حسن الظن بالله
أولاً: مفهوم حسن الظن بالله تعالى: هو ظنّ ما يليق بالله تعالى واعتقاد ما يحق بجلاله وما تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا مما يؤثر في حياة المؤمن على الوجه الذي يرضي الله تعالى
ثانياً: بيان أهمية حسن الظن بالله تعالى:
1- أن حسن الظن بالله تعالى من الأمور التي أوصى بها الرسول.
في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل) قال الخطابي رحمه الله في شرح هذا الحديث: (وقد يكون أيضاً حسن الظن بالله من ناحية الرجاء وتأميل العفو) وقال العظيم آبادي في عون المعبود: (أي لا يموت أحدكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة وهي حسن الظن بالله بأن يغفر له؛ فالنهي وإن كان في الظاهر عن الموت؛ لكن في الحقيقة عن حالة ينقطع عندها الرجاء لسوء العمل كيلا يصادفه الموت عليها). قاله عليٌّ القاري ثم قال: وقال النووي في شرح المهذب: (معنى تحسين الظن بالله تعالى أن يظن أن الله تعالى يرحمه ويرجو ذلك بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله تعالى وعفوه وما وعد به أهل التوحيد وما سيبدلهم من الرحمة، يوم القيامة، كما قال سبحانه وتعالى في الحديث الصحيح: (أنا عند ظن عبدي بي) هذا هو الصواب في معنى الحديث وهو الذي قاله جمهور العلماء)
وقد روى أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله عز وجل بسنده عن المعتمر قال: (قال أبي حين حضرته الوفاة: يا معتمر! حدثني بالرخص لعلّي ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به. وروى أيضاً رحمه الله بسنده عن حصين عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه عز وجل)
وعلى هذا فإنه يتبين للناظر في الحديث السابق ومن خلال كلام العلماء حوله وحال السلف رحمهم الله أن حسن الظن بالله تعالى يكون عند احتضار المرء وقرب موته، والصحيح أن حسن الظن بالله أعم من ذلك؛ فإنه مع ما يشمله ويتأكد فيه من حسن الظن بالله عند اقتراب الممات، فإنه يكون أيضاً مع المؤمن طيلة حياته وحتى مماته؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله سبحانه وتعالى يقول: (أنا عند ظن عبدي بي)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح: (أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به) وقال النووي في شرح صحيح مسلم: (قال العلماء: معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه) وقال في موضع آخر حول هذا الحديث أيضاً: (قال القاضي: قيل معناه بالغفران له إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب. وقيل: المراد به الرجاء وتأميل العفو وهو أصح)
إذاً فحسن الظن بالله عز وجل يجب أن يكون صفة المؤمن وسَمته طيلة حياته، ويتأكد أكثر عند مماته حتى يأتيه الموت وهو محب للقاء الله؛ ففي الحديث الصحيح: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)
كما أنه يتبين من خلال ما سبق أن من مفهوم حسن الظن بالله عز وجل ظن ما يليق بالله سبحانه وتعالى من ظن الإجابة والقبول والمغفرة والمجازاة، وإنفاذ الوعد، وكل ما تقتضيه أسماؤه وصفاته سبحانه كما بينا سابقاً؛ ولذا فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في ظن السوء، والظن بالله غير الحق ظن الجاهلية المنافي لحسن الظن بالله، قال: (وإنما كان هذا ظن سوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه)
2- أن حسن الظن بالله تعالى يرتبط ارتباطاً كبيراً بنواحي عقدية وسلوكية متعددة، فهو يرتبط بالتوكل على الله والثقة به؛ حيث إنك لا تتوكل إلا على من تحسن الظن به؛ ولذا فقد جعله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد درجات التوكل فقال: (الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله. والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه، والله أعلم)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (ويكون الراجي دائماً راغباً راهباً مؤملاً لفضل ربه حسن الظن به) وكذا الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه سبحانه كلها تستلزم أن يحسن العبد الظن بربه عز وجل، وكذلك فإن حَسُنَ الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف منه سبحانه حتى لا يفضي إلى الغرور وترك العمل، وقد قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: (من حَسُنَ ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع)
وبهذا يتبين أن حسن الظن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة نواحي اعتقادية سلوكية لدى المؤمن تتعايش مع إيمانه وعبوديته لله سبحانه؛ ولذا كان لزاماً التنبيه لهذا الأمر وتوضيحه.
3- ومما يُجلّي أهمية هذا الأمر واقع الناس وحالهم مع حسن الظن بالله؛ فمن الناس من اتكل على حسن ظنه بربه واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي متناسياً ما توعد الله به من وقع في مساخطه وما يغضبه، وغافلاً عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور.
وعلى النقيض من هذا من ساء ظنه بربه فاعتقد بالله خلاف مقتضى أسمائه وصفاته واقعاً بما وصف الله به الكفار والمنافقين من أنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.
وانظر إلى ابن القيم رحمه الله تعالى عندما يتكلم عن حال الناس في الظن بالله حيث يقول: (فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: (ظلمني ربي ومنعني ما أستحق) ونفسه تشهد عليه لذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر. وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً
4- ومما يبين أهمية هذا الأمر: أثر حسن الظن بالله على المؤمن في حياته وبعد مماته؛ فإن المؤمن حين يحسن الظن بربه لا يزال قلبه مطمئناً ونفسه آمنه تغمرها سعادة الرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه سبحانه (فالقلب المؤمن حَسَنُ الظن بربه يَتوقّع منه الخير دائماً، يتوقع منه الخير في السراء والضراء، ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين؛ وسر ذلك أن قلبه موصول بالله، وفيض الخير من الله لا ينقطع أبداً؛ فمتى اتصل القلب به لمس هذه الحقيقة الأصيلة وأحسها إحساس مباشرة وتذوّق)
بل إن من أحسن الظن بربه وتوكل عليه حق توكله جعل الله له في كل أمره يسراً ومن كل كرب فرجاً ومخرجاً، قال بعض الصالحين: (استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل في كشفها؛ فإن ذلك أقرب إلى الفرج)
كما أن مَنْ أحسن الظن بربه عز وجل فأيقن صدق وعده وتمام أمره وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين، اجتهد نفسه في العمل لهذا الدين العظيم، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله بماله ونفسه غير هياب ولا وجل، بل يُقدِم إقدام الواثق بنصر الله وموعوده وهو يلمح نور الفجر الصادق وقد أطل على هذه الأمة، فلا يعلق آماله إلا بالله سبحانه وتعالى، ولا يتوكل إلا عليه.
ومن أثر حسن الظن بالله على المؤمن أيضاً أنه عندما يسمع ما يخبر به الله تعالى عن نفسه من أنه عفو غفور وتواب رحيم، ويسمع قول نبيه عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)؛ فإنه يطمع بعفوه فيطرق بابه منطرحاً بين يديه راجياً مغفرته، وأن يتوب عليه من معاصيه.
وأما في الآخرة فإنما النجاة في حسن الظن بالله عز وجل؛ ولهذا أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول منازل الآخرة عند حضور الموت فقال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل). وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن إبراهيم قال: (كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه عز وجل)
وإنما عُنِيَ السلف بهذا الأمر؛ لأن من لقي الله سبحانه وتعالى وهو يحسن الظن به في أنه يغفر له ويتوب عليه؛ فإن الله يكون عند ظنه به، ولا يخيّب رجاءه فيه؛ وهذا من أعظم الأثر لحسن الظن بالله؛ إذ ارتبط بالنجاة يوم القيامة.
ثالثاً: السلف وحسن الظن بالله تعالى:
- سعيد بن جبير رحمه الله، كان يدعو: (اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك)
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه؛ ذلك بأن الخير في يده)
- وسفيان الثوري رحمه الله كان يقول: (ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي؛ فربي خير لي من والدي)ويقول عن قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} قال: (أحسنوا بالله الظن)
- كما أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا عن عمار بن يوسف قال: (رأيت حسن بن صالح في منامي فقلت: قد كنت متمنياً للقائك؛ فماذا عندك فتخبرنا به؟ قال: أبشر! فلم أرَ مثل حسن الظن بالله عز وجل شيئاً)
رابعاً: الفرق بين حسن الظن بالله والغرور:
وحيث جاء الأمر بحسن الظن بالله تعالى فإن بعض الناس قد أساء في هذا الأمر وغلا فيه حتى سقط في الغرور جاهلاً بكيفية إحسان الظن بالله تعالى ناسياً أليم عقاب الله سبحانه وغافلاً عن شدة عذابه ومحاسبته لعباده عما اقترفت أيديهم وكسبت نفوسهم.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله [26]، شيئاً من أحوال المغترّين وجهلهم بالله سبحانه فقال: (وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: أستغفر الله، زال الذنب وراح هذا بهذا. وقال لي رجل من المنتسبين إلى الفقه: أنا أفعل ما أفعل ثم أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، وقد غفر ذلك أجمعه، كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّتْ خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ) [27]. وقال آخر من أهل مكة: نحن أحدنا إذا فعل ما فعل ثم اغتسل وطاف بالبيت أسبوعاً قد محي عنه ذلك)، وقال لي آخر: (قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (أذنب عبد ذنباً فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي فغفر الله ذنبه، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر، فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي فقال الله عز وجل: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليصنع ما شاء) [28].
وقال: أنا لا أشك أن لي رباً يغفر الذنب ويأخذ به. وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها، تعلق بها بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء، وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب كقول بعضهم:
وكثّر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
وقول بعضهم: التنزه من الذنوب جهل بسعة عفو الله، وقال الآخر: ترك الذنوب جراءة على مغفرة الله واستصغار لها، وقال محمد بن حزم: رأيت من بعض هؤلاء من يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من العصمة) ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى من هؤلاء المغرورين من يتعلق بمسألة الجبر [29]، والإرجاء [30] أو يغتر بمحبة الفقراء والمشايخ والصالحين أو آبائه وأسلافه، أو يغتر بأن الله عز وجل غني عن عذابه إلى غير ذلك في كلام طويل قيّم يحسن الرجوع إليه حتى قال رحمه الله تعالى: (ومثال اتكال بعضهم على قوله -صلى الله عليه وسلم- حاكياً عن ربه: (أنا عند حسن ظن عبدي فليظن بي ما شاء [31]، يعني ما كان في ظنه فأنا فاعله به، ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان؛ فإن المحسن أحسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، وأن لا يخلف وعده، وأن يقبل توبته، وأما المسيء المصرّ على الكبائر والظلم والمخالفات؛ فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه) ثم قال أيضاً مفرقاً بين حسن الظن بالله والغرور: (وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور وأن حسن الظن إن حَمَل على العمل وحث عليه، وساعده وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور).
فعلى المؤمن مع إحسانه الظن بربه ألا يغفل عن محاسبة الله سبحانه لعباده بعدله وحكمته ومجازاته لهم بما كانوا يعملون حتى لا يقع في الغرور فيوبق نفسه.
خامساً: التحذير من سوء الظن بالله تعالى:
كما أن حسن الظن بالله تعالى يجب أن يكون سمة للمؤمن في حياته يطمئن بها قلبه، فإن عليه أيضاً أن يحذر كل الحذر من سوء الظن بالله تعالى أو ظن ما لا يليق به جل وعلا والذي جعله الله سبحانه صفة للكفار والمنافقين، فقال تعالى: ] وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [ [الفتح: 6].
قال الألوسي: (أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أن الله عز وجل لا ينصر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقيل المراد به، ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك وغيره) [32].
وقال الشيخ السعدي رحمه الله حول هذه الآية: (وذلك أنه لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد حتى يعتقد جميع ما أخبر به أن يفعله، وما وعد به من نصر الدين وإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ فاعتقاد هذا من الإيمان، وطمأنينة القلب بذلك من الإيمان، وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية النافية للتوحيد؛ لأنها سوء ظن بالله، ونفي لكماله وتكذيب لخبره، وشك في وعده، والله أعلم ) [33].
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: عند قوله سبحانه: ] ذَلِكَ ظَنُّ الَذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ [ص: 27]. قال: (يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا فله النار) وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أرداه وجعله من الخاسرين وجعل النار مثواه، وذلك في قوله تعالى: ] وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ…. [ [فصلت: 22، 23]. وبعد هذا فكيف يستسيغ المؤمن أن يظن بربه ظن السوء وظن ما لا يليق بجلاله سبحانه وهو يعلم أن هذا من صفة الكفار والمنافقين؟ وهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يجعل سوء الظن بالله من أسباب ارتكاب المحرمات، فيقول: (ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً) [34].
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة وأحوالاً لهذا الظن السيئ في كلام رائع طويل يستحسن الرجوع إليه لمن يريد الزيادة في الموضوع [35].
فلينظر اللبيب إلى نفسه وأحوالها فإن كان يعتريها شيء من سوء الظن بالله تعالى فليبادر بالتوبة إلى الله ومعالجة نفسه من شرورها.
سادساً: كيف نحسن الظن بالله تعالى؟
إن مما يهم معرفته عند الحديث عن حسن الظن بالله تعالى أن نعلم ما هي البواعث التي تدعو إلى إحسان الظن بالله، وتحتم على المؤمن أن يضعها بين عينيه، ويحاسب نفسه على الأخذ بها. فمن هذه البواعث:
1-أن يعلم أن في امتثاله لهذا الأمر استجابة لله تعالى وامتثالاً لأمره ولوصية رسوله عليه الصلاة والسلام كما مرّ في الآيات والأحاديث السابقة. وقد قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [ [الأنفال: 24] قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (فتضمنت هذه الآية أموراً:
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله؛ فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات؛ فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً؛ فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابه لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة) [36] فكفى بهذا باعثاً لكل مؤمن على امتثال كل ما أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام.
2-إدراك أهـمية التعلق بحسن الظن بالله ومدى أثره على سلوك النفس المؤمنة في حياتها وحتى الممات، ومعرفة حال السلف وعظيم تمسكهم بهذا الأمر وحثهم عليه؛ فإن هذا أحرى في الاقتداء بهم وتمثل منهجهم.
3-ومن أهم البواعث والأسباب التي تفضي إلى حسن الظن بالله تعالى: التدبر والتفكر في أسماء الله وصفاته وما تقتضيه من معاني العبودية والإخلاص.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (والأسماء الحسنى، والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين؛ فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح [37].