جهود السلف في حفظ السنة
ثانياً: جهود السلف في حفظ السنة وضبطها:
بذل أئمة الإسلام جهوداً عظيمة في حفظ السنة وتنقيحها، وحمايتها من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وقد تمثلت جهودهم في مسائل عديدة، أذكر منها: 1- حفظ السنّة: اهتم السلف الصالح بحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وإتقانه، وجعلوا ذلك شرطاً من شروط الرواية، حتى قال عبد الرحمن بن مهدي: (يحرم على الرجل أن يروي حديثاً في أمر الدين حتى يتقنه ويحفظه كالآية من القرآن، وكاسم الرجل).
وقد سطر أئمة الحديث أروع الأمثلة في هذا الباب، وأتوا بما يبهر الإنسان ويعجزه، ومن علامات ذلك:
(أ) غزارة الحفظ: تميّز بعض الأئمة بكثرة محفوظاتهم وتنوعها، وهناك أمثلة كثيرة جداً على ذلك، وقد جمع الذهبي تراجم هؤلاء الحفاظ في كتابيه: (سير أعلام النبلاء) و(تذكرة الحفاظ) وذكر عجائب من علومهم وأحوالهم، ومن أمثلة هذا الباب:
المثال الأول: حفظ الإمام أحمد: كان الإمام أحمد واسع الحفظ، جمع حديثاً كثيراً، حتى قال أبو زرعة: (كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل: ما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذتُ عليه الأبواب).
المثال الثاني: حفظ الإمام إسحاق بن راهويه: قال أبو داود الخفّاف: (سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لكأني أنظر إلى مئة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفاً أسردها) قال: (وأملى علينا إسحاق أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قرأها علينا، فما زاد حرفاً، ولا نقص حرفاً). قال علي بن خشرم: (كان إسحاق بن راهويه يملي سبعين ألف حديث حفظاً).
المثال الثالث: حفظ الإمام عبد الرحمن بن مهدي: قال القواريري: (أملى عليّ عبد الرحمن بن مهدي عشرين ألف حديث حفظاً).
المثال الرابع: حفظ الإمام الحميدي: قال الإمام الشافعي: (ما رأيت صاحب بلغم أحفظ من الحميدي، كان يحفظ لسفيان بن عيينة عشرة آلاف حديث).
ب- قوة الحفظ ودقته: على الرغم من كثرة محفوظات الأئمة وتنوعها، إلا أنهم تميزوا بقوة الحافظة، والرعاية الشديدة لمحفوظاتهم، حتى قال الأعمش: (كان هذا العلم عند أقوام كان أحدهم لأن يخرّ من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واواً أو ألفاً أو دالاً). ولهذا كان الإمام مالك يتحفظ من الباء والتاء والثاء، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأمثلة على قوّة الحفظ ودقته:
المثال الأول: قوة حفظ الإمام الزهري: جمع الإمام الزهري علماً عظيماً، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره، مع قوة وإتقان، فقد قال عن نفسه: (ما استعدت حديثاً قط، وما شككت في حديث إلا حديثاً واحداً فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت).
وقد أراد هشام بن عبد الملك أن يمتحنه، فسأله أن يملي على بعض ولده أربعمائة حديث، وخرج الزهري، فقال: أين أنتم يا أصحاب الحديث؟ فحدثهم بتلك الأربعمائة، ثم لقي هشاماً بعد شهر أو نحوه، فقال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فدعا بكاتب فأملاها عليه، ثم قابل بالكتاب الأول فما غادر حرفاً واحداً).
المثال الثاني: قوة حفظ قتادة بن دعامة: قال الإمام أحمد: (كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئاً إلا حفظه، قرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها).
وقال معمر: (رأيت قتادة قال لابن أبي عروبة: أمسك عليّ المصحف، فقرأ البقرة، فلم يخطئ حرفاً، فقال: يا أبا النضر، لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة).
ولهذا قال قتادة عن نفسه: (ما قلتُ لمحدث قط أَعِدْ عليّ، وما سمعت أذناي شيئاً إلا وعاه قلبي).
المثال الثالث: قوة حفظ الإمام أحمد: كان الإمام أحمد آية في الحفظ والإتقان، على الرغم من كثرة محفوظاته، حتى قال ابن المديني: (ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل).
ومن شدة إتقانه أنه كان يقول لابنه عبد الله: (خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك عن الكلام).
المثال الرابع: قوة حفظ ابن أبي شيبة: قال عمرو الفلاس: (ما رأيت أحداً أحفظ للحديث من ابن أبي شيبة، قدم علينا مع ابن المديني، فسرد للشيباني أربعمائة حديث حفظاً وقام). ولهذا قال الخطيب البغدادي: (كان متقنا حافظاً مكثراً). وقال الذهبي: (كان بحراً من بحور العلم، وبه يضرب المثل في قوة الحفظ).
المثال الخامس: قوة حفظ الإمام البخاري: قال محمد بن حاتم: (قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب قال: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ قال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكُتّاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، وقال يوماً فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: يا أبا فلان، إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج وقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم كتابه، فقال: صدقت، فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة).
وقصة البخاري لمّا قلبت عليه عشرة أحاديث بأسانيدها ومتونها لامتحانه، فأعادها عليهم، ثم ساقها على وجهها الصحيح، قصة عجيبة تدل على إمامته في هذا العلم، وقدرته العظيمة على الحفظ والاستيعاب).
2- جمع السنّة وتدوينها: حرص العلماء على سماع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقيه عن أئمته من الصحابة والتابعين، ثم حرصوا على جمعه وتدوينه وكتابته، وقد مرّ ذلك بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: جمع السنة في أواخر القرن الأول: لعل من أوائل المحاولات لجمع السنة: ما قام به عبد العزيز بن مروان، حيث كتب إلى كثير بن مرة وكان قد أدرك بحمص سبعين بدرياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثهم، إلا حديث أبي هريرة، فإنّه عندنا). ولما جاء بعده ابنه عمر بن عبد العزيز حرص على جمع السنة، وسلك في ذلك طريقين: الأول: كتب إلى أبي بكر ابن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم).
الثاني: أمر الزهري بجمع السنة، حيث قال الزهري: (أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً). ولهذا قال الترمذي: (هو واضع علم الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز، مخافة ضياعه بضياع أهله).
المرحلة الثانية: تدوين السنة في منتصف القرن الثاني: قال الذهبي: (لم ينتصف القرن الثاني حتى نشطت حركة تدوين الحديث، وكان من سبق إليها من رجال هذا القرن: ابن جريج المكي، وابن إسحاق، ومعمر بن راشد، وسعيد بن أبي عروبة، وربيع بن صبيح، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وابن المبارك، ثم تتابع الناس).
وقال ابن حجر: (ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لمّا انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار).
المرحلة الثالثة: تصنيف السنّة في القرن الثالث: في بدايات القرن الثالث أخذ التصنيف دوراً جديداً، فظهرت المصنفات: كمصنف عبد الرزاق [ت211هـ] وابن أبي شيبة [235هـ]، والمسانيد: كمسانيد الحميدي [ت219هـ]، وأحمد [ت241هـ]، والدارمي [ت هـ]، والجوامع: كجامع البخاري [ت 256هـ]، وجامع مسلم [ت261هـ]، وجامع الترمذي [ت279هـ]، والسنن: كسنن أبي داود [ت 275هـ]، وابن ماجه [ت 273هـ]، والنسائي [ت303 هـ].
وبهذا نتبين أن أئمة السنة بذلوا جهداً عظيماً في جمع السنة وتبويبها، وتركوا لنا تراثاً غزيراً في عشرات المصنفات والدواوين، حتى أصبحت هذه الأمة تمتلك بحق أغنى تراث عرفته البشرية، فاللهم لك الحمد والمنة على هذه النعمة العظيمة.
3- علم الإسناد: لمّا ظهرت الفتن في أواخر الخلافة الراشدة، بدأ الأئمة في البحث عن الأسانيد، والنظر في مصادر الروايات، حتى لا يدخل في هذا العلم من ليس من أهله، قال ابن سيرين: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: (سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع ولا يؤخذ حديثهم).
والإسناد خصّيصة من خصائص هذه الأمة، تروى به الأحاديث، وتعرف به الطرق، ولهذا تتابع اهتمام الأئمة بالأسانيد، وأصبح الحديث بلا إسناد لا قيمة له، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).
وقال ابن حبان: (ولو لم يكن الإسناد وطلب هذه الطائفة له، لظهر في هذه الأمة من تبديل الدين ما ظهر في سائر الأمم؛ وذاك أنه لم تكن أمة لنبي صلى الله عليه وسلم قط حفظت عليه الدين عن التبديل ما حفظت هذه الأمة، حتى لا يتهيأ أن يزاد في سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف ولا واو، كما لا يتهيأ زيادة مثله في القرآن. فحفظت هذه الطائفة السنن على المسلمين، وكثرت عنايتهم بأمر الدين، ولولاهم لقال من شاء بما شاء).
4- التفتيش في الأسانيد ومنازل الرواة: كان من ثمرات علم الإسناد: اهتمام العلماء في وقت مبكر جداً بدراسة أحوال الرواة ومراتبهم، من حيث العدالة والضبط، ومن حيث صحة طرق التحمل والأداء، من حيث تواريخهم وأشياخهم وتلاميذهم…. ونحو ذلك، وسمي هذا العلم فيما بعد بـ: (علم الجرح والتعديل).
وعلم الجرح والتعديل من العلوم الجليلة التي كانت سبباً رئيساً من أسباب حفظ الدين، والذبّ عن سنة سيد المرسلين، ولهذا قال ابن خلاد ليحيى القطان: (أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟! قال يحيى: لأن يكونوا خصماء لي أحب إليّ من أن خصمي المصطفى إذ لم أذبّ عن حديثه وشريعته).
وقد اعتنى أئمة الحديث بعلم الرجال عناية فائقة، حتى عده ابن المديني: (نصف علم الحديث).
ولهذا صنفت مصنفات خاصة في هذا العلم، ورتب فيه الرواة من حيث القوة والضعف، وبين فيه الذي تقبل روايته من الذي ترد، ولهذا اشترط الأئمة في الناقد المتكلم في الرجال جرحاً وتعديلاً أن يكون بصيراً بأحوال الرجال، واسع الاطلاع على الأخبار، خبيراً بالحديث وعلله، ويجب أن يتحلى بالأمانة والورع، وبالفطنة والنباهة، عنده ملكة نقدية راسخة تعينه على تفهم دقائق العلل وخفايا المسائل.
5- إرساء قواعد الرواية وأصولها: لَمّا توسعت الرواية، وكثر النّقَلَة، اهتم علماء الحديث بتقعيد قواعد الرواية، وبيّنوا أصولها وضوابطها بياناً تفصيلياً، وسمي هذا العلم فيما بعد ب: (علم مصطلح الحديث)، وكان من أوائل من كتب فيه: الإمام الشافعي في أجزاء متفرقة من كتبه، وخاصة كتابه الرسالة، ثم تلميذه عبد الله الحميدي، ثم كتب الإمام مسلم شيئاً من قوانين الرواية في مقدمة صحيحه، وكتابه التمييز، وكذلك الترمذي في العلل الصغير.
وفي منتصف القرن الرابع ألف الرامهرمزي كتابه الجليل: (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي).
ثم تتابعت المؤلفات، وكثرت المصنفات من المطولات والمختصرات.
ومن أشهر قواعد الرواية التي سأشير إليها في هذه المقالة: أنّ أئمة الحديث وضعوا شروطاً خمسة للرواية الصحيحة التي يعتمد عليها، وهي على سبيل الاختصار: الشرط الأول: اتصال الإسناد، وسلامته من الانقطاع.
فكلّ راوٍ لا بد أن يكون قد سمعه ممّن هو فوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويعرف الاتصال عادة بمعرفة تواريخ الرواة، ومواليدهم، ووفياتهم، ورحلاتهم، وأسماء شيوخهم وتلاميذهم، ومتى وأين وكيف تم تتلمذهم على بعضهم.
وهكذا، ولهذا قال سفيان الثوري: (لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ).
ومراجعة كتب الجرح والتعديل وتواريخ الرجال والبلدان، تبين الجهد العظيم الذي بذله الأئمة في تسجيل كل شاردة وواردة في وتواريخ الرجال وسيرهم.
الشرط الثاني: عدالة الرواة في جميع طبقات السند.
ويعرف المحدثون العدالة بأنها: (ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة).
والعدل هو: كل مسلم مميّز سليم من أسباب الفسق وخوارم المروءة.
ولهذا قال عبد الله بن المبارك: (العدل من كان فيه خمس خصال: يشهد الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب (أي: النبيذ)، ولا تكون في دينه خربة، ولا يكذب، ولا يكون في عقله شيء).
الشرط الثالث: ضبط الرواة في جميع الطبقات: والراوي الضابط: هو الذي يكون متيقظاً غير مغفّل، حافظاً إن حدّث من حفظه، ضابطاً لكتابه من التبديل والتغيير إن حدث من كتابه، عالماً بمداخل المعنى إن روى بالمعنى.
ويعرف الراوي بدراسة مروياته، وعرضها على مرويات الآخرين.
ولهذا اهتم الأئمة بتتبع الطرق وجمعها، ودراسة أحوال الرواة في أزمان مختلفة من أعمارهم، لمعرفة التغيرات التي قد تطرأ على محفوظاتهم، وبذلوا في ذلك جهداً عظيماً، حتى إنهم لذمتهم وشديد عنايتهم يميزون الخطأ اليسير النادر في أحاديث الثقات، ويعرفون الصحيح النادر في أحاديث الضعفاء.
وكان بعض النقاد يمتحن الرواة ويتأكد من محفوظاتهم، فها هو ذا حماد بن سلمة يقول: (كنت أقلب على ثابت البناني حديثه وكانوا يقولون: القُصّاص لا يحفظون، وكنت أقول لحديث أنس: كيف حدثك عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فيقول: لا، إنما حدثناه أنس، وأقول لحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى: كيف حدثك أنس؟ فيقول: لا إنما حدثناه عبد الرحمن بن أبي ليلى) ولهذا كان حماد يقول: (قلبت أحاديث على ثابت البناني فلم تنقلب، وقلبت على أبان بن أبي عياش فانقلبت).
الشرط الرابع: سلامة الرواية من العلة: والعلة: هي سبب غامض خفي قادح في صحة الحديث مع ظهور السلامة منه.
ومعرفة الحديث المعل من أدق علوم الحديث وأغمضها، ولهذا لا يستطيع تمييز العلل إلا الأئمة الجهابذة، وذلك بجمع الطرق، وتتبع مخارجها، وعرضها على بعضها، واستقراء أحوال الرواة، وسبر متون الحديث، ثم تطبيق المعايير النقدية التي وضعها المحدثون.
الشرط الخامس: سلامة الرواية من الشذوذ: والشذوذ هو: التفرّد، والحديث الشاذ هو: ما رواه المقبول مخالفاً من هو أوْلى منه، لكثرة عدد أو زيادة حفظ.
ومعرفة الحديث الشاذ من العلوم الدقيقة جداً، حتى قال ابن حجر: (وهو أدق من المعلل بكثير فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة، ورزقه الله نهاية الملكة).
وتحت كل شرط من هذه الشروط الخمسة توجد تفاصيل وتفريعات كثيرة تراجع في مظانها، وإنما المقصود الإشارة إلى دقة المحدثين في تمييز المرويات، وحرصهم على بيان منازل الرواة.
وكانت نتيجة ذلك أنهم أصبحوا حصوناً واقية، ودروعاً حامية، لا يستطيع عابث أو جاهل أو مفرط أن يُدخِل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منها، ولهذا قال الإمام الثوري: (لو همّ رجل أن يكذب في الحديث، وهو في بيت في جوف بيت لأظهر الله عليه) وها هو ذا إسحاق بن راهويه يقول: (أحفظ أربعة آلاف حديث مزوّرة. فقيل له: ما معنى حفظ المزوّرة؟! قال: إذا مرّ بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فليتُهُ منها فَلْياً).