خطب الجمعة

حق اليهود في فلسطين

خطبة يوم الجمعة 28/6/1431 الموافق 11/6/2010

1ـ القدس في الاعتقاد الإسلامي، لها مكانة دينية مرموقة، اتفق على ذلك المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فهو إجماع الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها. ولا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس، والغيرة عليها، والذود عن حماها، وحرماتها ومقدساتها، وبذل النفس والنفيس في سبيل حمايتها، ورد المعتدين عليها. وقد اختلف المسلمون، والعرب، والفلسطينيون في الموقف من قضية السلام مع إسرائيل، هل يجوز أو لا يجوز؟ وإن جاز، هل ينجح أو لا ينجح؟ ولكنهم جميعا – مسلمين وعربًا وفلسطينيين – لم يختلفوا حول عروبة القدس، وإسلاميتها، وضرورة بقائها عربية إسلامية، وفرضية مقاومة المحاولات الإسرائيلية المستميتة لتهويدها، وتغيير معالمها، ومسخ شخصيتها التاريخية، ومحو مظاهر العروبة والإسلام والمسيحية منها. فللقدس قدسية إسلامية مقدورة، وهي تمثل في حس المسلمين ووعيهم الإسلامي: القبلة الأولى، وأرض الإسراء والمعراج، وثالث المدن المعظمة، وأرض النبوات والبركات، وأرض الرباط والجهاد كما سنبين ذلك فيما يلي:

2ـ القدس: القبلة الأولى: أول ما تمثله القدس في حس المسلمين وفي وعيهم وفكرهم الديني، أنها (القبلة الأولى) التي ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتوجهون إليها في صلاتهم منذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة المحمدية، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، وظلوا يصلون إليها في مكة، وبعد هجرتهم إلى المدينة، ستة عشر شهرًا، حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، أو المسجد الحرام، كما قال تعالى {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وفي المدينة المنورة معلم أثري بارز يؤكد هذه القضية، وهو مسجد القبلتين، الذي صلى فيه المسلمون صلاة واحدة بعضها إلى القدس، وبعضها إلى مكة. وهو لا يزال قائمًا وقد جدد وتُعهد، وهو يزار إلى اليوم ويصلى فيه.

وقد أثار اليهود في المدينة ضجة كبرى حول هذا التحول، ورد عليهم القرآن بأن الجهات كلها لله، وهو الذي يحدد أيها يكون القبلة لمن يصلى له، {سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قل: لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} إلى أن يقول {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله، وما كان الله ليضيع إيمانكم} فقد قالوا: إن صلاة المسلمين تلك السنوات قد ضاعت وأهدرت، لأنها لم تكن إلى قبلة صحيحة، فقال الله {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم، لأنها كانت صلاة إلى قبلة صحيحة مرضية عنده

3ـ القدس: أرض الإسراء والمعراج: وثاني ما تمثله القدس في الوعي الإسلامي أن الله تعالى جعلها منتهى رحلة الإسراء الأرضية، ومبتدأ رحلة المعراج السماوية؛ فقد شاءت إرادة الله
الله أن تبدأ هذه الرحلة الأرضية المحمدية الليلية المباركة من مكة ومن المسجد الحرام، حيث يقيم الرسول صلى الله عليه وسلم وأن تنتهي عند المسجد الأقصى، ولم يكن هذا اعتباطًا ولا جزافا، بل كان ذلك بتدبير إلهي ولحكمة ربانية، وهي أن يلتقي خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسل الكرام، ويصلي بهم إمامًا، وفي هذا إعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بني إسرائيل إلى أمة جديدة، ورسول جديد، وكتاب جديد: أمة عالمية، ورسول عالمي، وكتاب عالمي، كما قال تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقال سبحانه {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرً}

لقد نص القرآن على مبتدأ هذه الرحلة ومنتهاها بجلاء في أول آية في السورة التي حملت اسم هذه الرحلة (سورة الإسراء) فقال تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} والآية لم تصف المسجد الحرام بأي صفة مع ماله من بركات وأمجاد، ولكنها وصفت المسجد الأقصى بهذا الوصف {الذي باركنا حوله} وإذا كان ما حوله مباركًا، فمن باب أولى أن يكون هو مباركًا

وقصة الإسراء والمعراج حافلة بالرموز والدلالات التي توحي بأهمية هذا المكان المبارك، الذي ربط فيه جبريل البراق، الدابة العجيبة التي كانت وسيلة الانتقال من مكة إلى القدس، وقد ربطها بالصخرة حتى يعود من الرحلة الأخرى، التي بدأت من القدس أو المسجد الأقصى إلى السماوات العلا، إلى “سدرة المنتهى”، وقد أورث ذلك المسلمين من ذكريات الرحلة: الصخرة، وحائط البراق.

لو لم تكن القدس مقصودة في هذه الرحلة، لأمكن العروج من مكة إلى السماء مباشرة، ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمر مقصود، كما دل على ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

ومن ثمرات رحلة الإسراء: الربط بين مبتدأ الإسراء ومنتهاه، وبعبارة أخرى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا الربط له إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المسلم وضميره ووجدانه، بحيث لا تنفصل قدسية أحد المسجدين عن قدسية الآخر، ومن فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر.

4ـ القدس ثالث المدن المعظمة
والقدس ثالث المدن المعظمة في الإسلام. فالمدينة الأولى في الإسلام هي مكة المكرمة، التي شرفها الله بالمسجد الحرام. والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة، أو المدينة المنورة، التي شرفها الله بالمسجد النبوي، والتي ضمت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمدينة الثالثة في الإسلام هي القدس أو بيت المقدس، والتي شرفها الله بالمسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وفي هذا صح الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا

فالمساجد كلها متساوية في مثوبة من صلى فيها، ولا يجوز للمسلم أن يشد رحاله، بمعنى أن يعزم على السفر والارتحال للصلاة في أي مسجد كان، إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة. وقد جاء الحديث بصيغة الحصر، فلا يقاس عليها غيرها.
وقد أعلن القرآن عن أهمية المسجد الأقصى وبركته، قبل بناء المسجد النبوي، وقبل الهجرة بسنوات، وقد جاءت الأحاديث النبوية تؤكد ما قرره القرآن، منها الحديث المذكور، والحديث الآخر {الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي} متفق عليه. ومنها، ما رواه أبو ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي المساجد بُني في الأرض أول؟ قال:”المسجد الحرام”، قيل ثم أي؟ قال: “المسجد الأقصى”. والإسلام حين جعل المسجد الأقصى ثالث المسجدين العظيمين في الإسلام، وبالتالي أضاف القدس إلى المدينتين الإسلاميتين المعظمتين: مكة والمدينة، إنما أراد بذلك أن يقرر مبدأ هاما من مبادئه، وهو أنه جاء ليبني لا ليهدم، وليتمم لا ليحطم، فالقدس كانت أرض النبوات، والمسلمون أولى الناس بأنبياء الله ورسله.

5ـ القدس أرض النبوات والبركات
والقدس جزء من أرض فلسطين، بل هي غرة جبينها، وواسطة عقدها، ولقد وصف الله هذه الأرض بالبركة في خمسة مواضع في كتابه.

أولها: في آية الإسراء حين وصف المسجد الأقصى بأنه )الذي باركنا حوله(
وثانيها: حين تحدث في قصة خليله إبراهيم، فقال )ونجيناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين( وثالثها: في قصة موسى، حيث قال عن بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وجنوده )وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا(  ورابعها: في قصة سليمان وما سخر الله له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده، ومنه تسخير الريح، وذلك في قوله تعالى )ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها(
وخامسها: في قصة سبأ، وكيف منّ الله عليهم بالأمن والرغد، قال تعالى )وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأيامًا آمنين( فهذه القرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام وفلسطين. قال المفسر الآلوسي: المراد بالقرى التي بورك فيها: قرى الشام، لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها. وعن ابن عباس: هي قرى بيت المقدس، وقال ابن عطية: إن إجماع المفسرين عليه

وقد ذهب عدد من مفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله تعالى {والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين} إلى أن التين والزيتون يقصد بهما الأرض أو البلدة التي تنبت التين والزيتون، وهي بيت المقدس

قال ابن كثير: قال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيًا مرسلاً من أولى العزم، أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محل التين والزيتون، وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، والثاني: طور سيناء، الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنًا. وبهذا التفسير أو التأويل، تتناغم وتنسجم هذه الأقسام، فإذا كان البلد الأمين يشير إلى منبت الإسلام رسالة محمد، وطور سينين يشير إلى منبت اليهودية رسالة موسى، فإن التين والزيتون يشير إلى رسالة عيسى، الذي نشأ في جوار بيت المقدس، وقدم موعظته الشهيرة في جبل الزيتون

أرض الرباط والجهاد
والقدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد. فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصى، وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه، من المبشرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وستكون للمسلمين، وسيشدون الرحال إلى مسجدها، مصلين لله متعبدين. وقد فتحت القدس –التي كانت تسمى إيلياء – في عهد الخليفة الثاني في الإسلام عمر بن الخطاب، واشترط بطريركها الأكبر صفرونيوس ألا يسلم مفاتيح المدينة إلا للخليفة نفسه، لا لأحد من قواده، وقد جاء عمر من المدينة إلى القدس في رحلة تاريخية مثيرة، وتسلم مفاتيح المدينة، وعقد مع أهلها من النصارى معاهدة أو اتفاقية معروفة في التاريخ باسم “العهد العمري” أو “العهدة العمرية” أمنهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وشهد على هذه الوثيقة عدد من قادة المسلمين، أمثال: خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان

وقد أعلم الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأرض المقدسة سيحتلها الأعداء، أو يهددونها بالغزو والاحتلال، ولهذا حرض أمته على الرباط فيها، والجهاد للدفاع عنها حتى لا تسقط في أيدي الأعداء، ولتحريرها إذا قدر لها أن تسقط في أيديهم. كما أخبر عليه الصلاة والسلام بالمعركة المرتقبة بين المسلمين واليهود، وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين عليهم، وأن كل شيء سيكون في صف المسلمين حتى الحجر والشجر، وأن كلا منهما سينطق دالاً على أعدائهم، سواء كان نطقًا بلسان الحال أم بلسان المقال. وقد روى أبو أمامة الباهلي عن النبي r أنه قال {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك”، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس}

5ـ هل لليهود حق في فلسطين؟ سؤال يبدو غريباً طرحه في مجلس ذكر في يوم جمعة!! ولكن الغرابة ستزول إذا علم الناس أن رئيس ما يسمى بالسلطة الوطنية الفلسطينية في لقائه بنحو من ثلاثين شخصية يهودية أمريكية مثل لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) ومؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الكبرى قال: إننا لا ننكر حق اليهود في أرض فلسطين!! سبحان الله إن المرء لا ينقضي عجبه حين يسمع أن الذي يفاوض اليهود يقول مثل هذا الكلام؛ فعلام يفاوض إذن؟ وعن أي حق يدافع؟ إن استئساد اليهود واستهانتهم بدماء أهل فلسطين ليس مستغرباً إذن ما دام الرأس قد بلغت به درجة الهوان والخيانة أن يقول مثل هذا الكلام الساقط، وقد قيل:

تعدو الذئاب على من لا كلاب له                        وتتقي صولة المستأسد الحامي

6ـ إن لليهود والصهاينة دعاوى عريضة، يزعمون بها أن لهم حقًا في القدس أو في فلسطين كلها، وهم يتبجحون بهذه الدعاوى، التي لا سند لها من الدين ولا من التاريخ، وإن أسندوها زورًا إلى الدين وإلى التاريخ.

لا حق لليهود في القدس ولا في فلسطين:

ونؤكد هنا بما لا يدع مجالاً للشك: أن القدس عربية إسلامية، كما أن فلسطين كلها عربية إسلامية، وليس لليهود فيها أي حق، حتى يسلبوها من أهلها، ويحولوها إلى عاصمة لدولتهم القائمة على الاغتصاب والعدوان.

إن اليهود يزعمون أن لهم حقًا تاريخيًا، وحقًا دينيًا في فلسطين، والواقع أنهم مغتصبون لأرض غيرهم، وليس لهم أدنى حق في هذه الأرض، لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية الدينية. كما سنبين ذلك فيما يلي.

مناقشة عامة:

وقبل أن ندخل في مناقشة الحق المزعوم لليهود في فلسطين تود أن تسألهم: لماذا لم يظهر هذا الحق طوال القرون الماضية؟ بل لماذا لم يظهر في أول الأمر عند ظهور الصهيونية السياسية المنظمة على يد (هرتزل)؟ فمن المعروف أن فلسطين لم تكن هي المرشحة لتكون الوطن القومي لليهود. بل رشحت عدة أقطار في أفريقيا وأمريكا الشمالية كذلك ولم تظهر فكرة فلسطين – باعتبارها أرض الميعاد – إلا بعد فترة من الزمن.
لقد حاول هرتزل الحصول على مكان في (موزمبيق) ثم في (الكنغو) البلجيكي. كذلك كان زملاؤه في إنشاء الحركة الصهيونية السياسية، فقد كان “ماكس نوردو” يلقب بالإفريقي، و”حاييم وازيمان” بالأوغندي، كما رشحت (الأرجنتين) عام 1897 و (قبرص) عام 1901، و (سيناء) في 1902 ثم (أوغندا) مرة أخرى في 1903 بناء على اقتراح الحكومة البريطانية. وأصيب هرتزل بخيبة أمل كبيرة لأن اليهود في العالم لم ترق لهم فكرة دولة يهودية سياسية، سواء لأسباب أيديولوجية أو لأنهم كانوا عديمي الرغبة في النزوح عن البلاد التي استقروا فيها. بل إن مؤتمر الحاخامات الذي عقد في مدينة فيلادلفيا في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر أصدر بيانًا يقول: إن الرسالة الروحية التي يحملها اليهود تتنافى مع إقامة وحدة سياسية يهودية منفصلة! وإزاء هذا فكر “هرتزل” في طريقة يواجه بها هذا الوضع، وهداه تفكيره إلى أن يحول الموضوع إلى قضية دينية يلهب بها عواطف جماهير اليهود..  ورأى أن فلسطين هي المكان الوحيد الذي يناسب هذه الدعوة الجديدة، ولليهود بفلسطين علائق تاريخية ولهم فيها مقدسات دينية، وارتفعت راية الدين على سارية المشروع والتهبت العواطف، وانتصر رأي “هرتزل” وإن يكن بعد وفاته، فقد احتضن المؤتمر اليهودي العالمي فكرة الوطن اليهودي في فلسطين عام 1905، بعد موته بسنة.

دعوى الحق التاريخي
من المعروف تاريخيًا: أن أول من بني القدس هم “اليبوسيون” وهم قبيلة من قبائل العرب القدامى، نزحت من شبه الجزيرة العربية مع الكنعانيين، وذلك منذ نحو ثلاثين قرنًا قبل الميلاد، وكانت تسمى “أورشالم” أو مدينة “شالم”، وهو إله اليبوسيين، كما احتفظت باسمها الأول “يبوس” نسبة إلى القبيلة، وقد ورد ذكر هذا الاسم في التوراة.
وبعد ذلك سكن القدس وسكن فلسطين عامة: العرب الكنعانيون وغيرهم قرونًا وقرونًا، إلى أن جاءها إبراهيم عليه السلام مهاجرًا من وطنه الأصلي بالعراق، غريبًا، وقد دخل فلسطين هو وزوجه سارة، وعمره ـ كما تقول أسفار العهد القديم ـ (75) سنة.
ولما بلغ 100 سنة ولد له إسحاق، ومات إبراهيم وعمره (175) سنة، ولم يمتلك شبرًا من فلسطين، حتى إن زوجه سارة لما ماتت طلب من الفلسطينيين لها قبرًا  تدفن فيه.
ولما بلغ إسحاق (60) سنة ولد له يعقوب، ومات إسحاق وعمره (180) سنة، ولم يملك شبرًا أيضًا منها.

ارتحل يعقوب بذريته بعد أبيه إلى مصر، ومات بها وعمره (147) سنة، وكان عدد بنيه وأولادهم (70) نفسًا لما دخلها، وكان عمره (130) سنة، ومعنى هذا أن المدة التي عاشها إبراهيم وابنه إسحاق، وحفيده يعقوب في فلسطين: (230) سنة، وقد كانوا فيها غرباء لا يملكون من أرضها ذراعًا ولا شبرًا.
وتقول التوراة: إن المدة التي عاشها بنو إسرائيل بمصر حتى أخرجهم موسى: (430) سنة، كانوا أيضًا غرباء لا يملكون شيئًا، كما تقول التوراة: إن المدة التي عاشها موسى وبنو إسرائيل في التيه بسيناء (40) سنة، أي أن العهد الذي صدر إليهم من الله مضى عليه حينذاك (700) سبعمائة سنة، وهم لا يملكون في فلسطين شيئًا.
ومات موسى ولم يدخل أرض فلسطين، إنما دخل شرقي الأردن ومات بها والذي دخلها بعده: يشوع (يوشع)، ومات بعد ما أباد أهلها (كما تقول التوراة). وقسم الأرض على أسباط بني إسرائيل، ولم يقُم لبني إسرائيل ملك ولا مملكة، وإنما قام بعده قضاة حكموهم (200) سنة، ثم جاء بعد القضاة حكم الملوك: شاؤول وداود وسليمان، فحكموا (100) سنة، بل أقل، وهذه هي مدة دولتهم، والفترة الذهبية لهم. وبعد سليمان انقسمت مملكته بين أولاده: يهوذا في أورشليم، وإسرائيل في شكيم (نابلس(، وكانت الحرب بينهما ضروسًا لا تتوقف، حتى جاء الغزو البابلي فمحقهما محقًا، دمر الهيكل وأرشليم، وأحرق التوراة، وسبى كل من بقي منهم حيًا، كما هو معلوم من التاريخ.

ويعلق على ذلك الشيخ عبد المعز عبد الستار في كتابه (اقترب الوعد الحق يا إسرائيل) قائلاً: فلو جمعت كل السنوات التي عاشوها في فلسطين غزاة مخرّبين، ما بلغت المدة التي قضاها الإنجليز في الهند أو الهولنديون في إندونيسيا! فلو كان لمثل هذه المدة حق تاريخي لكان للإنجليز والهولنديين أن يطالبوا به مثلهم

ولو كانت الأرض تملك بطول الإقامة في زمن الغربة، لكان الأولى بهم أن يطالبوا بملكية مصر التي عاشوا فيها (430) سنة بدل فلسطين التي عاش فيها إبراهيم وأولاده (200) سنة أو تزيد قليلاً ودخلوها شخصين وخرجوا (70) نفسًا!
لكن هؤلاء اليهود لا يدعون الحق في امتلاك أرض فلسطين وحدها، وإنما يدعون الحق في امتلاك الكرة الأرضية كلها.

الله تعالى يقول والأرض وضعها للأنام(  أي لجميع الخلق، وهؤلاء يقولون: (حين قسم العلي الأمم وفرق بني آدم وضع تخوم الأرض على عدد أسباط بني إسرائيل)، ويقولون كما جاء في سفر يشوع: (كل موضع تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم)، فعلى مقتضى هذا المبدأ والقانون يكون من حقهم أن يطالبوا بمصر وكل أرض وطئوها.

بل في نكبة (5 يونيو 1967) سأل مندوب الأسوشيتدبرس جنديًا إسرائيليًا: ما هي حدود دولة إسرائيل؟ فأجابه بكل صلف وغرور: حيث أضع قدمي، وضرب بحذائه الأرض
إن الحق التاريخي الذي يدعونه ـ كما يقول الشيخ عبد المعز ـ خرافة وصلافة، فهم لم يقيموا في فلسطين إلا غرباء، كما تصرح بذلك الأسفار، فهل للغريب أو عابر السبيل أن يدعي ملكية الأرض التي أقلته، أو الشجرة التي أظلته، لأنه قال تحتها ساعة من نهار؟ على أنهم لم يقيموا بها آمنين عاملين مستثمرين، وإنما أقاموا في سلسلة متصلة من الغارات الدامية، والحروب الدائرة التي لم تتوقف فيما بينهم بعضهم وبعض “يهوذا وإسرائيل”، وفيما بينهم وبين الفلسطينيين.

وقد بلغ عدد من قتلوا من الفلسطينيين مائتي ألف قتيل، وعدد من قتلهم داود وحده بعد ذلك أكثر من (100) ألف قتيل، ـ حسب قول كتبهم ـ ثم دهاهم الغزو البابلي فبددهم.
على أنهم لم يكادوا ينفكون من الغزو البابلي، حتى جاءهم الغزو الروماني فأباد خضراءهم ومزقهم كل ممزق، ثم جاء الفتح الإسلامي وهم مشردون في الأرض، محّرمٌ عليهم أن يقيموا في أورشليم، حتى إن البطريك صفرنيوس بطريرك القدس شرط على أمير المؤمنين عمر وهو يسلمه مفاتيح القدس؛ ألا يسمح لليهود بدخول إيليا أو الإقامة فيها.

لقد دخلها العرب وهي خالية من اليهود، بعد ما طردهم الرومان، وأسلم أهلها، وبقي العرب فيها أكثر من ألف وأربعمائة عام، أفلا يكون لهم حق تاريخي مثل اليهود؟

مناقشة هادئة
ونضيف إلى هذه الحقائق مناقشة هادئة نتمم بها إبطال دعوى الحق التاريخي التي زعم بها اليهود أن فلسطين كلها كانت أرض الآباء والأجداد.
يقول مؤلف (تاريخ اليهود):
” والذي لا شك فيه أن داود ـ الذي يقال: إن مملكة إسرائيل وصلت في عهده إلى أقصى درجات اتساعها ـ لم يتمكن من فرض سيطرته، لا على المنطقة بين النيل والفرات، ولا على أرض كنعان وحدها، ولا حتى على منطقة شرق فلسطين الجبلية، وعلى ذلك فإن الأدلة التاريخية تؤكد أن أكبر رقعة استطاعت إسرائيل السيطرة عليها في أي وقت من الأوقات لم تكن في العصور القديمة، وإنما في العصر الحديث، عند احتلالها مجمل أرض فلسطين ومرتفعات الجولان وجنوب لبنان وأرض سيناء، وكان ذلك للمرة الأولى (عام 1967م).
فلم يكن لبني إسرائيل وجود ـ أيام داود ـ لا في أي موقع بالساحل الفلسطيني، ولا في الجليل بشمال فلسطين، بخلاف موقع صغير عند تل القاضي، ولا في صحراء النقب في الجنوب، وكان وجودهم عندئذ منحصرًا في بعض المواقع الجبلية في المنطقة الممتدة من دان “تل القاضي” في الشمال إلى “بئر سبع” في الجنوب.
وسوف نرى كيف أن الكهنة الذين أعادوا صياغة كتب” العهد القديم” وهم في بابل خلال القرن السادس ق. م، استعاروا من الكتابات المصرية قصة حروب تحتمس الثالث، أعظم ملوك العالم القديم، لتكوين الإمبراطورية المصرية بين النيل والفرات ـ كما نجدها منقوشة على جدران معبد الكرنك ـ وأضافوها إلى رواية ملكهم داود، بل حتى لم يحاولوا مزج الجزء الذي استعاروه من المصادر المصرية، وأدخلوه كما هو من دون تعديل كبير في وسط الرواية الرئيسية، فظهر واضحًا أنه لا علاقة له بباقي القصة، فنحن نجد داود بني إسرائيل ومعه جيشه المكون من (600) رجل يحاولون في صراع داخلي بين القبائل الإسرائيلية، أو مع الفلسطينيين، وفجأة نجد تفاصيل معركة كبيرة تخوضها جيوش منظمة في مواقع محصنة عدة من أرض الهلال الخصيب، ولم يكن صدق الرواية التاريخية يهم الكهنة في شيء، وإنما كان هدفهم الرئيسي من ادعاء هذه الانتصارات الجبارة هو حث بني إسرائيل على ترك عبادة الأصنام والعودة إلى ديانة موسى، حتى ينصرهم ربهم على أعدائهم

ولا بد لنا أن نذكر ـ ولو بإيجاز ـ ما صنعه البابليون والرومان ببني إسرائيل، الذين سلطهم القدر عليهم لتأديبهم، جزاء إفسادهم في الأرض وطغيانهم بغير الحق.
ففي عام (597 ق. م) زحف الملك البابلي “نبوخذ نصر” على أورشليم، وأخذ معظم سكّانها أسرى إلى بابل. وبتحريض من مصر ثارت البقية من سكان المدينة على سادتهم الجدد. فقدم ملك بابل بنفسه وفرض على أورشليم حصارًا استمر عامين    (588 ق. م)، واستسلمت المدينة على أثره ودمرت، ولم يترك البابليون فيها إلا الضعفاء” أما بقية أهلها فقد سيقوا في الأسر إلى نهر الفرات.

ومنذ ذلك الوقت ـ كما يقول الأستاذ محمد صبيح ـ انتهى وجود اليهود في فلسطين كحكومة لها سلطة وشعب يتبعها. وبقي لهم المعنى الديني، وهو أنهم شعبة من القبائل، تنتسب لإبراهيم الخليل صلوات الله عليه.

هذه هي خاتمة اليهود في أورشليم، أي فيما كان يسمى مملكة إسرائيل التي   أنشأها داود عليه السلام… ثم انقسمت من بعده إلى يهوذا، وإسرائيل.. وقد حكم في أورشليم من بعد سليمان عشرون ملكًا حتى ابتداء السبي البابلي، وذلك في الفترة من عام (930 ق.م) (وفاة سليمان) حتى عام (586 ق.م)
أما المملكة الشمالية، التي كان اسمها إسرائيل، وعاصمتها شكيم (نابلس)، فقد حكمها الابن الثاني لسليمان الحكيم، أي عام (930 ق.م) وانتهى وجودها سريعًا. ففي عام (722 ق.م) أغار عليها سرجون الثاني ملك بابل، ودمر وجودها، ونقل جميع أهلها إلى شرق الفرات، وأحل محلهم سكانًا جددًا من أبناء الرافدين. وكان عدد ملوك إسرائيل هذه تسعة عشر ملكًا، عاشوا في شغب، ومحالفات خائبة مع الوثنيين لمهاجمة أبناء عمومتهم في أرشليم.

وإذا حسبنا عمر هاتين الدولتين، تكون أورشليم (يهوذا) قد عُمِّرت (434) سنة بما فيها ملك شاول وداود وسليمان (وإسرائيل) عٌمِّرت (298) سنة فقط، منذ عهد شاول (1020 ق.م(.

وكما نرى فإن سيادة اليهود على قطعة محدودة من أرض فلسطين انتهت قبل ميلاد المسيح عليه السلام بحوالي ستة قرون، وبعد خمسة وعشرين قرنًا وبعض قرن، يحاولون أن يعيدوا هذا التاريخ السحيق مرة أخرى، ويا له من تاريخ، ويا لها من عودة!
ونحن هنا نتحدث عن “السيادة” على قطعة من الأرض ونهايتها. أما ختام الوجود اليهودي في فلسطين فقد تأخر بعض الوقت.. تأخر إلى عهد الرومان إلى عام (70م)، كما سنرى فيما بعد.

حديث القرآن عن إفساد بني إسرائيل وعقوبتهم
وقد تحدث القرآن الكريم عن هاتين النهايتين: تدمير سيادتهم بالأسر البابلي، وإنهاء وجودهم بالسحق الروماني، وذلك في الآيات الكريمة:

{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين، ولتعلن علوًا كبيرا}
فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولى بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً}.
{ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين، وجعلناكم أكثر نفيرًا}.
{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة، ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوا أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرًا . عسى ربكم أن يرحكم، وإن عدتم عدنا} الإسراء: 4 ـ 8

آيات سورة الإسراء ورأي بعض علماء العصر:
وقد ذهب بعض علماء العصر مثل الشيخ الشعراوي والشيخ عبد المعز عبد الستار وغيرهما إلى أن المرة الأولى في إفساد بني إسرائيل كانت في عصر النبوة بعد البعثة المحمدية، وهي ما قام به بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وأهل خيبر، من كيد وبغي على الرسول وأصحابه، وقد نصرهم الله عليهم.
وكان العباد المسلطون عليهم هم النبي والصحابة. بدليل مدح هؤلاء بإضافتهم إلى الله بقوله (عبادًا لنا). أما إفسادتهم الثانية فهي ما يقومون به اليوم من علو كبير وطغيان عظيم، وانتهاك للحرمات، وإهدار للحقوق، وسفك الدماء، وغيرها.
وسيتحقق وعد الله تعالى بتأديبهم وعقوبتهم وتسليط المسلمين عليهم كما سلطوا من قبل.

تفنيدنا لهذا الرأي وأدلة ذلك:
ورأيي أن هذا التفسير ضعيف لعدة أوجه:
أولاً: أن قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} أي أنهينا إليهم وأعلمناهم في الكتاب، والمراد به: التوراة، كما قال قبلها: {وآتينا موسى الكتاب} وما جاء في الكتاب أي أسفار التوراة يدل على أن هاتين المرتين قد وقعتا، كما في سفر تثنية الاشتراع.
ثانيًا: أن قبائل بني قينقاع والنضير وقريظة لا تمثل بني إسرائيل في قوتهم وملكهم، إنما هم شرائح صغيرة من بني إسرائيل بعد أن قطَّعوا في الأرض أمما.
ثالثًا: أن الرسول والصحابة لم يجوسوا خلال ديار بني إسرائيل، ـ كما أشارت الآية الكريمة ـ إذ لم تكن لهم ديار، وإنما هي ديار العرب في أرض العرب.
رابعًا: أن قوله تعالى (عبادًا لنا) لا يعني أنهم من عباده الصالحين، فقد أضاف الله تعالى الكفار والعصاة إلى ذاته المقدسة، كما في قوله تعالى: {أأنتم أضللتهم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} الفرقان: 17
وقوله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الزمر: 53
خامسًا: أن قوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا} الإسراء: 6 يتضمن امتنان الله تعالى عليهم بذلك، والله تعالى لا يمتن على بني إسرائيل بإعطائهم الكرة على المسلمين.
سادسا: أن الله تعالى إنما رد الكرة لبني إسرائيل على أعدائهم بعد أن عاتبهم في المرة الأولى، لأنهم أحسنوا وأصلحوا، كما قال تعالى:{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} واليهود –كما عرفناهم وشاهدناهم- لم يحسنوا ولم يصلحوا قط، ولذا سلط الله عليهم هتلر وغيره. كما يبتلي ظالما بظالم. وهم منذ نحو مائة سنة يمكرون بنا ويتآمرون علينا، ليسرقوا أرضنا، فمتى أحسنوا حتى يرد الله لهم الكرة علينا؟؟
سابعا: أن الله تعالى قال في المرة الآخرة {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيرًا} الإسراء:7
والمسلمون لم يدخلوا مسجدهم قبل ذلك بالسيف والقهر ولم يتبروا ما علوا تتبيرًا، بل لم يكن شأن المسلمين أبدًا التتبير والتدمير في حروبهم وفتوحهم. إنما هو شأن البابليين والرومان الذين سلطوا على الإسرائيليين.
ثامنًا: أن ما أجمع عليه المفسرون القدامى أن مرتي الإفساد قد وقعتا، وأن الله تعالى عاقبهم على كل واحدة منهما، وليس هناك عقوبة أشد وأنكى عليهم من الهزيمة والأسر والهوان والتدمير على أيدي البابليين الذين محوا دولتهم من الوجود، وأحرقوا كتابهم المقدس، ودمروا هيكلهم تدميرًا، وكذلك ضربة الرومان القاصمة التي قضت على وجودهم في فلسطين قضاء مبرما، وشردتهم في الأرض شذر مذر، كما قال تعالى: {وقطعناهم في الأرض أممًا} الأعراف: 168
والواضح أنهم اليوم يقعون تحت القانون الإلهي المتمثل في قوله تعالى: {وإن عدتم عدنا} الإسراء: 8 وهاهم قد عادوا إلى الإفساد والعلو والطغيان، وسنة الله تعالى أن يعود عليهم بالعقوبة التي تردعهم وتؤدبهم، وتعرفهم قدر أنفسهم، كما قال الشاعر:

إن عادت العقرب عدنا لها بالنعل والنعل لها حاضرة!

يؤكد ذلك قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} الأعراف:167
وهذا الدمار الأول، الذي تم على أيدي البابليين، وتحدث عنه القرآن الكريم على النحو الذي نراه، كان بالغ التأثير على اليهود . . فقد أزال معظم الوجود اليهودي من فلسطين. وظهر من السهولة التي أجلى بها البابليون سكان (منطقة إسرائيل)، على يد “سرجون” ثم سكان (منطقة يهوذا) على يد “نبوخذ نصر”. أن جذور هؤلاء القوم لم تكن عميقة في أرض فلسطين. وإذا استثنينا المعبد وقصرسليمان، فلا تكاد تذكر لهم آثار خلال تسعة قرون قبل هذا الإجلاء. وكل ما يمكن أن نقوله: إنهم أقاموا في جزء من أرض كنعان، بما فيها من قرى صغيرة . . وحتى المدن كانت أشبه بالقرى، باستثناء أورشليم وشكيم (نابلس) .

الفتح الإسلامي
وقد فتح المسلمون القدس في عهد عمر، كما ذكرنا من قبل، ولم يتسلموها من اليهود، بل لم يكن فيها يهودي واحد، فقد حرمها الرومان عليهم، بعد أن أنهوا وجودهم منذ أكثر من أربعة قرون، وكان من الشروط التي أقرها عمر لبطريك القدس: ألا يساكنهم فيها يهود.
وظل العهد العمري محترمًا معمولاً به خلال التاريخ الإسلامي، لأن المسلمين مأمورون أن يتبعوا سُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، ولا ريب أن عمر منهم، إلى أن ظهر عهد آخر مزور على عمر رضي الله عنه، حذف منه النص بعدم إقامة اليهود في بيت المقدس، ولا ندري متى زور هذا العهد ، ومن ثم بدأ التسلل اليهودي إلى المدينة المقدسة في غفلة من المسلمين.
وقد ذكر لنا تاريخ الحروب الصليبية: ماذا أصاب المدينة المقدسة عندما احتلها الصليبيون، وقتلوا ستين ألفًا في مسجدها، وبقيت تحت أيديهم تسعين عامًا، إلى أن حررها القائد المسلم المظفر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله سنة (1187) بعد انتصاره على الصليبيين في معركة حطين الشهيرة، مكملاً ما بدأه من قبلُ القائدان الكبيران: عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود الشهيد.
ولم يُعر التاريخ التفاتا إلى الوجود اليهودي في فلسطين، ولم يعطهم اهتمامًا، وعاملهم كما يعامل أهل الذمة في دار الإسلام تسامحًا وكرمًا وعدلاً وبرًا.
محاولات الصهيونية الحديثة الضغط على الدولة العثمانية:
ولكن الذي يحفظه التاريخ جيدًا هو محاولات الصهيونية الحديثة الضغط على الدولة العثمانية، وخصوصًا في فترات شيخوختها وضعفها، للسماح لليهود بتملك أجزاء من فلسطين، ولا سيما في عصر السلطان عبد الحميد، الذي وقف موقفًا مشرفًا يحفظه التاريخ ويسجله له بأحرف من نور.
كتب د . حسان حلاق  في صحيفة “النهار” اللبنانية تعقيبًا جيدًا مبنيًا على الحقائق التاريخية قال فيه:
منذ أن تولى السلطان عبد الحميد الثاني السلطنة العثمانية (1876 ـ 1909م) تنبه إلى خطورة إشغال الأراضي الفلسطينية لا سيما من اليهود، لهذا فقد أصدر منذ فترة مبكرة فرمانات سلطانية عدة تمنع إقامة اليهود الدائمة في فلسطين. وفي عام (1882م) صدرت قرارات جديدة بهذا المعنى ردًا على محاولات “جمعية أحباء صهيون” : الحصول على إذن رسمي بالهجرة، وقد حاول في الفترة ذاتها “لورنس أوليفانت” (l . oliphant) أن يوسط استراوس السفير الأمريكي في الآستانة للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، غير أن مساعيه فشلت لدي السلطان والأوساط العثمانية، وكان جواب السلطان عبد الحميد الثاني: “أن اليهود يستطيعون العيش بسلام في أية جهة من المملكة إلا في فلسطين، وأن الدولة العثمانية ترحب بالمضطهدين، ولكنها لا ترحب بإقامة مملكة لليهود في فلسطين يكون أساسها الدين، وعلى اليهود المهاجرين إلى الأراضي العثمانية أن يصبحوا رعايا عثمانيين، وأن يقبلوا تطبيق القوانين المعمول بها في الإمبراطورية”.
لهذا فقد حرص السلطان عبد الحميد على تعيين متصرفين في فلسطين ممن يستطيعون منع الهجرة اليهودية واستقرار اليهود في مدنها، وكان في مقدم هؤلاء متصرف القدس رؤوف باشا (1876 ـ 1888م)، وعندما تيقنت الدولة العثمانية أن بعض الدول الأجنبية تساعد على تسريب اليهود إلى فلسطين أصدر الباب العالي قرارًا في (29 حزيران 1892م) تضمن ضرورة منع الذين يحملون جنسيات أجنبية من الدخول إلى فلسطين، وتكررت هذه الفرمانات، وأبلغت إلى القنصليات الأجنبية، مع استياء الدولة العثمانية من ممارستها في دعمها الهجرة اليهودية.
هذا وقد أكدت وثائق وزارة الخارجية البريطانية (F.O) موقف الدولة العثمانية الصارم ضد الهجرة اليهودية، ومن بينها تقارير ديكسون (Dickson) القنصل البريطاني في القدس حينما أشار في تقرير بتاريخ (14 شباط 1892م) إلى ” أن التعليمات الصادرة من الباب العالي تفيد بأن هجرة اليهود بقصد الاستقرار في فلسطين غير مسموح بها، أما الذين يرغبون في زيارة البلاد كحجاج فسوف يسمح لهم بالإقامة لمدة تراوح بين شهر أو شهرين ينبغي عليهم بعدها مغادرة البلاد”.
لقد حاول الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل أن يحصل على فرمان من السلطان عبد الحميد الثاني للسماح لليهود بهجرة رسمية منظمة، ووسّط لهذه الغاية: البابوية وإنكلترا والنمسا وألمانيا والقوى الأمريكية وبعض الأوساط التركية، ولما تأكد له فشل مساعيه رأى هرتزل ضرورة القضاء على الدولة العثمانية، ومما قاله: ” إن القضاء على الدولة العثمانية أو تقسيمها هو الحل الوحيد لقيام الدولة اليهودية، إنه إذا تم تقسيم تركيا في المستقبل القريب، فسوف تقف الدولة الصهيونية التي تقام في فلسطين حاجزًا، أما إذا قبل السلطان بالمطالب والعروض اليهودية، فهذا مما يبدل سياسة الصهيونية نحوه، فنحن نستطيع أن نسند السلطان سندًا قويًا بالمال إذا هو تخلى لنا عن قطعة أرض لا قيمة كبيرة لها عنده” (يوميات هرتزل 13 نيسان 1896م).
لقد كانت الزيارة الأولى لهرتزل لاسطنبول في (18 حزيران 1896م)، وقد زارها كصحافي وليس كزعيم صهيوني، وكرر زياراته في ما بعد، ولكن من دون جدوى، وأهم تعبير عن موقف الدولة والسلطان عبد الحميد الثاني من المطالب الصهيونية ما دوَّنه هرتزل في يومياته ومذكراته بعد أن صدم من الموقف العثماني. لقد دوّن هرتزل موقف السلطان حينما رد على الوسطاء بما يأتي: ” لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدًا من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها في ما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا . . لا أستطيع أبدًا أن أعطي أحدًا أي جزء منها، ليحتفظ اليهود بملياراتهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين، من دون مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا، ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان” (يوميات هرتزل 19 حزيران 1896م)، ص 378، الترجمة العربية ص 35).
لقد استمر هرتزل حتى وفاته عام (1904م) يحاول الحصول على إذن رسمي بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد فشل في مساعيه جميعها، مما دعاه للتفكير قبل وفاته بضرورة إزاحة السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش حتى يتحقق الحلم الصهيوني، وبالفعل فإن قادة الحركة الصهيونية رأوا ضرورة الارتباط مع القوى الدولية الهادفة إلى السيطرة على الدولة العثمانية وتقسيمها، ومن ثم التعاون مع القوى التركية المعارضة للسلطات الممثلة بجماعة “تركيا الفتاة” وجناحها “الاتحاد والترقي”، وهي الجمعية الطورانية المتعصبة ضد العرب، والعاملة ضد كل ما هو عربي، لهذا كله تجمعت القوى الصهيونية والماسونية والدونمة والقوى الدولية، وبدأت اجتماعاتها المكثفة في خلايا سالونيك للتخطيط لخلع السلطان عن العرش، بعد أن تعذر تحقيق الحلم الصهيوني وهو لا يزال على العرش.
لقد أشارت الوثائق البريطانية والوثائق التركية إلى أن الحقيقة الظاهرة في تكوين ” جمعية الاتحاد والترقي” أنها غير تركية وغير إسلامية، فمنذ إنشائها لم يظهر بين قادتها وزعمائها عضو واحد من أصل تركي خالص، فـ (أنور) باشا مثلاً هو ابن رجل بولندي، وكان (جاويد) من يهود الدونـمة، و (قارصوه) من يهود إسبانيا، وكان (طلعت) باشا بلغاريًا من أصل غجري اعتنق الإسلام ظاهرًا، أما (أحمد رضا) فقد كان نصفه شركسيًا والنصف الآخر مجريًا، كما أن (نسيم روسو) و(نسيم مازلياج) كانا من اليهود ومن العناصر الفاعلة في حركة ” تركيا الفتاة” التي أعدت الثورة ضد السلطان عبد الحميد الثاني.
لقد نجحت هذه القوى مجتمعه في ثورة عام (1908م)، وفي خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش عام (1909)، ودفع السلطان ثمنًا غاليًا نتيجة مواقفه المشرفة من فلسطين ومن العرب. والدولة العثمانية بعد عام (1909م) هي غيرها قبل عام   (1909م)، وكان أحد رموز الحكومة الجديدة ورموز الطورانية (أحمد جمال) باشا الذي عانى منه الشعب اللبناني والسوري في عامي (1915 ـ 1916م)، وهذا الرجل ليس هو سوى وليد الحركة الصهيونية والدونـمة و “الاتحاد والترقي” وهي القوى المعادية للعرب وللعروبة على السواء أ هـ  .
وهي في نفس الوقت معادية كل العداء للإسلام: عقيدته وشريعته ونبيه وقرآنه وحضارته وأمته.
وخلاصة هذا البحث ما قاله صديقنا البحاثة. د. حسان حتحوت: أن اليهود عاشوا في فلسطين فترة محدودة من الزمن، ولكن التاريخ يسجل: أنهم عندما دخلوها، لم يجدوها فارغة، وعندما رحلوا عنها لم يتركوها فارغة ” لقد كان فيها أهلها   ( الفلسطينيون المذكورون في التوراة) قبل اليهود، ومع اليهود، وبعد اليهود، وما زالوا حتى الآن” والحق التاريخي إذن لا يقوم على أساس، والأجدر أن يسمى ( الزيف التاريخي)

دعوى الحق التاريخي

ويزعم اليهود أن لهم حقًا دينيًا في فلسطين. يقول الشيخ عبد المعز:
حدثنا الإمام فقيد الإسلام السيد محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين رحمه الله قال: كنت أرد زيارة للمندوب البريطاني حاكم فلسطين،    فقال لي: إن أمي علمت بوجودك وتود مقابلتك، فقلت له: أهلاً وسهلاً، وجاءت العجوز، فكان أول ما قالته لي: أرجوك ألا تقف ضد إرادة الرب، فقلت لها: يا سيدة، ومن يستطيع أن يقف ضد إرادة الرب؟ قالت: أنت، قلت لها: كيف؟ قالت: لأنك لا تريد أن تعطي اليهود الأرض التي أعطاها الله لهم، قلت: إنها أرضي وبيتي وكيف يعطيها الله لهم وأنا أين أذهب؟ قالت: إنها إرادة الله! ولما انتهت المقابلة قلت لابنها: إن والدتك طيبة متأثرة باليهود، قال: لا، بل نحن البروتستانت نؤمن بهذا والأناجيل تبشر به.
ولما أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض سنة (1939م) تحدد فيه أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين ثار اليهود وسيروا المظاهرات في عواصم أوربا تهتف: الكتاب المقدس لا الكتاب الأبيض يعطينا الحق في فلسطين.
التوراة لا الكتاب الأبيض تعطينا حقنا في فلسطين .
وهذا ما رأيناه أثره بجلاء في مواقف الرؤساء الأمريكيين منذ عهد ترومان، وقرأناه بوضوح في مذكرات “كارتر” الذي أعلن أن تأسيس إسرائيل المعاصرة تحقيق للنبوءة التورانية! ولمسناه في سياسات ريجان وبوش وكلنتون، وهو ما يجسد “البعد الديني المسيحي”  في الصراع الإسرائيلي مع العرب.
وقد أثرت الأديبات اليهودية في تكوين العقيدة المسيحية، ولا سيما لدى البروتستانت، وقد دارت هذه الأديبات حول محاور ثلاثة:
الأول: أن اليهود هم شعب الله المختار، والأمة المفضلة على سائر الأمم.
الثاني: أنّ ثمت ميثاقًا إلهيًا ربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين، وأن هذا الميثاق الذي أعطاه الله لإبراهيم عليه السلام ميثاق سرمدي حتى قيام الساعة.
الثالث: هو ربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح بقيام دولة صهيونية: أي بإعادة تجميع اليهود في فلسطين، حتى يظهر المسيح فيهم.
هذه المحاور الثلاثة هي التي تؤلف اليوم ـ كما ألفت في الماضي ـ قاعدة “الصهيونية المسيحية” التي تربط الدين بالقومية، والتي تسخر الاعتقاد الديني المسيحي لتحقيق مكاسب يهودية

تعتقد الصهيونية المسيحية أن ثلاث إشارات يجب أن تسبق عودة المسيح:
1ـ الإشارة الأولى هي: قيام إسرائيل، وقد قامت سنة (1948م).
2ـ والإشارة الثانية هي: احتلال مدينة القدس، وقد احتلت سنة (1967م).
3ـ والإشارة الثالثة هي: إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى. وهذا ما تعمل له إسرائيل منذ زمن، وما تقوم به من حفريات تحت بنيان المسجد الأقصى، بحجة البحث عن آثار يهودية مطموسة، وفي مقدمتها الهيكل المزعوم.
ومن المعروف أن الهيكل قد دمر من قديم، ورغم بحث اليهود وحفرياتهم لم يعثروا له على أثر، وأعتقد أن تواصل هذه الحفريات يعرّض المسجد العظيم لخطر الانهيار، كما أعتقد أن اليهود يعرفون متى سيحدث ذلك، وهم الذين يحددون ذلك اليوم المشؤوم لا قدر الله.

وقفة متأنية لمناقشة الدعوى اليهودية
وأحب أن أقف وقفة متأنية أمام ما زعمه كتبة “العهد القديم” من نصوص تقول: إن الله وعد إبراهيم u بأن يعطي لنسله أرض فلسطين، وكذلك وعد ابنه إسحاق، ووعد حفيده يعقوب الذي سمَّوْه “إسرائيل”. وعلى هذا الأساس سموا هذه الأرض: أرض الميعاد. في هذه الوقفة نسأل عدة أسئلة:

من هم نسل إبراهيم؟

أولاً: ما المقصود بنسل إبراهيم u؟ أهم أبناؤه من صلبه أم هم أبناؤه الروحيون؟ أعني: الذين يتبعون ملَّته، وينهجون نهجه، ويهتدون بهداه؟ أما أبناؤه وأحفاده من صلبه، فهم ـ مثل أبيهم إبراهيم ـ لم يملكوا من هذه الأرض شبرًا واحدًا. فما المقصود بالأبناء أذن؟

إن المنطق الملائم للنبوة وللخُلة التي تميز بها إبراهيم (خليل الله): أن يكون أولى لناس به من آمن به واتبع هداه، وهذا ما ذكره القرآن حين قال: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} آل عمران: 68. وقال تعالى: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إمامًا، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين} البقرة: 124
بينت الآية أن الإمامة لا تنتقل بالوراثة، وأن الظالمين لا يستحقون عهد الله، لأن ما عند الله ينال بالأعمال لا بالأنساب كما قال رسول الإسلام: “من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه”
وقد برئ إبراهيم من أبيه لما تبين له أنه عدو لله، كما برئ من قومه لما كفروا بالله، كما قال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده} الممتحنة: 4

أليس إسماعيل من نسل إبراهيم؟!

ثانيًا: لو فرضنا أن المراد بنسل إبراهيم أولاده من صلبه، فلماذا حرم أبناء إسماعيل بكره وولده الأول؟ ولماذا انحاز الله ـ الحكم العدل ـ إلى بني إسرائيل ضد بني إسماعيل؟!

لقد ذكرت التوراة ـ في سفر التكوين ـ أن (إسماعيل بن إبراهيم) في أكثر من أثنى عشر موضعًا.
إلا أن الإسرائيليين يقولون: إن إسماعيل ابن الجارية هاجر، وإسحاق ابن الحرة سارة، ولكن أليس كلاهما كان ابن إبراهيم؟ وكلاهما نبيًا رسولاً من عند الله؟ وهل يحرم أولاد الرجل ميراثهم من أبيهم بسبب أمهاتهم؟
وهنا سؤال آخر مهم ـ سأله لهم. د. حسان حتحوت ـ عن أبناء إسرائيل يعقوب ـ الاثني عشر، فقد ذكرت التوراة أن إسرائيل تزوج ابنتي خالته: راحيل وليئة، جاريتيهما: زلبا وبلحا، وقد ولدت الجاريتان سنة من أبناء إسرائيل، فلما اعتبرتموهم من بني إسرائيل، ولم تنقصوا من بنوتهم مثقال ذرة؟ وهنا لا يجدون جوابا.
هذا، وقد استمر التسري بالجواري في بني إسرائيل، فقد ذكرت أسفار العهد القديم أن داود كان له مائة زوجه ومائتان من الجواري، وأما ابنه سليمان فكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة جارية. ولا نزاع في أن هؤلاء الجواري أنجبن أولادا لداود وسليمان، ولا ريب أن أولاد هؤلاء السراري من بني إسرائيل، فما يقول اليهود في ذلك أيضًا؟

أين عدل الله؟!
ثالثًا: كيف يعطي الله ـ الحكم العدل، الذي حرم الظلم على نفسه، وحرمه على عباده ـ أرضًا يملكها أصحابها ملكًا شرعيًا مستقرًا، لفئة من الناس، هم دخلاء على هذه الأرض، غرباء عنها، وأين عدل الله تعالى وقسطه، وهو يحب المقسطين، ولا يحب الظالمين؟

وعد مشروط لم يف اليهود بشرطه
رابعًا: هل هذا الوعد ـ إن صح ـ بمنح هذه الأرض: وعد مطلق أو وعد مشروط؟ وإذا كان مشروطًا فهل تحققت شروطه؟
الذي يقرأ ” الكتاب المقدس” عند النصارى ـ وخصوصًا أسفار العهد القديم، يجد أن وعد الله لنبي إسرائيل إنما هو وعد مشروط، بأن ينفذوا التعاليم، ويحفظوا العهد، ويصونوا أوامر الرب ونواهيه، حتى يكونوا أهلاً لنصر الله وتمكينه، وهذا هو المعقول والملائم للعدالة الإلهية والحكمة الربانية، فإن الله لا يعامل الناس بأنسابهم، بل بأعمالهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى