتيال على فسخ النكاح بالردة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها محرماً في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، وذلك كالحيل على أخذ أموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وإبطال حقوقهم وإفساد ذات البين، وهي من جنس حيل الشياطين على إغواء بني آدم بكل طريق، وهم يتحيلون عليهم ليوقعوهم في واحدة من ستة ولابد، فيتحيلون عليهم بكل طريق أن يوقعوهم في الكفر والنفاق على اختلاف أنواعه، فإذا عملت حيلهم في ذلك قرت عيونهم، فإن عجزت حيلهم عن من صحت فطرته وتلاها شاهد الإيمان من ربه بالوحي الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم أعملوا الحيلة في إلقائه في البدعة على اختلاف أنواعها وقبول القلب لها وتهيئته واستعداده فإن تمت حيلهم كان ذلك أحب إليهم من المعصية وإن كانت كبيرة، ثم ينظرون في حال من استجاب لهم إلى البدعة فإن كان مطاعا في الناس أمروه بالزهد والتعبد ومحاسن الأخلاق والشيم، ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومن لا علم عنده بالسنة، وإن لم يكن كذلك جعلوا بدعته عوناً له على ظلمه أهل السنة وأذاهم والنيل منهم وزينوا له إن هذا انتصار لما هم عليه من الحق، فإن أعجزتهم هذه الحيلة ومنَّ الله على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقوه في الكبائر وزينوا له فعلها بكل طريق وقالوا له أنت على السنة وفساق أهل السنة أولياء الله وعبَّاد أهل البدعة أعداء الله، وقبور فساق أهل السنة روضة من رياض الجنة وقبور عبَّاد أهل البدعة حفرة من حفر النار، والتمسك بالسنة يكفر الكبائر كما أن مخالفة السنة تحبط الحسنات وأهل السنة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم، وأهل السنة هم الذين أحسنوا الظن بربهم إذ وصفوه بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوه بكل كمال وجلال، ونزهوه عن كل نقص، والله تعالى عند ظن عبده به، وأهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظن السوء، إذ يعطلونه عن صفات كماله وينزهونه عنها، وإذا عطلوه عنها لزم اتصافه بأضدادها ضرورة ولهذا قال الله تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العلم ببعض الجزيئات {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وأخبر عن الظانين بالله ظن السوء أن عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعَدَّ لهم جهنم وساءت مصيرا فلم يتوعد بالعقاب أحداً عظم ممن ظن به ظن السوء، وأنت لا تظن به ظن السوء فمالك وللعقاب، وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وصلة لهم وحيلة إلى الاستهانة بالكبائر وأخذه إلا من نفسه.

وهذه حيلة لا ينجو منها إلا الراسخ في العلم، العارف بأسماء الله وصفاته فإنه كلما كان بالله أعرف كان له أشد خشية وكلما كان به أجهل كان أشد غروراً به وأقل خشية. فإن أعجزتهم هذه الحيلة وعظم وقار الله في قلب العبد هوَّنوا عليه الصغائر وقالوا له أنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن وربما منَّوه أنه إذا تاب منها – كبائر كانت أو صغائر- كتبت له مكان كل سيئة حسنة. فيقولون له كثِّر منها ما استطعت ثم أربح مكان كل سيئه حسنة بالتوبة، ولو قبل الموت بساعة، فإن أعجزتهم هذه الحيلة وخلص الله عبده منها نقلوه إلى الفضول من أنواع المباحات والتوسع فيها، وقالوا له قد كان لداود مائة امرأة إلا واحدة ثم أراد تكميلها بالمائة، وكان لسليمان ابنه مائة امرأة، وكان للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان من الأموال ما هو معروف وكان لعبد الله بن المبارك والليث بن سعد من الدنيا وسعة المال ما لا يجهل وينسوه ما كان لهؤلاء من الفضل، وأنهم لم ينقطعوا عن الله بدنياهم، بل ساروا إليه فكانت طريقا لهم إلى الله، فإن أعجزتهم هذه الحيلة- بأن تفتح بصيرة قلب العبد حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما أعده الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته فأخذ حذره وتأهب للقاء ربه … واستقصر مدة هذه الحياة الدنيا وحياته الدنيوية في جنب الحياة الباقية الدائمة- نقلوه إلى الطاعات المفضولة الصغيرة ليشغلوه بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب فيعمل حيلته في تركه كل طاعة كبيرة إلى ما هو دونها، فيعمل حيلته في تفويت الفضيلة عليه، فإن أعجزتهم هذه الحيلة – وهيهات – لم يبق لهم إلا حيلة واحدة وهي تسليط أهل الباطل والبدع والظلمة عليه يؤذونه وينفرون الناس عنه، ويمنعوهم من الاقتداء به ليفوتوا عليه مصلحة الدعوة إلى الله- وعليهم مصلحة الإجابة.ا.هــــــــــــــــــــ

النوع الثاني: من أقسام الحيل: أن تكون الحيلة مباحة تفضي إلى المقصود المحظور كما تفضي إلى غيره من المقاصد الحسنة كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس التي حرم الله. ومثل من يسافر إلى الخارج لكي يرتكب محارم الله تعالى، فيصير السفر حراما تحريماً قطعياً ونظيره كثير.

النوع الثالث: أن تكون الحيلة مباحة شرعت لغير هذا المقصود المحظور، فيتخذها المحتال وسيلة إليه، ومن أمثلة ذلك الفرار من الزكاة ببيع النصاب أو هبته أو استبداله قبيل حولان الحول، وهذا النوع هو محل الاشتباه وموضع الزلل وهو المقصود الأول لنا من الكلام على الحيل المحرمة، وهذا النوع من الحيل على عدة أضرب:

الضرب الأول: الاحتيال لحل ما هو حرام في الحال كالحيل الربوية، وحيلة التحليل، والحيل الربوية نوعان:

1- أن يضم العاقدان في العقد المحرم إلى العوضين أو إلى أحدهما عوضاً ليس بمقصود ليتخلصا به من التحريم ظاهراً، مثل أن يتعاقدا على بيع ربوي بجنسه متفاضلا ولأجل أن يتخلصا من التحريم في زعمهما يضمان إلى العوضين أو إلى أحدهما شيئاً آخر من غير الجنس، كأن يتعاقدا على بيع ألف دينار بألفي دينار ثم يضمان إلى كل من العوضين أو إلى أحدهما ثوباً أو منديلاً لا غرض فيه لواحد منهما إلا أن يتخلصا من حرمة الربا ظاهراً، فمتى كان المقصود بيع ربوي بجنسه متفاضلاً حرمت المسألة عند مالك والشافعي وأحمد ومتقدمي الكوفيين وهو الذي تدل عليه السنة.

2- أن يضم العاقدان إلى العقد المحرم عقداً ليس بمقصود ليتخلصا به من التحريم أيضاً في زعمهما ومثاله أن يتواطآ على أن يقرضه ألفاً بألف ومائتين، ولأجل أن يتخلصا من التحريم بزعمهما يبيعه المقرض سلعة لا غرض للمقترض فيها بألف ومائتين إلى أجل ثم يبيع المقترض هذه السلعة بعينها إلى المقرض بألف حالة، أو يبيعها المقترض لثالث أجنبي قد فهم غرضهما بألف حالة، ثم يبيعها الثالث للمقترض بنفس الثمن وهو الألف، فآل ذلك في الصورتين إلى أن أقرضه ألفاً حالة ليردها إليه بعد الأجل ألفاً ومائتين ولكن في قالب تصرف جائز ظاهرا.

الضرب الثاني: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه وهو صائر إلى التحريم كما إذا علق الطلاق بشرط كدخولها الدار مثلا، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط، فخالعها لتدخل الدار وهي على غير عصمته فلا يقع الطلاق بعد ذلك إذا عادت إليه بعقد جديد ودخلت الدار، لأن التعليق غير قائم حينئذٍ.

الضرب الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدين الواجب، بأن يملك ماله لزوجته أو ولده فيصير معسراً فلا يجب عليه الانفاق ولا أداء الدين، وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه، فيسافر ولا غرض له من السفر سوى الفطر.

الضرب الرابع: الاحتيال على إسقاط سبب وجود ما لم يجب، ولكنه صائر إلى الوجوب فيحتال حتى يمنع الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة قبيل الحول بتمليكه ماله لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك، وكالاحتيال على إسقاط حق الشفعة التي شرعت دفعاً للضرر عن الشريك أو الجار قبل وجوبها، فإن السبب قائم وهو الشركة أو الجوار ولكنه لا يقتضي حكمه إلا بالشرط وهو البيع فالبيع هنا كحولان الحول في الزكاة فيعمد المحتال إلى إزالة الشرط بحيلة ليمنع اقتضاء السبب حكمه.

وقول ربنا جل جلاله {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} دل على تحريم الحيل الآتية:

1- أن تقول المطلقة حضت وهي لم تحض، لتذهب بحق الزوج في الرجعة.

2- أن تقول المطلقة لم أحض وهي قد حاضت، لِتُلْزمه من النفقة ما لا يلزمه كما هو شائع في عصرنا، أو لتُغْر الزوج بالمهلة، في الرجعة حتى تنقضي العدة فينقطع حقه فيها.

3- وكذلك يحرم عَلى الحامل أن تكتم الحمل لتُغْر الزوج بانفساح أمد المراجعة حتى تلد فيتعذر عليه مراجعتها.

4- كما يحرم عليها أيضاً أن تكتم الحمل لتلحق الولد بغيره، كما كان الأمر قبل الإسلام، قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى