خطب الجمعة

توبة آدم عليه السلام

خطبة يوم الجمعة 19/4/1434 الموافق 1/3/2013

فإن الله تعالى يقول {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} حصلت من آدم عليه السلام المخالفة ووقع في المعصية كما قال سبحانه {وعصى آدم ربه فغوى} وقال سبحانه {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} لكن ماذا فعل آدم عليه السلام؟ هل تمرد على ربه؟ هل أعلن الطغيان والتحدي؟ هل سدر في غيه؟ هل تمادى في عصيانه؟ اللهم لا، بل أعلن الرجوع وجأر إلى الله بالتوبة ومعه حواء عليهما السلام {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} قال أهل التفسير: لما أكلا من الشجرة وبدت لهما سوآتهما انطلق آدم عليه السلام في الجنة يشتد فقال الله له: أفراراً يا آدم؟ قال: بل حياء يا رب.

فتلقى: أي قبل وفهم وفطن، كلمات: {ظلمنا أنفسنا} اعترف بظلم نفسه، فكل معصية للرب فهي ظلم للنفس؛ كما قال موسى حين قتل الرجل من قوم فرعون {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له} ومثلما قال يونس {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} ومثلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في صلاة الليل قال “ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت” وعلمنا صلى الله عليه وسلم أن سيد الاستغفار أن يقول العبد: “اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”  وعلَّم أبا بكر رضي الله عنه أن يقول في ختام صلاته: “اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم”

والتوبة أيها المسلمون هي صفة الأنبياء والصالحين فهذا إبراهيم عليه السلام يقول في مناجاته لربه بعد رفعه القواعد من البيت {ربنا واجعل مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} وهذا موسى عليه السلام لما جاء لميقات ربه وكلمه سأل ربه الرؤية وكان الجواب {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}

وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم «ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر هداي إليّ، وانصرني على من بغى عليّ، اللّهمّ اجعلني لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، لك مطواعا، إليك مخبتا أو منيبا، ربّ تقبّل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبّت حجّتي، واهد قلبي وسدّد لساني، واسلل سخيمة قلبي»

قال الله تعالى: {إنه هو التواب الرحيم} وتوبته نوعان: توفيقه أولاً ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا. قال تعالى {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم} الرَّحِيمِ بعباده، ومن رحمته بهم، أن وفقهم للتوبة، وعفا عنهم وصفح.

وهكذا نحن معشر بني آدم جبلنا على العصيان والوقوع في المخالفة، لكن الله تعالى ربنا وخالقنا وهو أعلم بحالنا فتح لنا باب التوبة واسعاً لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها؛ مهما بلغت ذنوب العبد كثرة، مهما أدمن المعصية، مهما تمادى في الخطأ؛ فإن للتوبة باباً مفتوحاً؛ فما هي التوبة أيها المسلمون عباد الله؟ هي ترك الذّنب لقبحه والنّدم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة.

وهي نوعان: هي نوعان: توبة الإنابة وتوبة الاستجابة، فتوبة الإنابة أن تخاف من اللّه من أجل قدرته عليك، وتوبة الاستجابة أن تستحي من اللّه لقربه منك، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}

وهي واجبة من كل ذنب وشروط قبولها خمسة: أن تكون خالصة لله، وأن تقلع عن الذنب، وأن تندم على ما فات، وأن تعزم على عدم العود، وأن ترد الحقوق إلى أهلها. قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: التوبة تجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، والعزم على الترك بالجنان، وهجرة سيء الإخوان.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكثير من النّاس لا يستحضر عند التّوبة إلّا بعض المعاصي المتّصفات بالفاحشة أو مقدّماتها أو بعض الظّلم باللّسان أو اليد، وقد يكون ما تركه من المأمور الّذي يجب عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضرراً عليه ممّا فعله من بعض الفواحش؛ فإنّ ما أمر اللّه به من حقائق الإيمان الّتي بها يصير العبد من المؤمنين حقّا أعظم نفعا من نفع ترك بعض الذّنوب الظّاهرة، كحبّ اللّه ورسوله، فإنّ هذا أعظم الحسنات الفعليّة. والنّاس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامّة مع حاجتهم إلى ذلك؛ فإنّ التّوبة واجبة على كلّ عبد في كلّ حال، لأنّه دائما يظهر له ما فرّط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب دائما.

ومن رحمته جل جلاله أنه لا يمحو السيئات وحسب بل يبدلها حسنات كما قال سبحانه {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} وفي الحديث عن أبي طويل شطب الممدود رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: أرأيت من عمل الذّنوب كلّها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلّا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ قال: «فهل أسلمت». قال: أمّا أنا فأشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه، قال: «تفعل الخيرات وتترك السّيّئات فيجعلهنّ اللّه لك خيرات كلّهنّ» قال: وغدراتي وفجراتي. قال: «نعم» قال: اللّه أكبر فما زال يكبّر حتّى توارى. رواه البزار والطبراني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى